عمرانيات

مدونة تهتم بقضايا العمران الإنساني بالبحث والترجمة الزائر الكريم: تفضل بزيارة مدونتي الأخرى Mnzoor.blogspot.com Alkasd.blogspot.com

الاثنين، مايو ٠٤، ٢٠٠٩

الثقافة التنظيمية: رؤية نقدية ترجمة

  • Alkasd my other blog
  • خلفية دراسة الثقافة التنظيمية
    قبل الشروع في هذا الجهد لفهم وتحليل مفهوم الثقافة التنظيمية من الضروري إدراك ما الذي أثار الاهتمام بدراسة هذه الظاهرة. وعلى الرغم من أن ثمة اتفاق ضئيل حالياً – كما سنرى – على ما يعنيه - وما يجب أن يعنيه - مفهوم الثقافة، وكيف تجب ملاحظتها وقياسها، وكيف ترتبط بنظريات الصناعة وعلم النفس والتنظيم التقليدية، وكيف يمكن توظيفها في جهودنا لمساعدة المنظمات (سكين 1990، ص.76) على الرغم من ذلك كله فإن ثمة اتفاق واسع وعام على أن هذا المفهوم مشتق ومستعار من حقل "علم الإنسان" أو الأنثربولوجي (ساث ، 1983 و هندراي، 1999). وقد أشار "سكين " – الذي يعرف بأنه واحد من أهم الكتاب في ثقافة الشركة في العالم- بأن المصطلح " استخدمه علماء الأنثروبولوجي للإشارة للأعراق والطقوس التي طورتها المجتمعات على مدار تاريخها.. وعلينا أن نتجنب النماذج السطحية للثقافة، وأن نؤسس رؤيتنا على النماذج الأنثربوبجية الأكثر تركيباً وعمقاً" (1992، ص. 3).
    وعادة ما يتم الاستشهاد بكتاب"جريتز" التأصيلي (1973) في دراسة الأصول الأنثربولوجية لمفهوم الثقافة التنظيمية ومن المهم أن نتذكر أن نظرية التنظيم في الوقت الذي نشر فيه جريتز كتابه كانت قد تطورت - إلى حد كبير- عن النماذج الكلاسيكية التي قدمها "تايلور" (1911) و "فايول" (1949) وصياغات "ماكس فيبر" عن البيروقراطية (1947) لتركز على "نظرية النظم" وما ينتج عنها من "تآزر"، واستمرت لتركز على ما ظل يعرف بمدرسة العلاقات الإنسانية في الإدارة. ونظراً لتأثر هذه المدرسة بدراسات "هاوثرن" التي أجراها "مايو" (1933) وواصفات مفترضات الإدارة التي اقترحها "ماكجريجور" (1960) (والمعنونة بنظرية س ونظرية ص) فقد اعتبرت مدرسة العلاقات الإنسانية قد "أدخلت ما هو اجتماعي إلى دراسة العمل". (باركر، 2000، ص. 32).
    وضمن هذا السياق، وفي أوائل السبعينات كانت الإدارة قد نضجت واستعدت لتطوير وسائل لفهم أفضل للموارد البشرية التي تشكل بقدر كبير المنظمة، وتمثل قدرا كبيراً من نفقاتها، وعادة ما يتم الاستشهاد باقتراح "جريتز" باستخدام منهجية كيفية إثنوجرافية (وصفية) لدراسة الثقافة (لاحظ استخدامه لمفهوم "الوصف المكثف" ص. 3 وهو مفهوم عادة ما يستخدم في أدلة البحث الكيفي ) وتبقى أهمية جريتز في الوصل بين الأنثربولوجي والثقافة التنظيمية:
    "إن هدف الأنثربولوجي هو توسعة عالم خطاب الإنسان وهو الهدف الذي تم له توفيق وتكييف مفهوم سيميائي للثقافة بشكل خاص. فالثقافة كنظم متضافرة من العلامات (أو ما أطلق عليه الرموز) ليست قوة فهي ليست شيئاً يمكن بشكل عرضي عزو الأحداث الاجتماعية والسلوكيات و المؤسسات والعمليات إليه، بل هي سياق يمكن ضمنه وصف هذه الأمور بمهارة ووضوح (أي بشكل مكثف).( ص. 14)
    لم يتوقع "جريتز" (1973) ولا مدرسة العلاقات الإنسانية في الإدارة أن يحدث هذا الانفجار في الاهتمام بحقل الثقافة التنظيمية والذي بدأ في أوائل الثمانينات أوشي (1981) و سكين (1985 و 1992) و بيتر و ووترمان (1982) و ديل و كيندي (1982) وقد طبق هذا الأدب الذي كان ينتمي إلى المنظور الوظيفي إلى حد كبير مفهوم الثقافة على الإنتاجية التنظيمية، بما أنتج كياناً من الأدبيات حول "الرأسمالي السريع" (جي وزملاؤه، 1983) وهو من الكتب الأكثر مبيعاً والتي يمكن وصف مضمونها على النحو التالي:
    ثبت – دون استثناء- أن سيطرة وتماسك الثقافة صفة أساسية للشركات المتميزة بل وكلما كانت الثقافة أقوى وأكثر توجها للسوق كلما قلت الحاجة لأدلة السياسة و مخططات المنظمة والإجراءات والقواعد التفصيلية. ففي هذه الشركات يقوم الناس بما يفترض منهم القيام به في أغلب المواقف لأن القيم المرشدة لهم واضحة في صفاء البلور" (بيتر و وترمان ، 1982).
    تمثل سياق نجاح أدبيات الثقافة التنظيمية تجارياً في الثمانينات في نجاح اليابانيين الظاهر في إدارة شركاتهم بشكل مربح. وحاول اغلب هذه الأدبيات تطبيق الثقافة اليابانية على المنظمات الأمريكية.
    لكن ذلك لم يمنع ظهور الانتقادات لمحاولة تطبيق المفاهيم الأنثروبولوجية في السياقات التنظيمية، فـ "جريتز" نفسه (1973) حذر بأن "أشد ضرورات فهم ماهية التفسير الأنثربولوجي وإلى أي درجة يفسر هو الفهم الدقيق لما تعنيه وما لا تعنيه، أي أنه لابد أن تكون صياغتنا لأنساق رموز للآخرين ذات توجه متمحور حول الفاعل" ص. 14. ووجه "هندراي" نقداً آخر (1999) :
    " على الرغم من أن مفهوم الثقافة التنظيمية مشتق من مرادفه الأنثربولوجي ...فإن فإن سياق المنظمة شديد الاختلاف عن سياق المجتمعات الذي يعنى به الأنثربولوجيين والمنظرين الاجتماعيين فالمنظمات تتميز بالغرضية ومشيدة بشكل مقصود بطرق لا تعرفها المجتمعات وعلى حين تحيط المجتمعات بحيوات أفرادها فإن المنظمات شأنها شان غيرها من المؤسسات معنية بشكل مباشر بأجزاء محددة من هذه الحيوات وفي ظل هذه الظروف لابد من إجراء أية محاولة لتطبيق النظريات المشتقة من الأنثربولوجيا على المنظمات المعاصرة بأقصى ما يمكن من الحذر. ص. 557-558.
    وبهذه المحاذير، ومع إدراك دور الأنثروبولوجي
    في تطور مفهوم الثقافة التنظيمية في الوقت نفسه، تسعى هذه الدراسة لفهم أدبيات النماذج المعرفية الأساسية للثقافة التنظيمية وبالأخص تلك المتصلة بدراسة تعلم أفراد الكلية الجدد مدركات الثقافة التنظيمية داخل مؤسسة تعليمية.
    النماذج الوظيفية للثقافة التنظيمية
    تعريف وخلفية
    يمكن القول بصياغة بسيطة أن النماذج الوظيفية للثقافة التنظيمية " تسعى لاكتشاف بيانات عن المنظمات لكي تمارس الصفوة – غالباً المديرون- التوجيه والضبط بشكل أفضل... فالثقافة التنظيمية ليست " القضية النهائية" ومن ثم يمكن النظر للاهتمام بها كأحد تجليات الهندسة الاجتماعية بطريقة تسمح ببناء نظريات وممارسات أكثر تركيباً تهدف لحل مشكلات إقرار النظام order " (باركر 2000 ص. 61). إن النماذج الوظيفية - إلى حد كبير- من إبداع استشاريي الإدارة الحاليين والسابقين والمهتمين بدخول المنظمة لتشخيص ماذا في الثقافة ولتفسير كيف ؟ أو الكيفية التي يمكن بها إدارة المنظمة بشكل أكثر نجاحاً (أي أكثر كفاءة أو ربحية على سبيل المثال).
    من التعريفات الوظيفية المبكرة للثقافة التي نادراً ما يذكرها الباحثون برغم أنها شكلت أساسا لتعريفات تالية عديدة التعريف الذي طرحه كوتر (1978) بأن "الثقافة يمكن تعريفها بأنها هذه المعايير والقيم ذات الصلة من الناحية التنظيمية التي يتشاركها أغلب الموظفين(او جماعة فرعية منهم). (ص 17) وهذا التعريف ثاقب البصيرة برغم إغفاله في العقدين الماضيين، وتكمن أهميته في استعماله المصطلحات الأنثربولوجية مثل "المعايير" و "القيم" ومفهوم التشارك والتقاسم، وهو ما استمر أحد العناصر المستمرة في التفسيرات الوظيفية للثقافة. وقد اقترح "كاندا" (1992) تعريفاً نمطياً للثقافة التنظيمية باعتبارها "القواعد المشتركة التي تحكم الجوانب الإدراكية والعاطفية لعضوية منظمة معينة ،والوسائل التي تتشكل بها، و يعبر بها عنها". (ص. 8)
    وعلى الرغم من أن النماذج التي دعوتها وظيفية قدمها باحثون قد لا يحبذ أكثرهم أن يتم ربطهم ببعضهم بعضا ووضعهم في سلة واحدة، فإنهم جميعهم تجمعهم سمات مشتركة معينة أولها ميلهم لاستخدام المصطلحات الأنثربولوجية و"مستويات " الثقافة. وثانياً: ميلهم لوصف الثقافة بأنها " كيان متجانس إلى حد كبير يلصق الأشياء ببعضها" (باركر2000 ص. 62). وثالثاً أنها تميل لوصف" أفضل توافق بين الثقافات المختلفة والظروف العارضة المختلفة، لتصبح الثقافة فئات من الأوضاع الممكنة اللازمة لتنفيذ جداول تنظيم العمل الاجتماعية/ الاقتصادية/ التكنولوجية" (ص. 63) وغالباً ما يترجم ذلك إلى تقسيمات ثنائية بين ثقافة قوية مقابل الضعيفة والجيدة مقابل السيئة وإلى تشخيصات عامة ووصفات علاجية (روشتات) حتمية للشفاء وجعل المنظمة أكثر فعالية وكفاءة وبالطبع أكثر ربحية. وقد لاحظ "كاندا" أن
    "محط الاهتمام كان المعاني المشتركة والافتراضات و المعايير والقيم التي تحكم السلوك المتصل بالعمل والهياكل الرمزية والنصية و الحكائية التي يتم بها ترميزها وتشفيرها والأسباب البنيوية للأشكال الثقافية وتداعياتها و علاقتها بمقاييس الفعالية التنظيمية. (ص. 8)
    أما السمة العامة الرابعة للنماذج الوظيفية فهي نزعتها لمعالجة القوة باعتبارها "إشكالية وغير متنازع عليها، فتحليل القوة هو ببساطة مسألة اكتشاف (واستغلال) أين توجد وأين تنعدم، فقضايا القوة و والمزايا تؤخذ في النماذج الوظيفية كمعطى حيث كانت أقل اهتماماً باستخدامها وبإثارة التساؤل "لماذا".
