عمرانيات

مدونة تهتم بقضايا العمران الإنساني بالبحث والترجمة الزائر الكريم: تفضل بزيارة مدونتي الأخرى Mnzoor.blogspot.com Alkasd.blogspot.com

الأربعاء، ديسمبر ١٠، ٢٠٠٨

تبديد النص: الجابري قارئاً لابن خلدون

  • Alkasd my other blog
  • توطئة
    ليس من شأن هذا المقال أن يعرض الأفكار الرئيسة التي تناولها د. محمد عابد الجابري في كتابه: فكر ابن خلدون ، العصبية والدولة ، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، فمهما حاول فلن يكون إلا إعادة إنتاج أو حاشية سيئة على متن جيد الخدمة، كما أن هذا لن يفيد في محاولة تلمس القراءة المنهجية لإسهامات أعلام الفكر السياسي الإسلامي بوصفها كذلك، فالأهم هو بالوعي بمنهج القراءة وإشكالاته وطريقة تحليل النص، وتزداد هذه الأهمية عندما يكون القارئ هو المفكر المغربي "الجابري"، لا لاحتفاء المغاربة الخاص بابن خلدون وحسب بل للتكوين الفكري للجابري الذي جعله معايشاً لكتابات ابن خلدون في المقدمة التي قرأها - كما يذكر-عشرات المرات على مدار عشر سنوات هي وغيرها من كتابات ابن خلدون ومثابرته وجده في متابعة كل ما يكتب عن ابن خلدون قدر الإمكان، الأمر الذي جعله يحس بضرورة أن يقف وقفة منهجية مع هذه الكتابات ليكون كتابه نقطة نظام في خضم هذه الدراسات الخلدونية "، " فالدراسات الخلدونية أصبحت اليوم في حاجة ماسة إلى عملية تصحيح تعود بالفكر الخلدوني إلى إطاره الأصلي ويحتفظ له بكليته وهويته الحقيقية"
    منهج القراءة
    ربما كان الوعي بمسائل المنهج أهم ما يميز الجابري الذي يحدد منهجه في قراءة ابن خلدون وتقديم آرائه كما هي أو كما فكر هو فيها انطلاقاً من نظرة شمولية تحرص على تجد للأجزاء مكانها في الكل حرصاً على النظر إليها على ضوء مشاغله الشخصية وتجربته الاجتماعية، وعلى اعتبار أنها امتداد وتطور لمنازع الفكر العربي السياسي والاجتماعي منه خاصة (ص.10) فهو منهج يجمع بين قراءة النص وقراءة تجربة ابن خلدون السياسية والاجتماعية والعلمية باعتبار أن الظاهرة الخلدونية تكشف عن مسالك النظرية أو النص ، والنظرية توضح أبعاد الظاهرة تعبيراً عن امتزاج الفكر بالممارسة امتزاجاً قوياًَ وخاصاً هو سر عبقرية ابن خلدون ومنبع أصالته، والهدف من قراءة ابن خلدون بهذا المنهج ليس تجميده في إطار عصره بل استنطاقه لرسم معالم نظرية في التاريخ الإسلامي يمكن أن تضيف لفهمنا للإشكاليات التي تواجه الفكر العربي اليوم، ولا يتأتى ذلك بالتأكيد على طرافة ابن خلدون أو ريادته على ضوء الفكر الحديث والمعاصر، ولا بتجزئته أفكاره وتنازعها بين التخصصات العلمية الحديثة، كما لا يتأتى بالتأويل الواسع لابن خلدون بما لا تحمله كتابات ابن خلدون.
    الكتاب يظهر من عنوانه؟
    إذا كانت هذه هي الغاية وهذا هو المنهج كما بسطه الجابري في مقدمة الكتاب التي تمثل عقداً بين الكاتب والقارئ فهل هذا ما التزم به الكاتب؟
    الكاتب هو الأسلوب كما يقال فصياغة عنوان الكتاب وعناوينه الفرعية وتقسيم الكتاب على نحو معين يعبر عن رؤية معينة للكاتب فبالنسبة لعنوان الكتاب فيبدو أن الكاتب قد أراد بهذه الصياغة على النمط الإفرنجي في الكتابة أن تظل مفتوحة لتأويلات متعددة فالعنوان هو فكر ابن خلدون العصبية والدولة معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي ومن ثم يبقى المضمر في العنوان أكبر كثيراً من المصرح به هذا المضمر يكشف عن نفسه بقراءة تقسيم الكتاب والقراءة المتأنية لفصوله.
