مدخل تحليل المفاهيم: محاولة للتطبيق على مفهوم القوة
- Alkasd my other blog
يختلف علماء السياسة في تحديدهم لما يعنونه بالنظرية السياسية فيظهر تحليل أعمال المشتغلين بالنظرية السياسية أن أعمالهم تدور حول ثلاثة محاور رئيسة :
النظرية السياسية باعتبارها تدبراً في أسس الوجود السياسي في كليته، فتبحث النظرية السياسية في أسس الالتزام السياسي ومفهوم الجماعة السياسية والمبادئ السياسية التي تحكم التطور السياسي ( الحرية – المساواة العدالة ...) ويرتبط التدبر بمفهوم التدبير بما يتضمنه هذا الأخير من أبعاد حركية وقيمية، والنظرية السياسية وفق هذه الرؤية لا يمكن أن تكون إلا عامة تنتظم كافة عناصر الوجود السياسي سواء الداخلي والخارجي والفردي والجماعي، كما أنها لابد أن تكون مجردة، فهي وإن استندت إلى التعميمات المبنية على الخبرة المباشرة فإنها تتجاوزها بحثاً عن التجريد الذي يسمح بإطلاقها عبر عنصري الزمان والمكان، وهي إلى ذلك لابد أن تجمع بين عنصري القيم والوقائع، فهي تجمع بين الفلسفة والعلم والأيديولوجيا وبحث طبيعة الوجود السياسي إنما هو لدراسة التطور السياسي من موقف لآخر.
ومن ثم تقتضي دراسة النظرية السياسية الجمع بين ثلاثة أقسام:
قسم يبحث في المبادئ أو القيم التي تحدد غايات الحركة السياسية في هذا الانتقال وهي مبادئ مطلقة لا تتقيد بموقف معين وإن كانت تمثل الخلفية الفكرية والفلسفية التي تسيطر على التطور السياسي.
وقسم وصفي تجريبي ويبحث في تحليل أبعاد ومقومات الموقف السياسي
والقسم الثالث يربط هذين الجانبين باتخاذ حل لإنهاء حالة التعارض المتضمنة في أي موقف سياسي من خلال الإجابة على التساؤل كيف يمكن التوفيق بين غايات الموقف السياسي وغايات الوجود السياسي كما يتصورها الفاعل السياسي.
2- النظرية السياسية باعتبارها خطاباً حول الخطاب النظري المتعلق بذلك الجسد من المعرفة الخاص بالثقافة السياسية ومصادر هذه المعرفة وإمكانها، وعليه يصبح الاهتمام بالعمليات المنهجية الخاصة بالمنظومة المعرفية السائدة (العلم) فيصبح من مباحثها الرئيسة ما الخريطة المعرفية السائدة، وما موقع النظرية السياسية منها، وقبل ذلك ما السياسي وما غير السياسي؟ وما حقيقة هذا الحقل وما منطلقاته بتحليل الخطاب الذي تتم فيه صياغة النظريات والمفاهيم ومعالجة القضايا الرئيسة.
3- النظرية السياسية هي محور علم السياسة، بغض النظر عن تحديد المفهوم المحوري لهذا العلم باعتباره الدولة أو السلطة أو القوة، فالنظرية السياسية تستهدف الدراسة "العلمية" للظواهر السياسية تبدأ من تحديد العلاقات الارتباطية بين متغيرات الظاهرة السياسية من خلال الدراسات الاختبارية الإمبريقية التي تفسر الظواهر السياسية، ويتم استخلاص هذه العلاقات من المشاهدة والملاحظة وصولاً إلى النظريات متوسطة المدى التي تسعى لتفسير جانب معين من جوانب الوجود السياسي، وصولاً إلى النظرية العامة أو النظرية الكلية الشاملة التي تسمح بإدراج جميع عناصر الظاهرة السياسة فيها، فتضع القوانين العامة التي تحكم الظاهرة السياسة، وتسد الثغرات بين النظريات الوسيطة والفرعية والتي تعبر بكلمات إيستون عن الأرض المشاع بين نظريات وحقول العلوم السياسية.
والملاحظ أن هذه التحديدات الثلاثة تمثل المفاهيم فيها حجر الأساس، فالنظرية السياسية تسعى لبناء النظرية العامة للوجود السياسي بتحديد المفاهيم الأساسية التي ينتظمها، وبالمعنى الثاني للنظرية فإن النظرية تسعى لاستجلاء المعنى بتحليل المفاهيم التي يتضمنها هذا الخطاب النظري، وبالمعنى الثالث فإن المهمة الأساسية للنظرية هي تقديم المفاهيم العلمية لمختلف حقول علم السياسة، وبيان ذلك أن المفاهيم هي اللبنات الأساسية لأي نظرية حيث إن المفهوم لفظ ينطوي على درجة عالية من التجريد يختزل العديد من السمات المرتبطة بموضوع معين أو ظاهرة معينة بما يمكن من الإحاطة بكافة مفردات المفهوم حتى تلك التي لا تخضع للتجربة الحسية المباشرة و ثراء الحقل النظري إنما يكون بكثرة المفاهيم وكثرة العلاقات فيما بينها ويحصل التطور النظري بظهور مفهوم أو مفاهيم جديدة وظهور اجتهادات نظرية حولها.