    ومن السمات المهمة لأغلب الأدبيات الوظيفية تأكيدها على الوصفات " فأغلب الأدبيات صيغت بالاهتمام التكنوقراطي الفني الذي يسعى لتشكيل معايير وقيم قادرة على الاستمرار". (باركر ، 300، ص. 65) وعلينا ألا ننسى حقيقة أن اغلب الباحثين الذين أشارو بالمداخل الوظيفية كان أو عملوا كاستشاريين تنظيميين بما استتبعه ذلك من اهتمام لا بتشخيص المشكلات وحسب بل وبتقديم الحلول أي مقترب علاجي (ص. 56) للثقافة التنظيمية .
    وأخيراً فإن التأكيد على القيادة وأهمية المؤسس يشيع في النماذج الوظيفية، فلاحظ "باركر" أن "الفاعلين الرئيسيين هم الذين بإمكانهم تشكيل هذا التنظيم المعياري (وليس بقية الموظفين ولا العمال)، وتحديدا الميدرين و المؤسسين الذين يمكن تحويل جاذبية وبريق شخصيتهم (الكارزما) إلى أسلوب اعتيادي (روتين) بوصفه القيم الأساسية للمنظمة" (باركر ، 2000، ص. 66) هو ما برز بجلاء في عنوان مؤلف سكين (1992) " الثقافة التنظيمية والقيادة" .
    وفيما يلي ملخص موجز بأهم الأعمال والمؤلفين الوظيفيين وتعريفاتهم للثقافة التنظيمية.
    إدجار سكين
    وهو أهم الباحثين في الثقافة التنظيمية (رولينسون و باركر 1999 ص. 372)، ومن الطريف ملاحظة أن تعريفه للثقافة التنظيمية لم يتغير منذ نشره بحوثه الأولى:
    يمكن تعريف الثقافة باعتبارها أ- نمط الافتراضات الأساسية ب- التي تبتكرها أو تكتشفها أو تطورها مجموعة معينة ج- اثناء تعلمها التوافق مع مشكلاتها في التكيف الخارجي والتكامل الداخلي د- والتي تعمل على نحو جيد بما يكفي لاعتبارها صحيحة ومن ثم هـ- يتم تعليمها للأعضاء الجدد و- باعتبارها الطريقة الصحيحة لفهم والتفكير في والإحساس بكل ما يتصل بهذه المشكلات.( سكين ، 1999، ص. –ص. 79 – 80).
    وأول ما يصدم المرء في هذا التعريف هو النزعة الموضوعية البادية فيه من مفاهيم موسومة بأنها "سليمة" و "صحيحة" ويشير مصطلح "الافتراضات" بطبيعة الحال إلى اعتقاد سكين أن "الافتراضات العميقة" – المعاني التي يجب أن تتشاركها المنظمة – هي ما يستتبعه وجود الثقافة التنظيمية(باركر، 2000)، ولاحظ صلته بالأنثربولوجي: " لابد من تجنب النماذج السطحية للثقافة وأن نبني على النماذج الأنثربولوجية الأعمق و الأكثر تركيباً"
    وبتطبيق الأنثربولوجي على دراسته أسهم "سكين" (1990، 1992) بما أطلق عليه " المستويات الثلاث الأساسية التي تتجلي فيها الثقافة" وهي:
    الأعيان المبحوثة: وهي الهياكل والبنى والعمليات التنظيمية.
    القيم المتبناة: الاستراتيجيات والأهداف والفلسفات.
    الافتراضات الأساسية التحتية: المعتقدات المسلم بها دون وعي والتصورات والأفكار والمشاعر.( سكين، 1992 ، ص. 17) وبعد تحديد هذه المستويات داخل الثقافة يمكن البدء في التشخيص:
    " لابد لفك مغاليق ما يجري حقيقة في منظمة معينة من البدء في اكتشاف أي من هذه الأبعاد أكثر مناسبة لها على أساس تاريخها" (سكين ، 1990، ص. 81). لكن هل التاريخ هو ما يدور حوله نموذج سكين الوظيفي؟ فقد اُنتقِد سكين لإشارته وإحالته إلى التاريخ برغم أنه واقعياً تجاهله:
    فباعتباره يعمل ضمن الإطار الوظيفي، أقر "سكين" صراحة بأن البيانات التاريخية أمر حيوي لدراسة الثقافة، ومع ذلك اعتبر التاريخ غير قابل للمعالجة منهجيا بسبب مشكلة المعنى، فقامت دراسات "سكين" للثقافة بشكل كبير على لمقابلات وعمقت طبيعة البيانات هذه المشكلة.
    إذا كان التاريخ لم يوفر أساسا لدراسات "سكين" عن الثقافة التنظيمية فماذا عساه يكون هذا الأساس ؟
    إن الثقافة التنظيمية يبدعها – جزئياً – القادة. "فمن أهم الوظائف الحاسمة للقيادة هي خلق وإدارة - بل وأحياناً تقويض- الثقافة" (سكين 1992، ص. 5)، فالتاريخ عند "سكين" في الواقع ينظر إليه ويخلق من منظار القيادة التي تنتج بنية محتومة تقوم على تاريخ الثقافات التنظيمية، أي قصة المؤسس". وقد رأيت هذا المفهوم الوظيفي الكلاسيكي للثقافة التنظيمية باعتباره متداخل مع وينظر إليه من منظار كبار المديرين والمؤسسين وغيرهم من القادة، لأن سكين لم ينظر إلى الثقافة كسياق بل كعملية يستعملها المديرون لتحسين كفاءة وربحية المنظمات: "فبدلاً من ذلك يصبح محور التركيز ما أعده مرتبطاً - بشكل فريد - بالقيادة أعني خلق وإدارة الثقافة" وأخذا في الاعتبار هذه العملية التي تجري على خطوتين: التشخيص والوصفة العلاجية لم يسلم "سكين" بأهمية قضايا الميزات والقوة المتضمنة في مقتربه الوظيفي إلا في عبارة موجزة: "يمكن أن تكون الثقافة آلية للضبط الاجتماعي وأساساً للتأثر بشكل جلي في الأعضاء ليدركوا ويفكروا ويشعرو ا بطرق معينة"
    تيرنس ديل والآن كيندي
    ويعد كتابهما "ثقافات الشركة"(1982) واحداً ضمن أهم الكتابات التي حولت دراسة الثقافة التنظيمية من الحقل الأكاديمي لنشاط تجاري، و يعتمد هذا الكتاب كما هو الحال بالنسبة لـ"سكين" على المصطلحات الأنثربولوجية التي أطلق عليها "باركر" بنوع من التلاعب اللفظي "مصطلحات شبه أنثربولوجية" مثل القبيلة، فعرف الكتاب الثقافة بالرجوع إلى "قاموس وبستر الجامعي" باعتبارها: "نمطا تكامليا للسلوك الإنساني يشمل الفكر والكلام والفعل والأعيان المبحوثة وتعتمد على قدرة الإنسان على التعلم ونقل المعرفة للأجيال التالية" وعليه استتبع هذا التعريف المفرط في الاتساع ملاحظات مفرطة السطحية أيضاً:
    "نعتقد أن الإجابة لابد أن تكون أمريكية كالتفاح الأمريكي. فتحتاج منظمات الأعمال الأمريكية للعودة للمفاهيم والأفكار الأصيلة التي صنعت مؤسسات مثل جنرال موتورز وبروكتر أند جامبل وثري إم وغيرها من الشركات الكبرى .. نحتاج أن نتعلم الدروس القديمة عن الكيفية التي تربط بها الثقافة الناس معاً وتعطى معنى وغاية لحياتهم اليومية .. إن الثقافة القوية عادة ما كانت القوة الدافعة خلف النجاح المستمر في قطاع الأعمال الأمريكي"
    وكان الاستشهاد يجري باليابانيين لنجاحهم المعزو ل" قدرتهم المستمرة على الحفاظ على ثقافة قوية وضامة عبر بلدهم، وكان المتطلب الأساسي على ما يبدو للنماذج الوظيفية "عناصر الثقافة" والتي تشمل "القيم" و "الأبطال" و الطقوس و " الشبكات الثقافية".
    وما يهمنا هو ما اعتبره "ديل" و"كيندي" يمثل أهمية الثقافة " نعتقد أن الناس هم مورد الشركة الأعظم، وأسلوب إدارتهم لا يكون من خلال تقارير الكمبيوتر ( وهذا حط من شأن الإدارة بالأساليب الكمية) لكن بالتلميحات الدقيقة المستمدة من الثقافة، فالثقافة القوية أداة قوية لتوجيه السلوك". وميز الكتاب الذي قام على مسح لثمانين شركة بين الثقافات القوية والضعيفة محاولاً ربط أداء الشركات التي خضعت للمسح بثقافتها، وأوضح المؤلفان مقصدهما من البداية: "نأمل أن نغرس في قراءنا قانوناً جديداً لقطاع الأعمال هو أن القوة في الثقافة". وكما فعل "سكين" حاول المؤلفان تشخيص حالة المنظمات التي خضعت للمسح بشواهد طريفة وقدما وصفات بحلول، ويظل نقد "باركر" (2000) للكتاب سليماً: "فهو مكتوب بطريقة شكل يبدو مصقولاً في ظاهره لكنه حسب المصطلحات العلمية الاجتماعبة غير مقنع، ومع ذلك فإنه – إذ يضرب بجذوره في فكرة المنظمات كنظم للمعنى- مدخل وظيفي رأيناه في كتابات "سكين"، وسنراه لدى الباحثين الوظيفيين الآخرين.
    توم بيتر و روبرت ووترمان
    ويمثل كتابهما الصادر 1982 أهم محاولات نقل خطاب الثقافة التنظيمية من السياق إلى العملية وعد كتابهما "البحث عن التميز" - حتى من قبل منتقديه- أكثر كتب الإدارة تأثيراً في زمننا هذا فقد بيع منه 5 مليون نسخة في غضون 3 سنوات من إصداره، ومن الطريف أن الكتاب لم يعرف الثقافة بشكل منهجي بل عرفها بشكل روتيني:
    "عندما كنا نقوم ببحثنا عن الشركات المتميزة استوقفنا انتشار استخدام القصة والشعار والأسطورة أثناء محاولة الناس شرح السمات المميزة لمؤسساتهم العظيمة وبدت هذه القصص والشعارات والأساطير مهمة بالمعنى التنظيمي لأنها تنقل القيم المشتركة في المنظمة أو ثقافتها".(ص. 75)
    ومثل الكتاب دراسة لأعلى 43 شركة أداء ً في الولايات المتحدة وكان معيارها – كما هو الحال في أغلب الأدبيات الوظيفية – اليابانيين، وتمثلت أطروحة الكتاب في أن سيطرة الثقافة وتماسكها ثبت – دون أية استثناءات – أنها سمة ضرورية للشركات المتميزة، وبالمثل قدم الكتاب تشخيصاً لحالة المنظمات، وجرى التأكيد على القيادة التحويلية، هذه القيادة التي تبني حاجة الإنسان للمعنى، وتبدع الهدف التنظيمي للمنظمة "
    وتضمين هذا الكتاب في المدخل الوظيفي لا يعني أن "سكين" سيرضى عن وضعه جنباً إلى جنب معهم بل على العكس فإن تحذيرات سكين من "النماذج السطحية للثقافة" كانت تقصد بشكل ضمني هذا الكتاب واستهدف بتعبيره عن "الإحباط والغضب" من الطريقة التي بدا عليها مصطلح الثقافة التنظيمية كمفهوم سطحي هذا الكتاب، بل ذكرت تقارير إن "بيرتز" نفسه قال في أحد الندوات أنه: "جنى الكثير من الأموال عن عمله لأن استشارات الثقافة التنظيمية في الشركات واحدة من أكثر الطرق قانونية وشرعية للسرقة". والطريف أن "ديل" و"كيندي" و"بيترز" و"وترمان" جميعهم كانوا موظفين في نفس شركة الاستشارات الإدارية: "ماكنزي وشركاه" !!