    فأول ما يلفت الانتباه في العنوان أن محوره ابن خلدون فالكتاب عن فكر ابن خلدون دونما إشارة للمعلم المميز لهذا الفكر وهي نظرية خلدونية فهي ليست مثلاً نظرية فلسفية مثالية أو واقعية أو اجتماعية أوعمرانية ولا حتى إسلامية أو عربية بل هي خلدونية وكفى! ويرتبط هذا بالتأكيد على الطابع الاستثنائي لابن خلدون في الحضارة الإسلامية وأنها نظرية تستعصي على الوصف ضمن الأطر المعرفية في وقته أو حتى في وقتنا
    ومن ناحية أخرى فإن ثمة نزعة اختزالية عند الكاتب تبدو في تقسيمه للكتاب الذي أتى في قسمين أساسيين الأول عن " الرجل وعلمه الجديد" أي علم العمران الذي كان من المفترض أن يكون قطب الرحى في الكتاب لكن الجابري يخصص القسم الثاني لتناول العصبية والدولة في علاقتهما بحركة التاريخ والعمران البشري فهي حركة اختزال متوالية: ابن خلدون وعلم العمران الذي تم اختزاله في نظرية العصبية وعلاقتها بالدولة وهما معاً جوهر الإسهام الخدلوني في فهم (وليس فلسفة ولا تفسير) التاريخ الإسلامي فابن خلدون لا يقدم فلسفة للتاريخ لأنه اقتصر على خبرة معينة وليس لكامل حركة التاريخ ورؤية ابن خلدون التاريخية قد أطلق عليها علم العمران (ص.11)
    وعليه يمكن وضع عنوان الكتاب المُقَطَّع في جملة خبرية كما تقتضي الصياغة العربية كالتالي:
    فكر ابن خلدون محوره العصبية والدولة اللذان هما أهم معالم النظرية الخلدونية في التاريخ الإسلامي
    قراءة السياق وسياق القراءة
    إن قراءة سياق ابن خلدونالفكري والتاريخي تؤكد في رؤية الجابري الطابع الاستثنائي "للظاهرة الخلدونية" كما يسميها، فهو عند تناوله لعصر ابن خلدون يشير إشارات متفرقة لتأثير الأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية على بعض الصياغات الفكرية لابن خلدون مثل عدم الاستقرار السياسي وسرعة تعاقب الدول وتبعية القوة الاقتصادية للقوة السياسية في كثير من الأحيان والاقتصاد الحربي ودوره فإن الكاتب يشير ي النهاية إلى أنه برغم تعرض الكثيرين لمثل ظروف ابن خلدون ونهلهم من نفس المورد الفكري والعلمي "فإن ثمة عنصراً ذاتياً في تجربة ابن خلدون دفعه للاهتمام بشؤون العمران" ص.23 صحيح أن ابن خلدون قد درس العلوم العقلية وعاصر أنماطاً متعددة للعلاقة بين العالم/ المفكر والسلطان خاصة مع تطور نظرية الخلافة إلى منحى واقعي يؤصل لمفهوم شرعية إمامة المتغلب ومن ثم يرى الجابري أن تقلب ابن خلدون لا يسوغ مطلقاً وصفه بالانتهازية السياسية فهو كان متسقاً مع الإطار القيمي السائد من أنه طالما لم يوجد خليفة واحد بعينه فلا فرق بين أن يناصر المسلم هذا المطالب أوالمغالب أو ذاك ومع ذلك كله فإن ابن خلدون تميز بهذا العنصر الذاتي الذي يصفه الجابري "نقطة التحول الخطيرة" و" الانقلاب النفسي " الذي عاناه ابن خلدون قبيل اعتكافه في قلعة بني سلامة والذي يمكن إرجاعه لحس ابن خلدون التاريخي بالمنعطف الذي دخلته الحضارة الإسلامية وانه على أبواب "خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث" بتعبير ابن خلدون.
    وعلى الرغم من تأكيد الجابري أن ابن خلدون بحكم تكوينه الدراسي وخبراته العملية هو مفكر موسوعي نقدي فإنه يجاول رد هذه الطفرة الخلدونية للدراسات الفلسفية التي تلقاها في مقتبل شبابه ولأساتذته الفلاسفة وخاصة "الآبلي" ولا يكتفي بما أورده ابن خلدون من كتب طالعها أو درسها في كتابه التعريف بل يخمن أن ابن خلدون لابد وأنه التقى فلاناً وفلاناً ولابد أنه قرأ كذا وكذا من كتب الفلسفة بل ويذهب إلى أن ابن خلدون بقى فيلسوفاً في تفكيره وفي نظرته للكون.
    إن قراءة الجابري للسياق أهملت الوسط الحضاري وقراءة السياق الفكري في ضوء نصوص الكاتب الأخرى مثل كتاب التعريف الذي لم يلجا الجابري إليه إلا لماماً.
    قراءة مفاهيمية في الكتاب :
    لقد آلى الجابري على نفسه أن يلتزم بقراءة ابن خلدون كما هو ليبقى مخلصاً لروح الفكر الخدوني ملتزماً بتتبع تموجاته في مجراه الحقيقي وإطاره الأصلي التزاماً بالقاعدة التي قررها ابن خلدون بأن المصطلح لا ينبغي أن يحمل إلا على ما كان يحمل في عصرهم فهو أليق بمرادهم منه فهل حاكم الجابري فكر ابن خلدون إلى مصطلحاته كما سكها ابن خلدون بنفسه؟ وكما أراد لها أن تفهم؟ إن تحديد الجهاز المفاهيمي والبنية المفاهيمية التي استخدمها الكاتب أبعد منالاً من نطاق هذا المقال إلا إنه يمكن الإشارة إلى المفاهيم المركزية والمفاهيم المنظومة في الكتاب ومنطق التفكير المفاهيمي عند الكاتب.
    ولعل أهم المفاهيم المحورية في قراءة الجابري لابن خلدون هو مفهوم العقلانية وهو أمر له تفسيره في مشرع الجابري الفكري لصياغة عقلانية عربية ولكن ليس له أي تبرير في إطار ضرورة فهم المفكر دون اللجوء إلى مفهوم خارج عن منظومته الفكرية في حين يرى الجابري أن ابن خلدون عاش في ظروف عدم استقرار وانحطاط وسيطرة التفكير الخرافي وكان الإعراض عن أي نشاط فكري سليم هون الطابع العام للعصر فكان ابن خلدون من القلائل الذين اخترقوا سياج العصر وظروف الجو الخانق للعقل وفعاليته لكن عبقريته أنه تفرد من بين هؤلاء القلائل بالاهتمام بالشؤون السياسية والاجتماعية اهتماماً جعله يهتدي إلى موضوع مقدمته التي ألفها على ذلك النحو الغريب شكلاً ومضمونا وأسلوباً
    وعلى الرغم من إقرار الجابري بأن فكر ابن خلدون قد تشكل عقلانياً ولا عقلانياً بحيث أن أبحاث المقدمة بما فيها من مباحث شتى تشكل كلها وحدة لا تتجزأ تعكس طابع الفكر الخلدوني بما انتهى إليه بعد نضجه وإلمامه بمختلف معارف عصره وبعد تمثله للتراث الثقافي الإسلامي بمختلف مناحيه تمثلاً عميقاً واعياً برغم هذا الإقرار فإن الجابري يرى أن الرافد العقلي في ثقافة ابن خلدون ودراسته للعلوم العقلية هي أحد سببين - الآخر هو الانقلاب النفسي الذي عاناه ابن خلدون – لما يسميه الكاتب بالطفرة الفكرية التي أثمرت كتابه المقدمة وهذا الرافد يجد أصوله فسي دراسة ابن خلدون للعلوم العقلية على يد معلمه الآبلي ومن ثم فإن تأرجح ابن خلدون بين العقلانية واللاعقلانية وإن كان ظاهرة أصيلة في تفكير ابن خلدون فإن اللاعقلانية كانت تعبر عن طابع الفكر السائد في العصر الذي عاش فيه ابن خلدون لا عن طابع تفكيره الخاص.
    ومن ثم لا يذهب الجابري المذهب الذي يرى أن فصول المقدمة تعبر عن مراحل تطور ابن خلدون الفكري فالمقدمة لم تكن محصلة اعتكاف في قلعة بني سلامة بل هي مولود لمخاض فكري طويل استغرق سبع سنوات أما التعديلات التي أضافها ابن خلدون فلمتلمس جوهر المضمون بقدر ما كانت مكملة وشارحة له
    وعليه يجتهد الجابري في إثبات أن المقدمة السادسة عند ابن خلدون والتي تدور حول أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو الرياضة ليست من البحوث الاستطرادية التي تتسم بالطابع اللاعقلاني في المقدمة بل هي محاولة لإخضاع جميع هذه الظواهر للبحث العقلي وإيجاد برر معقول للظواهر العمرانية اللاعقلانية في إطار بحث إمكانية تأثير العوامل الروحية في الأفراد والجماعات وبيان كيفية هذا التأثير باعتبار أن المقدمات الخمس السابقة الواردة في المقدمة تبحث في ضرورة الاجتماع وطبيعة العوامل المادية التي تؤثر في حياة الناس.