    هاريسون ترايس و جانيس باير
    ويعد كتابهما ثقافات منظمات العمل 1993 أحد الكتب المهمة التي يستشهد بها عادة ومن الموضوعات المهمة في المكتاب وصفه للخصائص الست للثقافات: أنها جماعية محملة بالانفعالات، ومؤسسة على التاريخ، وذات طبيعة رمزية، وأنها حركية، وأنها بطبيعتها الذاتية مرنة، لكن أهمية هذه الدراسة تكمن في رفضها لمدخل الثقافة الواحدة العامة الذي يتبناه الوظيفيون أمثال "بيترز" و"وترمان" وما نتج عن هذا الرفض من تركيز على الثقافات الفرعية. وتمييزهما الثقافات الفرعية الوظيفية (الناجمة عن الوظائف) والثقافات الفرعية الإدارية. وقد أقر "باير" و"ترايس" بأن التدريب الوظيفي و "التلقين الأولي" يمكن أن يستخدما كوسائل للضبط والتحكم بما في ذلك عندما ينتج هذا الضبط في سياق ما أطلقا عليه "الإدماج والتأهيل الاجتماعي الوظيفي" الذي عرفاه بأنه: "عملية يتعلم فيها الأفراد كيفية أداء أدوار اجتماعية معينة بشكل مقبول من قبل أعضاء الجماعة الثقافية المعنية، والتي يستدخل فيها هؤلاء الأفراد هذه التوقعات في نفوسهم". وهذا التعريف يبدو شبيهاً بالنظريات النقدية التي سنناقشها تالياً.
    كما يحسب لهم اهتمامهم بقضية ثقافات اتحادات العمال وتأثيرها على الثقافة الكلية.
    لكن لماذا اعتبرتهما برغم هذا الاهتمام بالثقافات الفرعية من متبني المدخل الوظيفي؟ لأن مؤلفهم يركز على تأثير القيادة وأساليب إدارة القيادة هذا التاثير الذي أسميه "وظيفيا"
    فعلى الرغم من أنهما عالجا أخلاقيات مساعي إدارة الثقافة التنظيمية، فذكرا أن "كل الثقافات تنحو إلى اقتضاء قدر من الاطراد والاتساق في السلوك من أعضائها، ومن ثم تحد من الاستقلالية الفردية". وكان الحل عندهما هو أنه "لابد لمن يديرون الثقافة التنظيمية من الرجوع لنظمهم القيمية لتحديد ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي فإذا كانت الاهتمامات الأخلاقية مدمجة حيثما كان ذلك ملائما فلن يكون ثمة تعارض بالضرورة بين إدارة الثقافة و الأخلاقيات" لكن هذا الحل أخفق في التركيز على استقلالية العامل الفرد، وعوضاً عن ذلك قدم أملاً بتحقيق فهم إداري وصفه المؤلفان نفساهما بأنه ساذج.
    نماذج وظيفية أخرى
    إضافة للنماذج الوظيفية السابقة ثمة نماذج معاصرة أخرى فقد عرف "فتزجيرالد" (1988) الثقافة التنظيمية بأنها "النمط والمناخ والشخصية التقليدية والمعايير والافتراضات الجوهرية وإجراءات القرار واتجاهات الإدارة والجوانب الأخرى "كما قدم تعريفاً واسعاً آخر يركز الثقافة كأحد أدوات الإدارة: " على الرغم من الإقرار بأن إدارة الثقافة أداة مطلوبة لتقوية الضبط التنظيمي وإدخال التحسينات فإننا لا يمكنا الحديث عن تغيير الثقافة إلا بعد أن نفهم كيف يمكن تغيير القيم المؤسسة لها. فهل تغيير القيم المؤسسة وظيفة تنظيمية؟
    وقد قدم فيلدمان (1988) نموذجاً وظيفياً للثقافة التنظيمية في سياق الابتكار والتجديد وهو تعريف مهم لأنه صيغ بمفاهيم ذات صبغة أنثربولوجية أقل: "الثقافة التنظيمية يمكن النظر إليها كمجموعة من المعاني تنشأ داخل المنظمة لكنها تتأثر بالعمليات الاجتماعية و التاريخية الأوسع" (ص. 57) وقد درس "فيلدمان" المنظمات بالتركيز على دور المؤسس والقائد وخلص إلى أن الضعف يرجع إلى اتجاه القادة "لإضفاء الطابع المثالي" على العلاقات والأهداف والوظائف.
    وقد استخدم "ساث" (1983) في مؤلفه الصادر عام 1983 تعريفاً واسعاً للثقافة :" مجموعة من الإدراكات والأفهام (لا تذكر ولا يصرح بها عادة) يشترك فيها أعضاء الجماعة " وعلى الرغم من أنه لم يستخدم مصطلحات أنثربولوجية فإنه ميز بين الثقافات المكثفة (العديد من المعتقدات والقيم المتبناة بقوة) والثقافة الواهنة (افتراضات مشتركة قليلة) وأشار بأن الثقافات الأقوى تنتج آثاراً أشد من الثقافات الأضعف لكن يحسب لهذا المقال تضمنه أفكاراً مفيدة عن الثقافات الفرعية.
    وقدم "جوفي" و "جونز" (1996) بحثاً يعد جسراً – إذا جاز التعبير – بين النماذج الوظيفية والنقدية حيث وصفا ما اعتبراه " بعدين و 4 ثقافات" البعدان هما أ- القابلية للتطبع الاجتماعي وتعرف باعتبارها المودة الخالصة وروح المساعدة الصادقة بين جماعة معينة و ب – التضامن أو القدرة على السعي لتحقيق أهداف مشتركة بغض النظر عن العلاقات المؤسسة للمنظمة فإذا كان التطبع الاجتماعي يمثل المحور ( س) والتضامن يمثل المحور (ص) فإن أربع ثقافات تتوزع على هذا الرباعي في الرسم الناشئ هي: (الشبكية والمجتمعية والهشة و ثقافة الارتزاق) وتتلاءم الوصفات المقدمة في هذه الدراسة لتغيير الثقافة مع النموذج الوظيفي برغم رفض الكاتب لفكرة عمومية الثقافة بقوله "من أكبر الأخطاء الشائعة في الأدبيات الحديثة حول ثقافة المؤسسة هو افتراض أن المنظمات متجانسة داخلياً" وحتى لا يظن القارئ أنه لم يجر نشر أدبيات وظيفية مؤخراً نشير إلى اقتراح "يونج" (200) ل"ست روافع لإدارة الثقافة التنظيمية" بعد أن أشار إلى عناصر الثقافة عند "سكين" (1992) هذه الروافع والتي تمثل بالأساس عمليات هي : 1- صياغة الاستراتيجية 2- السلطة والنفوذ 3- الدافعية 4- الضبط الذي تمارسه الإدارة 5- إدارة الصراع 6- إدارة العملاء . واعتبرت هذه الدراسة دراسة وظيفية نظراً لهيئتها المبنية على التشخيصات والوصفات. وقد خلص "يونج" إلى أن هذه الروافع الست يمكن استخدامها سواء للحفاظ على ثقافة المنشأة أو تحويلها. (ص. 27)
    ملخص النماذج الوظيفية
    لاحظ "باركر" (2000) على هذه الكتابات الوظيفية أنها:
    مسهبة تعتمد على الاستشهاد بالطرائف ومصممة ليقرأها من يعتبرون أنفسهم مشغولين لدرجة أنهم ليس لديهم وقت يضيعونه في قراءة السفسطات الأكاديمية وقد جرى تجاهل المعايير الأكاديمية لصالح تكتيك مفاجأة القارئ والانتقاء من بين الحقول الدراسية والمناظير الثقافية ... وهي كتب تجد بالأساس لتحقيق مبيعات عالية.
    ومع ذلك تظل النماذج الوظيفية مكوناً هاماً لأدبيات الثقافة التنظيمية فهي على الأقل قدمت لبنات لبناء النماذج البديلة. فثمة نموذج معرفي أسميه "المنظور النقدي".
    المنظور النقدي للثقافة التنظيمية
    تعريف وخلفية
    لخص "سِمرسِش" (1983) رؤية المنظور النقدي للنماذج الوظيفية للثقافة التنظيمية بقوله: "إن النواتج المرغوبة من البحث في النموذج المعرفي الوظيفي هي عبارة عن تقريرات بشان علاقات آنية يتوقف بعضها على بعض ويمكن أن يطبقها من يسعون لإدارة المنظمات. وأساس هذا الاهتمام بالثقافة التنظيمية هو البحث عن وسائل للضبط التنظيمي يمكن التنبؤ بنتائجها، ووسائل محسنة لإدارة المنظمة" وقد أطلق باركر (2000) على هذا المنظور " النزعة الإنسانية العميقة" التي عرفها بأنها "صياغة لمفهوم الثقافة التنظيمية باعتبارها علاقة متنازعة بين المعاني أي الأفهام والتصورات المتمايزة لجماعة اجتماعية معينة والتي قد تتناقض مع تصورات وأفهام جماعات اجتماعية أخرى" (ص. 74). وأشار باركر (2000) بقيمة هذا المنظور لتأكيده المزدوج على القوة والمعنى". (ص. 75).
    هذا المنظار أدعوه منظاراً نقدياً لأني لا أرى أن النزعة الإنسانية في المنظورات النقدية بالضرورة راديكالية، كما أن النماذج الوظيفية ليست بكاملها خلوا من النزعة الإنسانية، وتطلق " ويلموت" 1993 وهي أحد مؤيدي المنظور النقدي على نتائج النموذج الوظيفي " النزعة ثقافة الشركة" وتعتبر منطقها "يقوم على نقل حس الهوية لأعضاء المنظمة، وثانياً أنها تسهل خلق الانتماء إلى شئ أكبر من الذات وثالثاً: أن الثقافة تحسن من استقرار النظام الاجتماعي ورابعاً أن الثقافة تعمل كأدة لإضفاء المعنى ترشد وتشكل السلوك " (ص. 2). وتشير بأن " الشكاكين بطبيعتهم قد يطرحون مسألة إلى أي مدى يشير مفهوم ثقافة الشركة إلى أمر يتجاوز الأيديولوجيا التي تغرسها الإدارة بهدف ضبط وشرعنة النشاط" (ص. 2). وقد صاغ "سولومون " ذلك بشكل جلي بقوله: " يمكن فهم الثقافة كتقنية جديدة لإدارة العمل وإدارة الناس" (ص. 121)
    ويتمثل جوهر المنظورات النقدية في اختلافها الجوهري مع النماذج الوظيفية بشأن طبيعة الثقافة، ففي تحديد اهتمامها المعرفي (باركر 200) تنحو النماذج الوظيفية لتحديد سمات الثقافة التنظيمية باعتبارها شيئاً تتميز به (تملكه) المنظمة أو تقوم به (كاندا،1992) في حين ترى المنظورات النقدية الثقافة باعتبارها ما هي عليه المنظمة (سِمرسِش، 1983 ص.3) فحسبما ترى "ولموت" فإن التحليل النقدي يتميز باهتمامه بوضع تطور وشعبية الأفكار والممارسات - مثل أفكار وممارسات ثقافة الشركة – في السياقات التاريخية والمادية لظهورها وتطبيقها " (ص. 521) وقد نشأ عن هذا اهتمام المنظورات الوظيفية الأكبر بقضايا السياسة و الأهم بقضايا القوة وذكر "باركر" (2000) أن " فهم وجهة نظر أعضاء المنظمة مهم لكنه يمكن تلطيفه وتكميله بالتركيز على علاقات القوة التي تساعد في إرساء معاني مختلفة للموضوعية " (ص. 75) تتجلى القوة بشكل مختلف من خلال عدسات المنظورات النقدية للثقافة التنظيمية: فقد تكون أداة النقل هي خلق ونشر " قيم الموظفين" (كاندا، 1992) أو تشجيع "التأهيل الاجتماعي للعمل " أو استعمال استعارة "الأسرة " (أي تشبيه المنظمة بالأسرة) أو الضبط المخطط الناتج عن " ثقافة الفريق" (باركر 1999) باختصار فإن القوة المنبثقة عن نزعة ثقافة الشركة " تختلف كلية عن تلك النابعة عن أنماط القوة المباشرة والظاهرة. فهي قوة بمفهوم "فوكو" للقوة الذي يراها تنتج من " التهذيب والانضباط الخطابي" فهي: " عمليات يتم توصيلها بأشكال ثقافية تؤثر على الموظفين لكنها ليست تلك العمليات التي يتم تحديدها بشكل عقلاني و لا تلك التي يصرح بها علناً بشكل رسمي بل هي ممارسات انضباطية تمثل نمطاً لأية منظمة تستهدف غايات محددة(كيزي، 1999، ص. 158). وعادة ما يمارس هذا النوع من القوة بشكل مقَنع إما من خلال عملية " الاستعمار" (سمرمش، 1983) و"الضبط والسيطرة القيمية" (كاندا، 1992) أو الضبط المخطط القائم على التنسيق (باركر،1999).
    ونظراً لتركيز المنظور النقدي على قضايا القوة، فإن المفاهيم الأساسية ضمن هذا المنظور تصبح أهمية الثقافات الفرعية وأهمية الاستقلالية أو القدرة على الفعل
    مارتن باركر
    وله كتاب مهم استشهدت به كثيراً هو " الثقافة التنظيمية والهوية" (2000) ومن أهم فصوله الفصل المعنون "التاريخ المنسي للثقافة" الذي يعود بالمفهوم من منظور إداري إلى "ماكس فيبر" ويضع الكتاب المديرين في موقف النقيض من الأكاديميين " الباحثين عن الثقافة"، ويشرح " نموذج "النزعة الإنسانية العميقة " المعرفي .
    حاول "باركر" (200) تطوير ما أطلق عليه نموذجاً نقدياً للثقافة التنظيمية ( وفقد سعى العديد من منظريه لتقويض النماذج الوظيفية دون أن يقدمو أي بديل) وأطلق "باركر" على البدائل المطلوبة "مجموعة واسعة من المتطلبات":
    أولاً صياغتي الجديدة يجب أن تكون قادرة على التفكير في المنظمة باعتبارها الناتج أو الأثر الموضعي للعمليات التفسيرية وثانيا لابد أن تكون قادرة على ربط شكل هذه العمليات التفسيرية بالقضايا والافتراضات الموجود في النظام السياسي والاقتصاد والمجتمع المغروسة فيه المنظمة ومن ثم يعيد إنتاجها فيه محلياً وثالثاً لابد أن تقر أن المنظمة هي عملية غير مستقرة و لا ثابتة تنطوي على تعبئة القبول والموافقة ومن ثم تتضمن إمكانية حقيقية للصراع والانقسام وأخير اً لابد أن تكون منتبهة تاريخياً لسمات الأنماط المتغيرة لمساعي جماعات المصالح لتحقيق الهيمنة التنظيمية بما في ذلك الآثار المنعكسة لظهور لغة "النزعة الثقافية " نفسها...(ص 222)
    ويضع أغلب هذه المناقشات نفسه ضمن نموذج المعمار الاجتماعي الذي أقترحه كبديل للثقافة التنظيمية.
    جيمس باركر
    يتضمن كتاب "باركر" (1999) " انضباط فريق العمل" ، في سياق تركيزه على " الضبط الناجم عن العمل باتساق" والذي ينتج عن التحول إلى مدخل يقوم على الفريق في المشروعات الصغيرة، رسالة بصدد الثقافة التنظيمية تتسق مع أفكار المنظور النقدي. فقد تبنى "باركر" مصطلح الانضباط المنتج لوصف صيغة تتضمن الثقافة التنظيمية + الضبط فعرف باركر (1999) الثقافة التنظيمية بأنها:" مجموعة مبدعة من التشكيلات الخطابية التي نستخدمها كلما احتجنا لجعل حياة العمل ذات معنى وحساسة وراشدة ... فثقافة المنظمة هي بالأساس حجة إقناعية بشأن ما يمثل المعرفة في المنظمة وكيف يجب استخدام هذه المعرفة " ص. 41. لاحظ افتقاد المصطلحات الأنثربولوجية في هذا التعريف وأيضاً التركيز على الخطاب: "ما يطلق عليه الدارسون " الثقافة التنظيمية" شئ يفوق مجموعة المعاني المشتركة في المنظمة، وتشكل ثقافة أي منظمة قوة من العمليات الخطابية التي تستخدم لبناء وإعادة أو حتى تقويض المعاني الجماعية .." (ص. 30)
    نفس هذا التركيز على خطاب "الثقافة التنظيمية " يمكن أن نراه ظاهراً في المقتطف التالي لـ "كيزي" فما أشار إليه باركر تطلق عليه كيزي "السمة المعرفية للتشكيلات الخطابية":
    تمكن ثقافة المنظمة أعضاءها من اكتساب المعرفي في شكل خطابي (بالأساس إسناد معنى لنشاطهم) يقدم البيئة الضرورية للتفاعل الاجتماعي في المنظمة وتؤثر هذه الحقائق مجتمعة بوصفها تشكيلاً خطابياً على وترشد تفسير المعنى والأعمال في المنظمة لأن أعضاء المنظمة يستدعونها لتوجيه أعمالهم و تفسيراتهم فما نطلق عليه الثقافة التنظيمية هو في الواقع هو تشكيلة خطابية من المعرفة تساعدنا في خلق معاني مفيدة في المنظمة وهذا هو ما تقوم به الثقافة التنظيمية ( ص-ص 34-35)
    لاحظ أن الثقافة التنظيمية بالنسبة لـ"باركر" ليست شيئاً تمتلكه المنظمة ولا حتى ما هو عليه المنظمة بل أمرا تفعله المنظمة بما يذكرنا بـ" حكاء الأساطير " عند " إلين كوهن" و " خبير الثقافة " عند "كاندا" والذي يخبرنا " إنني توليت وظيفة الإدارة ولدي التمويل لعمل الثقافة الآن " وهكذا تطور مفهوم الثقافة التنظيمية من سياق للمنظمة إلى عملية. فيشير باركر وغيره أن هذا التغير يتم تحقيقه من خلال الخطاب وباستخدام كلمات من قبيل "الأسرة" و "الفرق" والتشاركي" إلخ. والنتيجة – كما يطرحها كتاب باركر- هي نظام من الضبط الناتج عن العمل باتساق يمارسه أعضاء الفريق على أنفسهم، وهو شكل من أشكال الضبط يظهر عن استبعاد شريحة الإدارة الوسطى وإحلال مفهوم "الفرق المدارة ذاتياً" واستعمال الخطاب الذي ينتج عنه قيام العاملين – سواء عن معرفة أو عن غير معرفة - إحكام شكل خانق من الضبط على أنفسهم: " أنشأت فرق المشروعات الصغيرة لنفسها انضباط تنسيقي قوي ومستدام منحهم – بشكل متناقض- حرية إدارة أنفسهم في حين يضبطون بقوة سلوكهم يجيب هذا الأمر الذي يبدو وكأنه أحجية (لغز) على التساؤل
    عن كيفية ضبط "الانضباط التنسيقي" المنتج العمل" (باركر 1999، ص. 169)
    وبشكل غير نمطي حتى بالنسبة للعديد من باحثي المنظور النقدي قدم "باركر" أنموذجاً مقترحاً للاستجابة يتضمن عناصر من قبيل أ- غرس النقد المستمر ب- إنشاء نظام إيجابي للانضباط جـ ـ والاعتقاد في استخدامنا للغة ومن المهم إدراك ما لا تتضمنه هذه الاستجابة: المزيد من الطقوس والموز والقصص وغيرها مما يمكن أن يستخرجه استشاريو الإدارة الذين يسعون لتمييز ومن ثم تحسين الثقافة التنظيمية.
    جيدون كاندا
    كثيراً ما يذكر كتاب كاندا (1992) "هندسة الثقافة: الضبط والانتماء في احد شركات التكنولوجيا العالية" ضمن الأدبيات النقدية في الثقافة التنظيمية، وهو دراسة حالة وصفية (إثنوجرافية) تركز بشكل مباشر على الثقافة التنظيمية، والطريف أن "كاندا" كان قد تدرب على يد "سكين" في معهد ماسوشستش للتكنولوجيا ( إم أي تي) لكن عمله تطور بشكل مختلف تماما، والحالة الدراسية التي بحثها كانت لشركة معروفة بثقافتها القوية.
    وكانت الاستراتيجية الكامنة وراء ثقافة الشركة القوية بسيطة كما عبر عنها المدير "ديف" : " القوة لا تنتج أثرها هنا ؛ إذ لن تستطيع جعلهم يقومون بأي شئ بل يجب أن يريدوا القيام بما يطلب إليهم لذا يجب أن تعمل من خلال الثقافة والفكرة هنا أن يجري تعليم الناس دون ان يعرف الناس ذلك كما يعتنق الناس الدين دون أن يعرفوا كيف وصل إليهم" كانت شريكة كاندا في العمل "إلين" وهي مهندسة سابقة تعمل حالياً " خبير الثقافة المقيم" الذي (حسب وصفها هي نفسها):
    " مكرسة للثقافة... توليت وظيفة إدارية لدي التمويل لعمل الثقافة الآن ولا يصدق بعض الناس أن الثقافة ليس لها أية قيمة مضافة لكنني شرعت في عملي وتم الأمر والآن جميع ورش عملي كاملة العدد!! أنا مثال حي على الثقافة ... والآن أقوم بعمل الثقافة مع الموظفين الجدد".
    "عمل الثقافة"؟ هذا مثال ممتاز على ما تدعوه "ولموت" "نزعة ثقافة الشركات". و عم تنبثق؟ تنجم أغلب المعرفة الثقافية في شركة التقنية من مبادئ السلوك الخاصة بمؤسسها "سام ميللر" (اعمل الصح) وكما تقول إيلين "إنه شعار الشركة وقد يبدو قالباً لغوياً إنشائياً (كلاشيه) لكنه يحيط بالفكرة كلها فإذا استدخل العاملون هذا الشعار إلى نفوسهم أكون قد أنجزت عملي. إن وظيفتي أن أعقد قران العاملين على الشركة" (كاندا 1992، ص 6،7)
    لاحظ كاندا (1992) مستويين للثقافة (مستعيراً كلمات سكين لكنه استخدمها بشكل مختلف). الثقافة تتمثل على أحد مستوياتها وصفاً للسمات الاجتماعية للشركة والتي تجسد أيضاً تحديداً لسلوك العمل المطلوب ..." ص. 7 أما على المستوى الأعمق وهو جوهر بحث "كاندا" فإن الثقافة تفسير لتعريف العضوية في مجتمع الشركة يشمل قواعد السلوك والفكر والمشاعر التي تشكل مجتمعة "دور العضو" المحدد بدقة الواسع القبول بين الأفراد. وقد وصف كاندا العديد من الندوات والملتقيات عن الثقافة التي أقامتها الشركة لموظفيها (أقامتها غالباً إلين) لنشر " المعرفة " بالثقافة التي – كما لاحظ فيلدمان – تعمل كآلية للضبط القيمي. وقد عرف كاندا الضبط القيمي على أنه "محاولة استخراج وتوجيه جهود الأعضاء المتطلبة بضبط خبراتهم وأفكارهم و مشاعرهم التي توجه عملهم.