    وبهذا الفهم فإن العقلانية ليست بمعنى النزعة العقلية والتي لم تكن قط غريبة عن الحضارة الإسلامية حتى في عصور انحطاطها بل مفهوم العقلانية عند الجابري هو بمعنى يجعله يقرر" إن عقلانية ابن خلدون على الرغم من إيمانه بالنبوة والوحي ذات جوانب هامة" ص. 87 ! وأن ابن خلدون كان يصدر عن عقلانية لا غبر عليها عند نقد العلوم العقلانية لكنه سيكون أقل عقلانية من ابن الرواندي والنظام والجاحظ اللذين رفضوا أي تفكير خرافي أو اعتقاد غيبي عندما يبحث عن قدرة النفس على اكتساب معارف من عالم الغيب.
    فالعقلانية عند الجابري تأخذا صياغة خاصة باعتبارها من أصول مشروعه الفكري تجعلها لا في مواجهة الأسطورة والخرافة وحسب بل وفي مواجهة الغيب وأية رؤية للعالم متجاوزة للطبيعة فالعقلانية عند الجابري ترتبط بتلك الخبرة الحضارية في الانتقال من العصور الوسيطة (الأوربية) إلى عصر الأنوار وإعلان سيادة العقل وما صاحب هذا من نزع القداسة عن العالم وعلمنة الحياة الاجتماعية فهي ليست مجرد نزعة تعلي العقل وتدعو لإعماله في مختلف شؤون الحياة بل هي أقرب لنظرة مادية للعالم تراه محكوماً بقوانين قارة فيه يمكن اكتشافها باكتشاف علاقات السببية والحتمية التي يتضمنها هذا العالم لا فرق بين عالم المادة والمجتمع والإنسان والذي ينهض بهذه المهمة العلم القائم على اختبار الفرضيات والمقولات إلى الخبرة المادية والحس وبتطور العلم تتقلص مساحة المجهول إلى المعلوم فيحمل العلم خلاص البشرية بطرحه حلولاً لكافة مشكلات الإنسانية مستمدة من الواقع الذي يفسره العلم فالجابري يرى في كتابه نحن والتراث " إنه على الرغم من تحول رياح التقدم نحو أوربا حاملة معها الخطاب الرشدي الذي سيعاد إلقاؤه هناك مرات ومرات لعدة قرون .... فلقد أثمرت العقلانية الواقعية النقدية الرشدية في موطنها المغرب والأندلس زهرة واحدة على الأقل ما زال أريجها يحتفظ برائحتها الزكية وروحه الرشدية إلى اليوم: إنها مقدمة ابن خلدون لقد شاهد ابن خلدون رياح التقدم تتحول إلى بلاد الروم فاقتنع أم زمن "الحلم" قد انتهى وأن المهمة المطروحة الآن هي فحص الذي مضى لاستخلاص الدروس والعبر فمقدمة ابن خلدون درس للعقل من العقل".
    وعلى الرغم من أن الجابري يجعل مفهوم العقلانية مدخله لقراءة ابن خلدون فلم يرد في الكتاب أي بيان لكيفية بناء المفهوم وما مصادر عملية البناء هذه إلا إنه يمكن الاستدلال على مصادر مفهومه للعقلانية من كتاباته الأخرى التي تقدم معالم مشروعه الفكري لاستعادة العقلانية للفكر العربي بعد نقد آليات عمل العقل العربي.
    كما يمكن الاستدلال عليه من مناقشة الجابري لنظرية ابن خلدون المعرفية حيث يرى الجابري أن ثمة ثنائية متعارضة بين الحقائق التي يقررها العقل وتلك التي يقررها الدين وأن ابن خلدون قد عالج هذا التعارض بالتسليم بأولوية الشارع في المسائل غير العقلية أما في المسائل الاجتماعية فباعتبارها من مسائل الحس والتجربة فإنها تدخل في إطار العقل فإن قوانين الحكم والسياسة يمكن أن تعتمد على العقل وحده دون الحاجة إلى شرع لأن جوهرها إنما هو اجتناب المفاسد إلى المصالح والقبيح إلى الحسن وهذا وذاك تتم معرفته بالتجربة على الرغم من أن ابن خلدون يرى أن قراءة الوجود بالعقل المهتدي بإرشاد الوحي هي القراءة المكملة والموصلة لقراءة الوحي التي تستند في الإثبات والفهم على العقل فابن خلدون يرى أن للعقل مجاله من حيث أنه " يحيط علماً بالغالب بالأسباب التي هي من طبيعة ظاهرة " ومن ثم لا يمكن أن يحيط بكل أنواع الوجود لأن الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركها لا يعدوها فإذا خرجت الأسباب عن نطاق إدراك وجود الإنسان فإنها لا يمكن إدراكها بالعقل أما السياسة في المنظار الحضاري الذي ينتمي إليه ابن خلدون فهي لا تستحق هذا الوصف إلا لكونها سياسة شرعية تقوم على المصلحة وهي مفهوم منضبط ويخضع لمجموعة من القواعد المنهجية في تأصيلها والتوصل إليها والعمل وفقها في إطار القواعد العامة التي تحكم "منطقة العفو" التي يجب أن يعمل البشر فيها عقولهم ليتوصلوا إلى هذه المصلحة وبهذا المعنى يمكن فهم مقولة ابن خلدون إن الخوض بالعقل فيما هو وراء نطاقه من الحس والتجربة والنظر في الموجودات خبط في بيداء الأوهام وهذه المقولة هي التي جعلت الجابري يتحفظ على عقلانية ابن خلدون لأنها " على الرغم من إيمانه بالوحي والنبوة" ويعتذر لها بأن التفكير الغيبي كان طابع العصر.