    كن ماذا عن الموظفين أنفسهم؟ هل يدركون ما يحدث؟ لاحظ كاندا أن العديد من موظفي شركة "تك" لم يكونوا سذجاً و لا مخدوعين عندما قدمت هذه المعرفة لهم، فقد أدركوا هيكل القوة الذي تنبثق عنه هذه المعرفة كما ذكر أحد الموظفين.
    على الرغم من أنه من الواضح أن الثقافة في شركة "تك" تمثل " "آلية للضبط" فإن الأهمية الحقيقية لبحث "كاندا" هي في وصفها التفاعل بين الضبط القيمي في الشركة والقدرة على الفعل. وكان "وايت" قد أدرك هذا جيداً فلاحظ قبل أربعين سنة من دراسة "كاندا" أنه " لا يوجد من يرغب في رؤية عودة السلطوي القديم لكن يمكن القول إنه يريد بالأساس عرقك وكدك أما هذا الرجل الجديد فيريد روحك" وقد نعى "كاندا" أنه كما دلت الشواهد في شركة تك فإن ذات الموظفين – وهي مصدر الخبرة الشخصية الذي لا يعوض- هو ما تجري المطالبة به باسم " نزعة ثقافة الشركة". إن هذا المكون للمقاومة الفردية - و هو ما أطلق عليه القدرة على الفعل agency – نقطة ارتكاز نموذج المعمار الاجتماعي الذي أصفه في الفصل الثالث
    وقد لاحظت "ولموت" (1993) أن هدف "نزعة ثقافة الشركة" هو " كسب أفئدة وعقول الموظفين وتحديد أهدافهم من خلال إدارة ما يفكرون فيه وما يشعرون به وليس الكيفية التي يتصرفون بها وحسب. إن الضبط القيمي المنبثق عن النزعة الثقافية:
    "يطمح باسم توسيع الاستقلالية العملية لتوسيع ضبط الإدارة من خلال استعمار المجال العاطفي وهي تقوم بذلك من خلال تعزيز التزام الموظفين ببنية أحادية ن الشعور والتفكير وهو تطور يبدو من أول وهلة شمولياً. " ص. 517.
    ونظراً لأن كتاب كوندا لم يكن مدفوعاً بإقامة الصلة بين الثقافة التنظيمية القوية والأداء أو سمات القيادة فقد قدم رؤية أكثر توازناً لعناصر المعرفة / القوة / الخطاب المكونة للثقافة التنظيمية. وقد أشار "كاندا" أنه لابد من دراسة الثقافة في سياق معين ودراسة كامل التعاملات القيمية المبحوثة وهي: تصور الإدارة للثقافة، وتفعيل هذه التصورات والمفاهيم، واستجابات الأعضاء. وتركز النماذج الوظيفية على أول عنصرين فقط من هذه الصيغة، وتفترض أنهما هما اللذان يدفعان العنصر الثالث وتأتي أهمية دراسة كاندا للثقافة التنظيمية من أنها فككت وقوضت العنصرين الأولين، وحللت بصورة واقعية العنصر الثالث وهو استجابة أعضاء المنظمة. وكما خلص كاندا بشكل صحيح فإن:
    المرونة المحسنة و الغموض البنيوي والضبط غير المحكم للسلوك والإشراف الأقل صرامة على سلوكيات العمل كل هذه الأمور التي يصفها ويطبقها مصممو الثقافة تجري موازنتها بجهود الإدارة الصارمة لتحديد وفرض دور العضو، إن جوهر الضبط البيروقراطي ( إضفاء الطابع الرسمي الشكلي وتكويد وإنفاذ القواعد التنظيمات) لم يتغير من حيث المبدأ في ظل نظام الضبط القيمي إذ تحول تركيزه فقط من البناء التنظيمي إلى الثقافة التنظيمية ومن سلوك أعضاء المنظمة إلى خبرتهم (كاندا 1992، ص. 220)
    المناظير النقدية الأخرى للثقافة
    عادة ما يستشهد بدراسة "ولموت" التي قوضت أدبيات "ثقافة الشركة" وبالأخص كتابات بيترز و"وترمان" التي وضعها ضمن ما أسماه " النكهات الشعبية لهذا العقد" وقد قدم مفهوم نزعة ثقافة الشركة ومفهوم الاستعمار المهم والذي أرسى أساس الحاجة للقدرة على الفعل.
    ومن الدراسات الوصفية طولياً دراسة جونز الحديثة(2000) وتكمن أهميتها في تركيزها على الثقافات الفرعية لأنه كما اشار في الدراسة "أي قيم ثقافية مشتركة ما بين الوظائف والأقسام ومستويات التدرج الإداري يغلب أن تكون غاية في السطحية " كما أنه فيما يتصل بمفهوم دراستي المعمار الاجتماعي ركز على مفهوم الفاعل والقدرة على الفعل.
    ومن المنظورات النقدية الهامة هذا المنظور الذي يتضمن تطبيق ما بدأه دوجلاس (1937) ونقحه هنري (1999) من نظرية الشبكة – الجماعة. فالشبكة التي تمثل بيانياً على المحور (ص) تمثل " نطاق وتماسك النظام السائد لتصنيف وهيكلة رؤية العالم عند الفرد أما الجماعة أو المحور (س) فيمثل الضبط الذي تمارسه بقية الجماعة على الأنا الفردي (ego) وعلى الرغم من أن النموذج الأصلي الذي قدمه دوجلاس يقوم على مفاهيم أنثربوبجية أشد ارتباطاً بالنماذج الوظيفية فقد وضعت هذا النموذج ضمن النظريات النقدية نظراً لتطبيق "هندري" له على دراسة بيترز ووترمان (1982): " تعوض ثقافة الشركة القوية فقدان شبكة مفصلة للتصنيف تدعم خطط تصنيف المنظمة وتقوي قوة ضبط الجماعة ومع تأمين ولاء الجماعة وإخلاصها ووجود شبكة قوية لن تعود ثمة حاجة لإدراك حرية الفرد باعتبارها تهديداً (هندراي، 1999، ص. 576) وعلى الرغم من أهمية النموذج فإن الجهد الإمبريقي قام به دوجلاس عام 1973 قبل نشر مقالة هندراي عام 1999.
    وقد قامت "كيزي" بدراسة إمبريقية حديثة 1999 لما أسمته ثقافة الشركة "الجديدة" في شركة هيفستس باعتبارها مثالاً لشرعة متعددة الجنسية واهتمت الدراسة الوصفية بـ" برنامج الثقافة الجديدة" في المنظمة والذي يهدف إلى تعزيز "الصورة المثالية الجديدة لموظفي "هيفستس" الذين يظهرون بشكل حماسي قيم التفاني والولاء والتضحية بالذات والعاطفة إزاء المنتج والعملاء " من خلال استخدام المفاهيم التي أصبحت مألوفة الآن مثل "الفريق" و"الأسرة " ومن الناحية الظاهرية تم البرنامج بشكل طيب كما يظهر من تعليق أحد الموظفين المحنكين (منذ 18 سنة ) .
    لكن وسط هذه السعادة البادية استطاعت كيزي – كونها تكتب من منظور نفسي- بيان التنافر الإدراكي مما أطلقت عليه " متطلبات التثاقف" (التثقيف المتبادل من خلال التفاعل، المترجم): "عملية ملاءمة الذات مع الظروف القيمية الجديدة في الثقافة التي تم تصميمها" وينتج القلق والغموض من " الضبط القيمي على نمط الضبط الأسري والذي تتم فيه مراقبة أعضاء المنظمة وتنظيم سلوكهم من خلال استدخالهم قواعد السلطة و سلوك الجماعة إلى أنفسهم وهي القواعد التي تم إرساؤها في عملية التأهيل الاجتماعي واكتساب الطابع الاجتماعي أثناء مرحلة الطفولة والتي تشجع ثقافات على النمط العائلي النكوص إليها " وتصبح النتيجة النهائية أن يكون الاستعمار هو الإنجاز الأبرز
    لجهاز الثقافة الجديدة الانضباطي الذي يعوق النمو النفسي والنضج ويحيد الوعي بعملية الضبط " ص. 174. وفي مثال آخر وصفت كيزي استخدام – أو ربما سوء استخدام – الثقافة التنظيمية كأسلوب فني (تكنيك) للضبط في كلمات الندم التي أبداها أحد كبار مديري التسويق في اجتماع تال للاجتماع الذي انتقد فيه والتي تظهر آثار عملية الاستعمار
    وأخيرا حاول ميلز و بوليشتاين و لوريان دراسة الثقافة التنظيمية في شركة ساترن للسيارات من منظور " ما بعد حداثي" وأشاروا بأنه " يمكن اعتبار حكي القصص كأسلوب انضباطي تستخدمه المنظمات لجبر الأفراد على الطاعة بطريقة خفية " ص. 119. وقد راجع المؤلفون المواد الإعلانية ومواقع الإنترنت دون القيام بأية مقابلات ومن الطريف أن كتاب المقالة عنونا مقالتهم " عمل الثقافة التنظيمية في شركة ساترن " مستخدمين المصطلح الذي ذكره كاندا في دراسته لكنهم لم يشيروا على كاندا لا في المتن و لا في المراجع.
    ملخص المنظور النقدي للثقافة التنظيمية
    وفق رؤية فوكو فإن " القوة منتجة فهي تنتج الواقع وتنتج موضوعات وطقوس الحقيقة وينتمي الفرد والمعرفة التي يكتسبها إلى عملية الإنتاج هذه" ويشرح فيلدمان هذا بقوله:
    " في هذه الرؤية القوة هي نوع من عمليات الانتاج الاجتماعي والتي من خلالها يتم خلق المعنى والحفاظ عليه ومن ثم تصبح المعرفة أداة القوة التي يستخدمها الناس لإضفاء المعنى على العالم دون أن يعوا بشكل كامل تضميناتها ويرى فوكو هذه العملية كطقس يتم إعماله بشكل جماعي .. والمعرفة هي وسيلة طبيعية للقوة إذ قبل السيطرة على شئ ما لابد أن يكون معروفاً أولاً ... وبمجرد معرفته يمكن التلاعب به و تغييره"
    وتضيف كيزي " بالنسبة لفوكو التنظيم الاجتماعي المؤسسي للأفراد لتحقيق غايات مؤسسية يتم إنجازه من خلال جهاز ضبط خطابي يتشكل فيه الناس ويتم تعديلهم وتقييدهم و السيطرة عليهم. وأيما كان المصطلح المستخدم " الضبط القيمي " أو "الضبط التنسيقي" أو حتى " الثقافة الجديدة" فإن ما يحدده كتاب المنظور النقدي يظل استخدام القوة - بغض النظر عن براعة و دهاء هذا الاستخدام - والذي يجري عادة من خلال ما يطلقون عليه الاستعمار فكما أشارت كيزي " يخفي حطاب الثقافة التنظيمية الجديد ويلطف إلى حد بعيد استمرار متطلبات المنظمة بوجود موظفين منتجين مذعنين تم ضبطهم.
    يظل السؤال الأخير: لماذا؟ لماذا تستخدم الثقافة التنظيمية كأداة لممارسة هذا الشكل من القوة الذي تصفه النماذج الوظيفية وتسعى النماذج النقدية لكشفه وتعريته؟ كصدى لأفكار فوكو يجد باركر أول معالم الإجابة :" إن استخدام أساليب الحكم التي يمكن أن تنتج ذواتاً منضبطين ذاتياً يبدو خياراً مربحا للمنظمات الرأسمالية التي لا يمكنها – لأسباب عدة أن تعتمد على بشكل كامل على الضبط المباشر" (ص. 25) اما لماذا لايمكن لهذه المنظمات أن تعتمد ثانية على الضبط المباشر ؟
    فإن راي كيزي مهم في هذا الصدد :" الضبط القيمي على غرار الأسرة يسهل بشكل متزامن ويعوض تآكل أو اختفاء الإشراف المتدرج المستويات " ففي عصر خفض حجم (أو تصحيح حجم) المنظمات فإن شريحة الإدارة التي غالباً ما يتم استبعادها هي الإدراة الوسطى فما الذي سيحل محل وظائف مدير الإدارة الوسطى؟ لماذا لا يتم جعل الموظفين يديرون أنفسهم من خلال " الفرق التي تدير ذاتها" (باركر، 1999) أو ببساطة من خلال الإدارة الذاتية القائمة على – بطبيعة الحال – الاستعمار ب"المعرفة " المنبثقة عن تعلم "ثقافة " المنظمة؟ إن بيئات المنظمات قدمت هي الأخرى الحافز لاستخدام الثقافة التنظيمية كأداة تلاعب في يد الإدارة للاحتفاظ بالقوة والضبط من خلال وسائل غير مباشرة أثناء استبعاد شريحة مديرو الإدارة الوسطى الذين كانوا يمارسون الضبط بشكل مباشر.
    برغم أن كتاب المنظورات النقدية يعلموننا بالمعنى الحقيقي للثقافة التنظيمية في العديد من المنظمات فإنهم نادراً ما قدموا نماذج بديلة مفصلة وبدا هدفهم هو تقويض وتفكيك النماذج الوظيفية وليس تقديم بدائل ولفهم ما توصلت إليه هذه الدراسة حاولت تقديم نموذج بديل للثقافة التنظيمية في الفصل الثالث لكن لما كانت هذه الدراسة تشكل دراسة حالة وصفية (إثنوجرافية) لمؤسسة تعليمية يصبح من المهم فهم ماذا يمكن أن نتعلمه من المؤسسات الأكاديمية فيما يتصل بالثقافة التنظيمية.
    البنيات المفهومية للثقافة التنظيمية في المؤسسات الأكاديمية
    جورج كوه و إليزابيث ويت
    كثيراً ما يتم الاستشهاد بدراستهما "الثراء والتنوع الخفي: الثقافة في الكليات والجامعات الأمريكية" وبتعريف "الثقافة في التعليم العالي" المذكور فيها:
    باعتبارها أنماطاً جماعية من معايير السلوك يشكل بعضها بعضاً والقيم والممارسات والمعتقدات والمفترضات التي تشكل سلوك الأفراد والجماعات في مؤسسة التعليم العالي وتقدم إطاراً مرجعياً لتفسير معاني الأحداث والأعمال داخل وخارج الحرم الجامعي"
    وهذا تعريف وظيفي يستعير الكثير من "سكين" ويقر المؤلفان بأنه " يؤكد على التأثيرات القيمية على السلوك ونظام الافتراضات والعقائد الذي يتشاركه حملة الثقافة" كما أنهما استعارا بشكل مكثف من نموذج ترايس وباير للثقافة الذي يركز على الطقوس والرموز و القصص إلخ ومع ذلك فإن الكاتبين بتركيزهما على الثقافة كظاهرة سياقية يقدم إطاراً جيداً لتحليل الثقافة في المؤسسات الأكاديمية في شكل "طبقات" الطبقة الأولى طبقة البيئة الخارجية للمؤسسة والتي تمثل إلى حد ما "ثقافة كلية" وهو ما يناظر مفهوم " البيبئة الأكبر" المستخدم في دراسة بيئات الأعمال.
    والطبقة الثانية هي طبقة المؤسسة نفسها وقد أشار "كوه" و"ويت" بأنه "لابد لفهم وتقدير ثقافة الكلية من الدراية بتاريخها أو رسالة الكلية الأصلية، وتراثها الديني أو العرقي، والظروف التي تأسست في ظلها" ( لاحظ التأكيد الوظيفي على دور مؤسس المنظمة كأحد العناصر الأساسية لفهم ثقافتها) وقد قسمها "كوه" و"ويت" الى : أ- قصص البطولة (ذاكرة المؤسسة) ب- البرامج الأكاديمية جـ ـ الموضوعات والأفكار الأساسية دـ السمات التنظيمية و هـ - العوامل الأخرى وضمن هذه العوامل الأخرى نهتم بتركيزهما على الثقافات الفرعية .
    ويليام تيرني
    ومقتربه لا يختلف عن المقتربات الوظيفية الأخرى من حيث تقديم إطار عملي لتشخيص الثقافة ومشكلاتها في الكليات والجامعات بحيث يمكن التغلب عليها، لكن تعريفه العام للثقافة كان أقل تاثراً بالمصطلحات الأنثربولوجية: " تنعكس ثقافة المنظمة في ما يتم القيام به ، ومن يقوم به، وعلى أي نحو" أما الاستعارة المستخدمة في تحليل الثقافة التنظيمية في الجامعة أو الكلية فهي التشبيه بالشبكة فهي " شبكة مترابطة لا يمكن فهمها دون النظر لا إلى بنية وقوانين الشبكة الطبيعية وحسب بل وإلى تفسير الفاعلين للشبكة نفسها. فالثقافة التنظيمية إذن هي دراسة شبكات معينة للدلالة والمعنى في وضع تنظيمي معين" ومع ذلك فإن تيرني وصف مدخله هذا بأنه "كتعريف للثقافة التنظيمية قابل للاستخدام ومناسب للتعليم العالي يظل مثيراً للخلط"
    و تكتسب دراسة تيرني أهميتها الخاصة للدراسة الحالية باعتبار دراسة الحالة الوصفية الاثنوجرافية التي قام بها بالملاحظة بالمشاركة لدراسة الثقافة التنظيمية في الكلية، فقد أجريت الدراسة ليقوم بتحليلها بتطوير "إطار للثقافة التنظيمية " يتضمن العناصر التالية:
    البيئة: كيف تعرف المنظمة بيئتها؟ ما اتجاه المنظمة إزاء البيئة؟ (عداء / ود )
    المهمة: كيف تم تعريفها ؟ كيف يتم بيان محاورها ؟ هل تستخدم كأساس للقرارات المتخذة؟
    التأهيل والإدماج الاجتماعي: كيف يصبح الأعضاء الجدد مندمجين اجتماعياً ؟
    كيف يتم تفصيل محاور عملية التأهيل الاجتماعي؟
    ما المعلومات التي نحتاج معرفتها لنستمر أو لنتفوق في هذه المنظمة؟
    المعلومات: ما الذي يمثل معلومات بالنسبة للمنظمة؟
    وبحوزة من ؟ وكيف يتم نشرها؟
    الاستراتيجية: كيف يتم التوصل للقرارات
    ما الاستراتيجيات المتبعة؟
    ما العقوبات المقررة على القرارات المخطئة ؟
    من يتخذ القرارات ؟
    القيادة: ماذا تتوقع المنظمة من قادتها؟
    من القادة؟
    هل يوجد قادة رسميون و آخرون غير رسميين؟
    من الواضح ان هذا الإطار مصمم لدراسة الثقافة التنظيمية في مؤسسة أكاديمية على مستوى كلي بخلاف دراستي التي تركز على التصورات بصدد كيفية تعلم الثقافة في الكلية محل الدراسة، لكن بعض الأسئلة كانت مفيدة لي في تكييف وتعديل إجراءات المقابلة.
    لكن اهتمامه بالثقافات الفرعية كان ينبع من أن دراستها – بتعبير وظيفي – ستمد " الإداريين بمعلومات مفيدة بشأن كيفية زيادة الأداء و خفض الصراع في المجموعات المعنية".
    في التسعينات، بدأ اهتمام تيرني يتطور ليرى الثقافة من منظور " التأهيل الاجتماعي في الكلية" الذي يشمل: أ- مرحلة توقع ( خبرات التعلم قبل وبعد التخرج) ب – مرحلة تنظيمية بمواجهة الكلية الجديدة عليهم بما تتسم به من وحدة وعزلة فكرية وافتقار لدعم الزملاء وأعباء العمل الشديدة الوطء.
    وبعدها بسنوات قام تيرني (1997) بمراجعة لرؤيته للثقافة التنظيمية في أوضاع التعليم العالي بالتركيز على مناقشة ما أسماه " الإدماج الاجتماعي التنظيمي" وقدم رؤية ما بعد حداثية، وركز على الملتحقين الجدد في الأوضاع الأكاديمية، وقد واجه تيرني المنظور الحداثي للثقافة التنظيمية باعتبارها: ثابتة نسبياً ويمكن فهمها من خلال الاستدلال ومن ثم فإن الثقافة تعلم الناس كيف يتصرفون وماذا يأملون وماذا يعنيه نجاحهم أو إخفاقهم... فمهمة الموظف الجديد هي أن يتعلم العمليات الثقافية في المنظمة ويدرك كيفية استخدامها "واجه تيرني هذا المنظور الحداثي بمنظور ما بعد حداثي يراه: " تفسير لثقافة تعرض صورة المنظمة الذاتية أقل تحديداً بكثير من التفسير الحداثي، فالثقافة عرضة ، وهي ليست تعريفاً للعالم كما هو عليه، بل أمشاج من الآمال والأحلام بما يمكن أن يكون عليه العالم التنظيمي.
    وفي سياق الثقافة يعني "التأهيل والإدماج الاجتماعي" أن الثقافة لا يكتشفها موظفون جدد لا يتغيرون (حسب سماتهم وخلفياتهم) بل تتضمن عملية التأهيل الاجتماعي عملية أخذ وعطاء يقوم فيها الأفراد بإضفاء المعنى على المنظمة من خلال خلفياتهم الفريدة والسياق الحالي الذي توجد فيه المنظمة.
    ويشير" سوكوجاوا" (1996) بأن نموذج "تيرني" يعلمنا أنه "لا يمكن فهم ثقافة المنظمة بتحليل بنيتها وحسب بل بتمحيص تفسيرات أعضائها لما تعنيه هذه البنية لهم"
    وقد كتب تيرني و "رودس" دراسة مفيدة عن التأهيل والإدماج الاجتماعي في الكلية كعملية ثقافية، و عرفا التأهيل الاجتماعي التنظيمي بأنه " عملية ثقافية تتضمن تبادل أنماط الفكر والسلوك وبالنسبة لأعضاء المنظمة فهو عملية تعلم لقواعد وشروط العمل في هذا المجال" ومن الأهمية بمكان ما أشارا إليه من أن التأهيل الاجتماعي لا يجب أن يكون هدفه مجرد تعلم الأفراد عن المنظمة بل يتم أيضاً إعادة اكتساب المنظمة للطابع الاجتماعي بتأثير القادمين الجدد.
    مفاهيم أخرى للثقافة التنظيمية
    تعلم الثقافة
    رأى "ترايس" و "باير" أن جزء مهماً من التأهيل والتطبع الاجتماعي غير الرسمي هو تعلم ثقافة الوظيفة، وهنا يظهر بالمثل الاختلاف بين المنظورين الوظيفي والنقدي، فالعديد من النماذج الوظيفية طورها باحثون يعملون غالبا كاستشاريين تنظيميين، وكما هو متوقع تكون النتيجة صيغة من قواعد التشخيص ووصفات العلاج حيث يتم إحضار شخص (غالباً استشاري مدفوع الأجر) ليشخص "ثقافة" المنظمة ويصف العلاج الذي تكون نتيجته زيادة الكفاءة وبشكل محتمل الربحية أيضاً، وقد دهشت عندما وجدت أن التعلم داخل المنظمة يمكن تصنيفه على نحو مشابه: فهناك تراث من أدبيات "منظمة التعلم" أو " التعلم التنظيمي" الوظيفية لكن في الأعوام الأخيرة ظهرت أدبيات نقدية لهذه المداخل
    النماذج الوظيفية للتعلم داخل المنظمات
    يحسب لـ" سينج" إكساب مفهوم " التعلم التنظيمي" شعبيته ويقوم نموذجه على 5 " قواعد لتعلم الانضباط" تسم " منظمة التعلم" : البراعة والتفوق الشخصي، والنماذج الذهنية، والرؤية المشتركة، والتعلم في فريق والتفكير النسقي وقد لاحظ " ووناكوت" أنه : يمكن وصف منظمة التعلم باعتبارها ثقافة تنظيمية يمثل تطوير الأفراد فيها أولوية مهمة، ويتم فيها تحديد طرق التفكير الخطأ والخارجة عن النهج المستقيم وتصحيحها، ويفهم جميع أعضاء المنظمة رؤيتها وغاياتها بشكل واضح ويدعمونها.