    ويمكن اعتبار مفهوم العقلانية مفهوم منظومة ينتظم شبكة من المفاهيم التي يحكمها منطق الثنائيات وهذه الثنائيات لا تعني أزواجاً متعارضة حقيقةً بقدر ما تعبر عن إخفاق في القدرة على التحليل والتركيب وفهم الإطار المعرفي للعديد من المفاهيم ومن هذا ثنائية العقلانية واللاعقلانية والتي انعكست على تقسيمه للسياسة لسياسة عقلية وسياسة شرعية في حين أن هذه القسمة دخيلة من الكر اليوناني فالسياسة الشرعية هي السياسة المهتدية بالشرع وإن لم يحددها نص فالواجب إعمال العقل في تدبير هذه السياسة وبهذا المعنى هي سياسة عقلية فالعقل هو مدار التشريف والتكريم في الدنيا والآخرة على ما يدل عليه الحديث المروي عن النبي (ص) ومن هذه الثنائيات أيضاً العلم/ السياسة التي تنفي التمازج والتضافر بينهما فابن خلدون وهو يضع مقدمته لم يلفظها أعني السياسة وهو حين كان يمارس السياسة كان يملك مشروعاً إصلاحيا وضع المقدمة للتأصيل النظري أو بالأدق المنهجي لقواعد حركته الأمر الذي يثير ثنائية أخرى هي الواقعية والتشاؤمية مقابل المثالية الأخلاقية فابن خلدون كان واقعياً لا بمعنى الاحتكام في تفسير الواقع إلى قيم الواقع وإن كانت ضامرة ومنزوية بل بمعنى تقويم الواقع وفق إطار فكري يستند على سنن الله تعالى في الخلق كما أن ابن خلدون لم يكن كما تصوره الكاتب ليس لديه القدرة ولا الاهتمام بإقامة مشروعه الإصلاحي على أرض الواقع بل سعى لبيان منهج التغيير استناداً لاستقراء السنن الإلهية بغض النظر عن مدى توفيقه أو إصابته لكامل هذا الهدف.
    لقد حددت هذه الثنائية الإشكالات البحثية الجدر بالتناول على نحو متعسف ومن ثم كان اهتمام الجابري ببيان أن طبائع العمران لا تتضمن مفهوم الجبرية ومن ثم لا تتعارض مع فكرة التقدم أو التطور كما أنها لا تعني نظرة تشاؤمية كما كان الجابري مشغولاً بتوضيح موقف ابن خلدون من مشكلة السببية في حين أنه لو قرأ طبائع العمران في إطار مفهوم السنن لكان في غنى عن هذا الطرح الذي لم يهتم به ابن خلدون.