    على الرغم من أن قاعدة تعلم الانضباط الخامسة (التفكير النسقي) أثارت أغلب النقاش فإن قاعدة النماذج الذهنية ( الافتراضات والتعميمات المتأصلة وحتى الصور التي تؤثر على كيفية فهمنا للعالم ) وقاعدة بناء رؤية مشتركة تتسق مع النماذج الوظيفية للثقافة التنظيمية، والحقيقة إن المرء ليصدم بالجوانب الموضوعية لمفهوم "التعلم التنظيمي" والسهولة التي يمكن بها أن تسئ بها الإدارة تطبيقها لكي "تشكل " قوة العمل وخاصة أن "سنج" يرى الفرق وليس الأفراد هي " وحدة التعلم الأساسية في المنظمات الحديثة" وأهمية هذا النموذج أنه أصبح بمثابة أساس لغيره من الأدبيات الوظيفية في التعلم التنظيمي.
    ومن المفاهيم المهمة التي يمكن تطبيقها بشكل مباشر في هذه الدراسة مفاهيم التعلم "الرسمي" و"غير الرسمي و"العرضي" التي أكسبها " مارسيك" و "واتكن" شعبيتها في دراسته " التعلم غير الرسمي والعرضي في العمل" وقد عرفا التعلم بأنه " الطريقة التي يكتسب بها الأفراد والجماعات ويفسرون و يعيدون تنظيم او يغيرون ويتشربون مجموعة من المعلومات والمهارات والمشاعر ذات الصلة وهو أساسي للطريقة التي يبني بها الناس المعنى في حياتهم التنظيمية الشخصية و المشتركة" وهو التعريف الذي تستخدمه الدراسة.
    يتمثل أساس دراسة "مارسيك" و "واتكن" في استكشاف بدائل للتركيز على "التدريب والتطوير" باعتبارهما يشكلان " التعلم في العمل" وقد أشار بأن "الناس يتعلمون في أماكن العمل من خلال تفاعلهم مع الآخرين في بئات عملهم اليومية متى اشتدت الحاجة للتعلم" وأهمية دراستهم بالنسبة للدراسة الحالية تتمثل في تميزهم بين التعلم الرسمي وغير الرسمي والعرضي وقد وصفا التعلم الرسمي باعتباره التعلم الذي ترعاه المؤسسات ويقوم على وجود فصول وبنية مصممة إلى حد بعيد أما التعليم غير الرسمي فإنه على الرغم من أنه يجري داخل المؤسسات في الغالب فإنه على العكس من ذلك لا يقوم على الفصول ولا بنية محددة وينطوي على تحكم في التعلم متروك بشكل كامل للمتعلم أما التعلم العرضي فهو "فئة فرعية من التعلم غير الرسمي تظهر كمنتج جانبي لبعض الأنشطة الأخرى مثل إنجاز المهمة والتفاعل بين الأشخاص وأساليب حسن الفهم والتقدير (الثقافة التنظيمية ،التجربة والخطأ أو حتى التعلم الرسمي) " (ص12) التعلم العرضي هو تعلم غير مقصود وعادة ما لا يكون المتعلم واعياً بحدوث عملية التعلم ويشمل التعلم من الأخطاء و والتعلم من خلال القيام بالعمل والتعلم من خلال سلسلة من التجارب غير الظاهرة ما بين الأشخاص"
    وقد أرسى "مارسيك " و"واتكين" الأساس النظري لهذا التصنيف بالاستعارة من " التعلم التجريبي" (كولب، 1984) وقد أشارا بأن مفاهيم التعلم غير الرسمي والعرضي تعود إلى "لندمان" (1926) وقد أخذا الكثير من "أرجريس" و "سكون" (1974) وتحديداً مفهوم التعلم في خطوة واحدة وعلى خطوتين، وأشارا بأننا "نرتكب الأخطاء لأننا نقفز من البيانات القابلة للملاحظة بشكل مباشر إلى استنتاجات على مستوى أعلى نفترض دقتها، ونتصرف بناء عليها" (مارسيك و واتكين ، 1990، ص. 18) وقد فضلا نموذج "سيل" على نموذج "كولب" على أساس أن "كولب" ركز على التعلم الفردي في حين ركز "سيل" على السياق التنظيمي وأشارا بأن "سيل" يعتقد أن الأفراد يجاهدون في مكان العمل للحفاظ على استقلاليتهم في وجه عملية التأهيل الاجتماعي الملحة والضاغطة، فإن لم ينجحوا في ذلك يكون عليهم أن يقللوا إلى أدنى حد الأضرار النفسية الناجمة عن تكتيتكات البقاء والاستمرار في المنظمة والتي يشعرون بأنهم مرغمين على تبنيها" (ارسيك وواتكين، 1990، ص. 20) وما يهمنا بالنسبة لدراسة الثقافة القيد الذي يرد (حسبما أشار مارسيك وواتكين) على التعلم غير الرسمي والعرضي: "عندما يجري التعلم العرضي كجزء من عملية استدخال الأفراد للثقافة التنظيمية أو السياسة في نفوسهم فإن وضوح الثقافة وإمكانية مناقشتها تحد من التعلم"
    وقد عالج (مارسيك وواتكين ) تطبيق مفاهيم التعلم هذه على الثقافة التنظيمية في سياق أهمية " التأمل النقدي" للتعلم العرضي والتعلم غير الرسمي على وجه الخصوص:
    فعندما نفكر بشكل نقدي في المنظمات نولي اهتماماً ونبحث في ما يشيع معرفته باعتباره ثقافة المنظمة ( الطرق التي تتم بها الأمور هنا) والتثاقف هو تعلم غير رسمي يتضمن بشكل نمطي تأهيلا اجتماعياً "غير مبصر " (عشوائي) للعاملين، ويعود هذا - جزئياً - إلى أنه لابد للمنظمات من تأهيل عدد كبير من الناس - بما لهم من طرق مختلفة في رؤية العالم - ليشكلوا جسداً واحدا على قدر من التجانس الكافي لتحقيق أهداف المنظمة"
    وقد أشارا بأن الموظفين الجدد " يتعلمون قواعد العمل بملاحظة الآخرين واتباعهم" فقد يسأل الموظفون عن كيفية أداء الأمور لكن في أحيان عديدة قد يكونون منضوين في منظمات عديدة - ولإدراكهم القواعد على أنها غير قابلة للنقاش - ومن ثم لا يسألون عن شئ" لذلك يسأل وصف المقابلة التي أجريها المشاركين بشكل محدد : إلى أي مدى يوجهون أسئلة من حين وجودهم في جلسات التوجيه فصاعداً لكي يتعلموا ثقافة الكلية.
    وأخيراً فقد طور "واتكين" و "مارسيك" ما أطلقا عليه مصطلح "مستويات التعلم" والتي تشمل: (أ) الفرد (ب) الجماعة (ج) المنظمة (د) المهني المحترف. ويهمنا بالنسبة لدرستنا هذه التعلم على مستوى الاحتراف، وقد أشار "مراسيك وواتكين" بأن المحترفين لا يسهل إدماجهم اجتماعياً في المنظمة لأنهم تعلموا التفكير باستقلالية، وعادة ما يفضلون الاستقلال الذاتي والتوجيه الذاتي و التنظيم الذاتي " وقد اعتقدا بمحورية التعلم على مستوى المحترفين للتعلم غير الرسمي والعرضي، ولاحظا بهذا الخصوص أنه " نظراً لأن المعايير توضع خارج المنظمة فإن المهنيين المحترفين يمكنهم خلق مجموعة قواعد وممارسات وقيم واتجاهات على مستوى نظامي أعلى تؤثر على ثقافة وممارسات المنظمة من خارجها".
    وقد استشهد واتكين ومارسيك بالعديد من الدرسات الإمبريقية التي أجرياها لتأييد مفاهيمهما الخاصة بأنماط ومستويات التعلم.
    بناء على العرض الملخص السابق، لماذا أعد مارسيك وواتكين منظرين وظيفيين؟ لأن دراساتهم تتضمن "الخلاصات والتضمينات" المعهودة الآن، والتي أطلق عليها التشخيص + الوصفات العلاجية، وفي 1993 تبنيا في دراستهما المعنونة " بناء منظمة التعلم: دروس في فن التغيير النسقي" مصطلحات "منظمة التعلم " التي أشاعها "سينج". ولاحِظ التطبيق التجاري للتعلم الرسمي وغير الرسمي الذي اقترحاه في دراستهما : " مزيج من مقتربات التعلم الرسمي وغير الرسمي: الأساليب غير الرسمية للإعداد الأساسي والتفكير المجرد والمركب والإجراءات الروتينية، والأساليب غير الرسمية لصنع القرار في موقع العمل والحلول المفصلة في سياقات محددة و الاستثناءات التي تجري خروجاً عن القاعدة" (واتكين و مارسيك، 1994، ص 25). وحتى في بداية 1999 ظلا يركزان على بناء "مجتمع تعلم " لكن بنهاية العام بديا يقران بالنقد المتصاعد من المنظرين النقديين مثل " فنويك" (1999) وأقرا بوجود جانب مظلم ل"منظمة التعلم" حيث إمكانية إفساد الإدارة للتعلم وكانت محاور تركيز مارسيك وزملائه التي أرسوها لمنظمة التعلم عام 2000 هي : (أ) التفكير النقدي (ب) التعاون (ج) الاتصال (د) رأس المال الاجتماعي دون أي ذكر لبناء منظمة التعلم بسبب ما بدا من تأثير النماذج النقدية على المقتربات الوظيفية من التعلم داخل المنظمة.
    النماذج النقدية للتعلم داخل المنظمات
    ظهر في العقد المنصرم العديد من التقييمات لمفهوم "منظمة التعلم" الذي طرحه سنج ومفهوم "بنائها" لـ "واتكين ومارسيك" فقالت "فنويك" بعد كلمات مجاملة ضعيفة تكشف عوار هذه الدراسات: "يعرض مفهوم منظمة التعلم رؤية مفعمة بالدفء لـ" مجتمع " في مكان العمل تتشارك هيئته المعرفة ويتعلمون سوياً بشكل مستمر" ثم تمضي لتصف قاعدة "سنج" الخامسة لتعلم الانضباط بأنها " تشبه مجرد إعلان رأي ووجهة نظر " وتصف سينج وأتباعها "مارسيك" و"واتكن" بأنهم " ذوو توجه برامجي " وهي بذلك تصف ما انتقيته لاستعماله في هذه الدراسة اعتقادا مني أنه ذي طابع وظيفي محدود، فعلى أي أساس كانت حادة على هذا النحو مع ما يبدو لأول وهلة مفهوماً حميداً ؟
    تقيم "فينويك" تناظراً بين خطاب " منظمة التعلم" والدين حيث لاحظت أنها:
    شأنها شأن العديد من الأديان فإن مُثل منظمة التعلم تقتضي من الأفراد التسليم لإرادة عليا أعظم (التفكير النسقي) والاعتراف الطقوسي بالخطايا والمعتقدات الداخلية (الأخطاء والافتراضات المضرة بأداء الوظيفة) في حوار الجماعة النقدي وإخلاصهم لمهمة المنظمة لكن هذا الدين لا يقوم على علاقة بالمقدس بل على هامش الربح الذي يوفره السوق الفائق الرواج ويجري تقديم هدف منظمة التعلم على أنه تحرير وتمكين الأفراد لكنه تحرير مع نوع من الخداع: يوعد الناس بالانعتاق من خلال المشاركة التعاونية في منظمة التعلم لتعظيم كامل إمكاناتهم كعمال أذكياء مبتكرين طالما كان هذا التعلم يخدم بشكل مطلق رخاء المنظمة.