    ومن ناحية أخرى فقد انعكس مفهوم الجابري للعقلانية على مفهومه للعلم والذي حاول من خلاله تقويم " العلم الجديد" الذي أسس له ابن خلدون كما انعكس على محاولات وضعه في تصنيفات العلم القديمة أو العلوم الإنسانية الحديثة فبالنسبة للعلوم الموروثة فإن إسهام ابن خلدون حدد معالم ورسم طريق هذا الاتجاه الفكري الذي تحول من البحث في كيف يجب أن يكون الحكم في الإسلام إلى البحث في كيف كان هذا الحكم فعلاً في الماضي فابن خلدون هو الذي عمق أسس هذا الاتجاه ورسم أبعاده فخلع عليه اسماًَ عاماً هو علم العمران ويرى الجابري أن هذا الاتجاه تبلور مع تأكيد الغزالي على ضرورة الشوكة للإمام واعتراف الفقهاء بشرعية المتغلب بهذا الوصف وحسب والجابري يلتقي في هذا مع عدد من المستشرقين الذين يرون ريادة ابن خلدون في دراسته الوضعية للعلم الاجتماعي([1]) فهو قد قام بدور مناظر لما قام به ماكيافيللي الذي عد مؤسساً لعلم السياسة الحديث لأنه فصل القيم عن الواقع بل ويذهب الجابري أن ابن خلدون بتأكيده على طبائع العمران يناظر أوجست كونت في حديثه عن الفيزياء الاجتماعية وإن كان ابن خلدون قد انطلق من تصور عضوي للمجتمع والكون معاً لكن ابن خلدون بتركيزه على دراسة الدولة بالمعنى الخاص لها عنده يجعل عمله مجرد بداية كان يمكن أن تتطور لتصبح فلسفة تاريخ أو فلسفة سياسية أو نوعاً من السوسيولوجيا فعلم العمران ليس أياً من هذه الثلاثة فهو ليس فلسفة تاريخ لأنه لم يهدف إلى تفسير التاريخ كله ولم يطرح مشكلة المصير البشري على العموم كما أنه لم ينطلق من أساس فلسفي فهو طرح مشكلة معينة هي قيام الدول وسقوطها وهو ليس علم اجتماع لأن اهتمامه ينصب على قطاع طولي في علم الاجتماع هو القبلية عندما تصبح قوة سياسية فيثور الصراع العصبي من أجل من أجل السلطة ولعل مشكلة الجابري في قراءة المقدمة – وهي مشكلة الكثير ممن قرأها- هي تحديد موضوع المقدمة فهو يعتبرها بحثاً في نشوء الدول وتعاقبها في حين أن قراءة المقدمة كما أراد مصنفها وبكلماته هو مقدمة في علم العمران الذي يعتبر التاريخ جزء من مادته.
    وعلى الرغم من محاولة الجابري رؤية علم العمران في إطار فلسفة العلم السائدة في الضارة الإسلامية وكما حدد ابن خلدون موضوعه ومسائله ومقدماته فإن الجابري يرى أن اعتماد ابن خلدون المنهج الاستدلالي التجريبي التاريخي معاً أدخل كثيراً من التشويش على المقدمة وأضفى بعض الغموض على آرائه ونظرياته (ص. 111) لكن قراءة عناوين المقدمة التي كثيراً ما جاءت في عبارات تقريرية تعبر عن طبائع عمرانية وسنن اجتماعية لابد أن تحيل إلى أسلوب صياغة هذه التقارير فهي ليست آراء تنتظر الإثبات والبرهنةى و لا مقدمات مسلم بها يستنبط منها نظراته بل مزْج بينهما باعتبار طابعها العام الأمر الذي يعيدنا لمفهوم طبائع العمران الذي يعتبره الجابري أساس محاولة ابن خلدون تفسير التاريخ الإسلامي فابن خلدون أسس علمه الجديد علم العمران على أساس الاختلافات والفروق القائمة بين البدو والحضر فكانت أبحاثه في تأثير المناخ والخصب والجدب ووسائل كسب العيش لبيان أسباب هذه الاختلافات التي تحدث في العمران بمقتضى طبعه لكن الجابري يعود ليؤكد أن الهدف الأساس لابن خلدون وما كان يهمه هو شرح نشوء الدول وسقوطها.
    وعليه فإن الجابري في شرح نظرية العصبية وصراع العصبيات واستهداف العصبية للملك كمحرك لتطور الدولة وصولاً لمرحلة الحضارة التي تؤذن بهرم الدولة واضمحلالها مع إعطاء معاني شديدة الخصوصية للمفاهيم الخلدونية يختزل جهد ابن خلدون لمجرد شهادة تاريخية على العوامل الفاعلة في التجربة الحضارية في الإسلام ويرى الجابري أن شهادة ابن خلدون شهادة ضرورية جداً لكنها لا تكفي لبناء نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي تنطلق من اهتماماتنا الراهنة فأهمية آراء ابن خلدون – برأي الجابري - ليست في كونها تقدم نظرية كاملة في التاريخ الإسلامي فمثل هذه النظرية ستضل دوماً ناقصة ومحتاجة للتعديل بل أهميتها في أنها شهادة ثمينة تبرز العوامل الفاعلة في التجربة الحضارية في الإسلام.
    وتحيل هذه الرؤية إلى مفهوم الدين في قراءة الجابري للمقدمة وهو مفهوم يرادف الدين بالأيديولوجيا " العامل الأيديولوجي زنهني به الدين بمفهومه الواسع" ص. 255 ومن ثم يرى الجابري أن الدين وإن كان شرطاً ضرورياً لقيام الدولة العربية فهو ليس شرطاً كافياً انطلاقاً من التناقض يسن حقيقة أن الله تعالى هو الذي أيد الدعوة الإسلامية وحقيقة أن الإسلام قد نجح فقط بعصبية العرب وقد حل ابن خلدون هذا التناقض باعتبار طبائع العمران هي الكيفية التي أجرى الله تعالى بها مشيئته في الكون أما الناحية العملية فقد عاق نظام الخلافة استقلال عدة مناطق بشئونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية استقلالاً كان يفرضه واقع الأمور فعاق بذلك نموها الذاتي وتطورها التدريجي وبالأخص النمو الاقتصادي نتيجة تنقل مراكز الخلافة كما أن وحدة الخلافة كغطاء لمجتمع الكثرة والتنوع قد أدى لطبع التاريخ الإسلامي بطابعه المعروف من عدم الاستقرار السياسي فالعصبية – وليس الدين – مقترنة بغيرها من العوامل هي التي كانت تلعب الدور الحاسم في تاريخ الإسلام.
    فعبقرية ابن خلدون لا ترجع إلى أنه أبرز عامل الدين أو عامل العصبية بل هي في معالجته لأثر هذه العوامل كلها في تفاعلها وديناميتها وهكذا زاوج ابن خلدون ومزج بين العصبية والدين ونظر على فاعليتهما من خلال تأثيرهما المتبادل كما زاوج بين العامل الاقتصادي (شئون المعاش) والعامل الطبيعي (تأثير المناخ والخصب والجدب) ونظر على تأثيرهما ككل ثم ربط ذلك كله في منظومة متكاملة لتفسير التاريخ الإسلامي.
    إن مشكلة قراءة الجابري لهذه العوامل أنه انطلق في تحليله لها- لو سلمنا بأنها كانت محور الإسهام الخلدوني - من نظرة منهجية ومن خبرة معرفية مغايرة خلافاً لما ألزم به نفسه من قراءة ابن خلدون كما أراد لنفسه ان يقرا فالجابري يندد بالقائلين بأن ابن خلدون كان من رواد المادية التاريخية لكنه في الوقت نفسه يرى أصالة ابن خلدون تعود بالدرجة الأولى على أنه استطاع أن يربط بقوة بين العصبية والشروط الموضوعية اللازمة لفاعليتها السياسية وهي شروط ذاتى طابع اقتصادي واضح كما ان ابن خلدون وسع مفهوم العصبية ليدرج فيه مجموعة متنوعة من العلاقات والترابطات والفاعليات البشرية الناجمة لا عن علاقات النسب وحسب بل وغلى العلاقات الاقتصادية وأنواع الصراع الذي يستهدف الحصول على مستوى من العيش أحسن ويعتذر الجابري عن ضعف رؤية ابن خلدون للعامل الاقتصادي لعدم وضوح هذا العامل كما هو الآن! حيث كان الإنتاج بدائياً ضعيفاً والعلاقات القائمة على النسب أو ما في معناه طاغية على الروابط الاقتصادية فتنازع المصالح ذات الأساس الاقتصادي في الأعم هو جوهر دورة الدولة والصراع العصبي وهذه الدورة تعبير عن التناقض – وهو احد المفاهيم التفسيرية عند الجابري – بين البناء الفوقي بما يتضمنه من حضارة استهلاكية ومؤسسات فوقية مصطنعة من دول وخلافة وبين بنائها التحتي الاقتصادي والاجتماعي الذي أقامت عليه نفسها بشكل تعسفي بناء لا يتحملها و لا يقدر على حملها لأنها لم تكن نمواً طبيعياً و لا تطوراً تدريجيا فهذا البناء التحتي يقوم على اقتصاد الغزو وأسلوب الإنتاج الحربي الذي يقوم على تجميع الثروات واستهلاكها لا استثمارها وحديث الجابري هذا يبدو كما لو كان بصدد الدولة المستوردة بتعبير برتراند بادي أو دولة ما بعد الاستعمار بتعبير عيسى شيفجي لكنه عملية تأويل واسعة لابن خلدون يصعب قبولها برغم أن الجابري يرى هذه المقولات تقدم قراءة فاعلة للمقدمة. إن كل قراءة تشتمل على قدر من التأويل مهما ادعى القارئ حياده إزاء النص لكن المهم أن يعلم القارئ آليات هذا التأويل وأهدافه دون ادعاء القيام بتشريح النص بقلب بارد هذا الادعاء الذي يظهر في إجابة الجابري على التساؤل الذي يطرحه: الا نجد ملامح ذلك التناقض المزمن في حياتنا الجارية الآن؟ ألا نجد في تحليلات ابن خلدون ما يلقي بعض الإضواء على جوانب من تاريخنا الحديث وواقعنا الراهن؟ ويجيب الجابري إنها مسألة أخرى وموضوع آخر.