    وأشارت فينويك بأن خطاب منظمة التعلم "يتجاهل المعرفة الحالية المتوافرة عن تطوير وتعلم الكبار" (ص. 10) وتحديداً وجهت نقدها بأن" اهتماماتهم كان يخدمها مفهوم منظمة التعلم، و ما علاقات القوة التي تكفلها" وترى أن خطاب التعلم يفترض أن المنظمة " كيان ثابت ويمكن تحديدها" كما لاحظت أنهما " ذهبا إلى حد اعتبار تعلم الشخص العرضي الذي لا يسهم في تقدم المنظمة يسئ القيام بالوظيفة " (ص. 12) وتمثل انتقاد "فنويك الأساسي لـ" واتكين " و"مارسيك" في أنهما تجاهلا منظور العاملين" بل إنهما هما و"أرجريس" و سنج" كانت لهم مصلحة مالية شخصية في بناء أيديولوجيا تتطلب وجودهم كعناصر للتدحل" أي بعبارة أخرى قاما على سبيل المثال بإطلاق نبؤات تحقق ذاتها بذاتها وهو نقد مشابه للنقد الموجه لمنظري أدبيات الثقافة التنظيمية الوظيفية.
    وفي تعليق آخر رأت أن " دور معلمي الكبار في " منظمة التعلم" يبدو تخريب ممارساتهم للحفاظ على اقتصاد السوق ودعم سيطرة جماعات نخبوية من المهنيين المحترفين و الفنيين والإدارة في هذا النظام" (ص. 13-14) ومضت لتحدد تناقض هذا الخطاب الذي: "عادة ما يكون نظام وصفات يؤدي وظيفة تطبيع وتنظيم على قواعد معينة في حين يزعم أنه يعتق العمال" (ص. 18).
    إن زعم "فنويك" الكاسح بأن " أدبيات "منظمة التعلم" لم تقم بمحاولة تذكر للتمييز بين عمليات التعلم الفريدة للمتعلمين العمال" هو في أفضل الأحوال زعم إشكالي وأرى أن تمييز "مارسيك" و "واتكين" بين التعلم الرسمي وغير الرسمي و العرضي وغيرها من التصنيفات التي طوراها مفيدة في هذا الصدد، لكنني سآخذ بنقدها وبالأخص لـ" التفكير النقدي" في نموذج واتكين حيث استشهدت بـ" كانينجهام" لدعم فرضية أن "التفكير النقدي " لدى العاملين مصمم ليبقى على المستوى السطحي فقط، لكن تظل عقولهم مستعمرة ومخلصة للحضور الاستعماري للمنظمة التي توظفهم ) ص. 18.
    وضمن النقد المابعد حداثي لمفهوم " منظمة التعلم" يأتي مفهوم "جي" وزملائه عن " نظام العمل الجديد" حيث يحذرون من اصطفاف عالم الأعمال في الرأسمالية الجديدة المتزايد مع مصالح المؤسسة البحثية"
    وفي إطار هذه الدراسة من المهم الاستفادة من تطبيق "جي وزملائه" لمفهوم " نطاق التطوير المحوري" واستعارة " شد السقالات" حيث :" حيث ينجز المستجدون بمعونة من هم أكثر خبرة أمراً لم يكونوا لينجحوا فيه بمفردهم ... فيستدخل المستجدون - دون وعي – تفسيرات الخبراء لما تم إنجازه أثناء اكتسابهم تدريجيا المهارات المطلوبة للعمل بمفردهم" (جي وزملاؤه، 1996، ص. 62-63) وبدلاً من مفهوم الاستعمار يستخدم "جي و زملاؤه" مفهوم " القيم الجوهرية" التي "تبذر" في المشاركين فينتج عنها " تعميدهم في "مجتمع الممارسة" وإدخال القيم والأهداف في نفوسهم وعادة ما يتم ذلك دون قدر كبير من التفاوض والأخذ والرد ودون تفكير واع ودون ممارسة كبيرة للسلطة النازلة من أعلى لأسفل.
    ويظهر هنا من جديد دافع المنظور الوظيفي: ففي عصر خفض حجم واستبعاد شريحة الإدارة الوسطى فإن الاستعمار والبذر خلق قناع التمكين وفرق الإدارة الذاتية مع الاحتفاظ بشكل من أشكال الضبط يصبح سبيلاً من الكفاءة من ناحية النفقة بما يجعل الإدارة تسعى لاستكشافه بمعاونة استشاريي " الثقافة التنظيمية"
    وقد وصف "جاريك" (1998) ما اعتبره " الخطابات المسيطرة " في مجال التعلم في مكان العمل بأنها تشمل (أ) نظرية رأس المال الإنساني (ب) التعلم القائم على الخبرة (ج) الخبرة والإدراك اثناء العمل (د) المهارات والقدرات والكفاءة العامة . وما يهمنا في هذه الدراسة عرضه لـ"نظرية رأس المال الإنساني" التي عرفها على نحو غامض بعض الشئ بأنها :" القدرات المنتجة للإنسان" وقد قدم " سكيد" تعريفاً أجدى لهذا المفهوم المهم هو: تعتقد نظرية رأس المال الإنساني بالأساس بأن المكاسب على المدى الطويل أو معدل العائد من استثمار الفرد في التعليم
    يفوق كل معدلات الأشكال الأخرى من الاستثمار فالتعليم يزيد المهارات ومن ثم من إنتاجية قوة العمل" وعلى الرغم من أن تعريف جاريك هذا تم تجاهله فإن تطبيقه على دراسة "مارسيك " و"واتكين " كان شديد الوضوح حيث لاحظ "جاريك" أن مدخلهما الكلي لفهم التعلم في العمل مع الإقرار بأهميته لم يدرس بشكل ملائم الأبعاد البنائية والسياسية المتأصلة في التعلم في مكان العمل: "إن الآثار الاجتماعية والثقافية والخطابية (بما في ذلك العلاقات بين الناس على مختلف مستويات العمل ) هي التي تضمن الدراسة المستوعبة والمحكمة" وهو الزعم الذي صاغه "سكيد" باعتباره " صراعا مستمرا على من يسيطر على معرفة العمال".
    وفي نقده لـ"التعلم القائم على الخبرة" أصبح نقد "جاريك" الصارم أكثر وضوحاً، فنظرية رأس المال الإنساني و التعلم القائم على الخبرة تفترضان قدرة الفرد على الفعل، وهو ما قد يخالف الواقع فـ" الخطاب التعليمي حول التعلم القائم على الخبرة والتجربة يتقاطع لحس الحظ مع الخطاب الإداري بشأن إصلاح مكان العمل" وتتمثل خطورة خطابات التعلم في العمل هذه في أنها قد تصبح" مدمجة في ثقافة مكان العمل من خلال نظام مكافآت مغر، ويشمل ذلك تعلم رسمي في مكان العمل" وعلى الرغم من أهمية مفاهيم التعلم الرسمي وغير الرسمي والعرضي كعدسات يمكن من خلالها فهم تعلم التصورات المختلفة عن الثقافة التنظيمية في المنظمة فإنها تعاني من عيوب بنيوية متأصلة فيها لابد من أخذها في الاعتبار لدى تطبيقها كما أنها عرضة لسوء استخدام الإدارة لها بحيث تسمح بـ" إجراءات سيطرة مقحمة" و من المهم التركيز على القدرة على الفعل لمعادلة هذه العيوب البنيوية.
    ومن منظور ما بعد حداثي شأنها شأن "جاريك" تقر "سولومون " (1998) بالحاجة للعمل لمواجهة القوة القمعية المحتملة للتعلم في مكان العمل حيث تعنى إدارة التدريب جعل الاختلافات غير مرئية ببناء خبرات المتعلمين وهيكلتها لتتلاءم مع قاعدة سلوك تجري السيطرة عليها مركزياً. وترى "سولمون" أن مكان العمل في فترة ما بعد الفوردية عادة ما تعني الثقافة فيه "الإغراء بالتماثل" فكان محور تركيزها استخدام أصحاب العمل لخطاب "التنوع الإنتاجي" مع ممارسة نموذج الاستيعاب التقليدي. وقد أوضحت "سولومون" الطبيعة الإشكالية" لدراسة التعلم في مكان العمل كممارسة ثقافية"
    وتعرض دراسة "مور" 1986 دراستي حالة اثنوجرافيتين (وصفيتين) للتعيين تحت التدريب في أوضاع تنظيمية محدودة: ورشة لصناعة الأثاث ورابطة لحماية الحيوانات وذلك لفهم سياق التعلم في مكان العمل . ويمكن في هذه الدراسة تطبيق استخدامه لمفهوم الحكايات وجهده " لاكتشاف وتحليل العمليات الاجتماعية التي يتم من خلالها إدخال القادمين الجدد (في هذه الحالة الموظفين تحت التدريب) بدرجة أو أخرى من التنظيم إلى تحديد وتوزيع و استخدام المعرفة" (ص. 167) ويركز الإطار البنائي مفاهيم " ملامح مهمة" وظيفة معينة و"الوسائل الاجتماعية" (كيف يتم أداء الوظيفة فعلياً) وبعد دراسة حكايات المتدربين خلص "مور" (1986) إلى أن " المسألة التعليمية الأساسية في مكان العمل ليست استخدام أشكال ثرية من المعرفة في هذه البيئة من عدمه بل ما إذا كان القادمون الجدد لديهم القدرة على النفاذ والوصول إلى هذه المعرفة و بأي كيفية أي كيف يلتقونها وكيف يحوزنها وكيف يطلب إليهم استظهارها وكيف يعملون وفقها وكيف يحولونها" (ص. 183)
    أما دراسة "بريوت" (1999) فوفق رؤيتها أن " ثقافة المنظمة تحدد إلى حد بعيد طبيعة عملية التعلم والكيفية التي يجري بها التعلم في المنظمة" سعت لتحديد انماط الثقافة التنظيمية في جامعة ولاية أوهايو باستخدام أداة تحليل كمية هي إطار القيم المتنافسة ويصف هذا النموذج أنماط الثقافة بأنها إما (أ) ثقافة المراتب المتدرجة (ب) ثقافة السوق (ج ثقافة العشيرة (د) أو ثقافة التوجه لأغراض وحاجات معينة وجرى تعريف ثقافة العشيرة بأنها " منظمة تركز على الحفاظ داخلياً على الذات بقدر من المرونة والاهتمام بالناس والحساسية للعملاء "
    ومن الأسئلة المهمة التي أثارتها دراسة "سوكوجاوا" 1996 هل تصورات الكلية بشأن أنماط الثقافة تختلف في ما بين الجماعات الموجودة فيها في نفس النظام أما أنها تختلف باختلاف العوامل الفردية الديموجرافية (مثل العمر ) وخلصت الدراسة للإجابة على السؤال الأول بالإيجاب كما أظهرت أن الخصائص الديمجرافية لا تؤثر على تصورات أعضاء هيئة التدريس في الكلية لثقافة مؤسساتهم.
    وأشارت دراسة سوكو جاوا بأن فهم كيف تصف هيئة التدريس التفرد الثقافي لمؤسساتهم يمثل مفتاح فهم الكليات كمكان عمل وبيئات تعليم وتعلم.