    إن عدم تحديد قواعد المنهج قد يؤدي بالكاتب إلى الانزلاق لما حذر منه وهو أسلوب المقارنات والمقاربات بين الفكر الخلدوني والفكر الحديث خاصة المنتمي لخبرة حضارية مغايرة تطبعه بطابع شديد الخصوصية فانزلق الجابري لتأكيد " ذلك التشابه القوي بين تحليل ابن خلدون للعوامل التي تمكن العصبية من تحقيق غايتها من الملك وتأسيس الدولة وبين التحليل الماركسي لظروف الدولة خاصة نظرية لينين في الثورة والوضع الثوري ثم يقتطف من لينين ليخلص إلى أن ما يربد لينين لينين تقريره هنا هو أن الثورة لا تنجح إلا إذا توفر شرطان اساسيان هما قيام وضع ثوري ووجود تنظيم جماهيري ثوري كذلك وهما يقابلان عند ابن خلدون وبالنسبة لظروف ومعطيات مجتمعات عصره الشرطين اللذين درسناهما وهما هرم ادولة ووجود عصبية جامعة.
    كيف وصل الجابري لهذه القراءة؟ هذا ما يتضح في طريقة توظيفه وقراءته للمفاهيم التي عدها المفاهيم الأساسية في المقدمة العصبية – الدورة العصبية – الدولة – البداوة كمقابل حضارة حيث كان الجابري وفياً للمقدمة في تحديد أصل المفهموم لكنه في توظيفه للمفهوم في بناء تصوره لنظرية ابن خلدون أخذ ينفخ فيه من الدلالات بما يمدد المفهوم ويحمله ما لا يحتمله الأصل الذي بدأ منه.
    ويشير هذا إلى استشهاد على سبيل الحجة بمقتطفات من المقدمة فكتاب الجابري هو قراءة للمقدمة ومن ثم فإن الحجة الأساسية في هذه القراءة تكييفه الفكري للمقدمة وأنه قد توصل لقصد المفكر من مؤلفه بإحسان القراءة والاحتجاج بشواهد تشير لهذا الإحسان وهنا يمكن ملاحظة أن الجابري يقم بعملية مزدوجة: تعريف مفاهيم ابن خلدون تعريفاً شديد الانحسار مستشهداً باقتطاعات شديدة الاجتزاء من المقدمة قد لا تعدو نصف جملة ثم الذهاب بالمفهوم لمدى ابعد وفق رؤية الكاتب (الجابري) دون أية استنادات من النص في هذه الرؤية ولم يقتصر الجابري في هذا على المفاهيم الواردة في المتن بل وفي تعريفاته لمفاهيم ابن خلدون التي أوردها في ثبت خاص فمثلاً مفهوم علة، سبب يذكر الجابري أن ابن خلدون يستعملهما غالباً مترادفين لكنه يعود ليقرر " الذي يبدو أن ابن خلدون يستعمل هاتين الكلمتين في معناها الفقهي الأصولي لا الفلسفي" وبناء على هذا البادي دون مستند يحدد الجابري العلة بأنها وصف أضاف الشارع الحكم إليه ... ويكون كذلك عندما يكون الحكم قابلاً للتبرير العقلي وهو بذلك يخلط بين الحكمة والعلة ويظهر هذا الخلط في تحديد الجابري لمفهوم السبب بأنه نفس الوصف عندما لا يدرك العقل البشري جانب المصلحة في الحكم! مثل ربط الصيام بظهور الهلال أول شهر رمضان.
    وبعد!
    فإن قراءة الاعتبار والاستثمار تقتضي إحسان فعل القراءة فيتعلم القارئ على النص حتى يصبح به عالماً اما القراءة التي تستنطق النص ما قاله وما لم يقله وتتعالم على النص فلابد أن تكون عودتها إلى النص عودة استظهار به لرؤية محددة سلفاً لا عودة افتقار له ولا توسلاً به لفهم كيف يمكن التوصل لمنهجية قويمة لمواجهة مشكلات عصرنا الفكرية فالمفكر هو ابن عصره لكنه ابن عاق لا يخلص له بقدر ما يخلص لإنسانيته المتحققة في مختلف العصور وأصالة المفكر ليست في ما طرحه من إجابات على معضلات عصره بل كيف ألقى اسئلته في مواجهة عصره وكيف اجتهد في محاولة التوصل لإجابة لها وتبقى أصالة الفعل القرائي في استكشاف أبعاد هذا المنهج وأظن أن الكتاب قيد التناول قد راوح بين العديد من القراءات فأصاب وكان له نصيب كبير من النجاح وقدر غير ضئيل من الإخفاق لكنه يبقى شاهداً على قدرة العقل العربي على الاجتهاد.


    [1] " لقد ابتعد ابن خلدون عن كل أساس ميتافيزيقي [كذا!!] في فلسفته التاريخية لينصرف على تشييد علمه الجديد على أساس واقعة اجتماعية كانت طاغية ملموسة في عصره هي الرابطة العصبية" ص. 245.