وعليه فإن تحليل المفاهيم يكتسب أهمية خاصة في دراسة النظرية السياسة، وقد برزت هذه الأهمية في سياق المنعطف اللغوي الذي دخلت فيه النظرية السياسية، أثراً لمحاولات إضفاء الطابع العلمي على علم السياسة على غرار لغة العلوم الطبيعية كما فهمتها - أو بالأدق أساءت فهمها - هذه المحاولات، ومن هذه المحاولات محاولة الوضعية المنطقية التي سرعان ما ثبت عقمها، لا بالنظر إلى صعوبة تطبيقها إن لم تكن استحالته لتداخل المعياري التحبيذي مع التركيبي الاختباري مع التحليلي في العبارات السياسية وحسب، بل وبالنظر لآثارها المروعة على الحقل باستبعاد غالب أمهات الفكر الإنساني في السياسة. لكن أهمية هذه المحاولة أنها لفتت الانتباه إلى الطبيعة الخاصة للغة السياسة والطبيعة التداولية للمفاهيم السياسية، وعليه قنعت المحاولات التالية بملاحظة ما يقوله المتحدثون العاديون في مواقف وسياقات محددة. فإذا كانت لغة السياسة تتسم بقدر غير هين من الغموض وعدم التحديد فإنها يجب أن تبقى كذلك، فهذا ملمح مميز للخطاب السياسي وتحليل المفاهيم والكلمات حتى أكثرها إمبريقية لا بالنظر لمعناها في ذاتها، بل في استخدامها فهي كلمات ذات معنى في سياق الاستخدامات التي توضع لها وحتى أكثر المفاهيم إمبريقية وتستخدم في الكلام العادي لا تخضع لتعريف بالغ الدقة والتحديد، وما دام ذلك لا يعوق التواصل فلا حاجة لإعادة تشكيل المفاهيم ولإعادة تعريفها أو جعلها أكثر دقة بأكثر ما يقتضيه التواصل، ومن ناحية أخرى فإن طرح "جالي" لمقولته عن المفاهيم ذات الطبيعة الخلافية وما واجهته من نقد أدى إلى توجيه البحث إلى أساب تباين دلالات المفاهيم، وعليه بدأ تطوير المداخل اللغوية لاستجلاء المعنى في لغة المفكرين والفاعلين والناشطين السياسيين ومنها مدخل تحليل المفاهيم الذي استوعب النظرة السابقة في تحليل اللغة المتداولة، وتجاوز ما تقتصر عليه من تحليل آني للمفاهيم يركز على لغة العصر الحالي والثقافة السائدة، وما انزلقت إليه من تجاهل أن اللغة تستخدم اللغة اعتيادياً لشرعنة الترتيبات والمؤسسات السياسية القائمة، حيث تعمل كل لغة كقناع أيديولوجي لإخفاء المظالم التي تنطوي عليها هذه المؤسسات.
فبدأت مزواجة التحليل السكوني للاستخدامات المختلفة للمفاهيم بتحليل تاريخي نقدي للمفاهيم، ولكل وصف من هذه الأوصاف دلالاته الهامة لعملية التحليل، فهو تاريخي لأن مناط اهتمامه التغير المفاهيمي، وهدفه الأولي بناء تواريخ للمفاهيم، وهو نقدي لأنه يعي التواؤم بين قضايا الصراع السياسي والتنازع المفاهيمي، فلا يحلل ما نقوله (نحن) كما لو كان هذا ال(نحن) موحد لا يوجد بها تباينات ولا تنقسم بفعل التشيعات واختلاف المنظورات من قبيل العرق والإثنية والطبقة الاجتماعية والنوع الاجتماعي، إذ لا يمكن حكاية تاريخ المفاهيم السياسية - والمفاهيم المستخدمة في الخطاب السياسي تحديداً- بمعزل عن الصراع السياسي، فالمفاهيم أسلحة حرب وأدوات إقناع وشرعنة وأداة ضامة لتحقيق الهوية والتضامن، فدراسة تاريخ المفاهيم السياسية هي مراجعة لميدان المعركة وإعادة بناء المواقع والاستراتيجيات للقوى المتعادية.وما يميز مدرسة التحيل المفاهيمي هو الاهتمام بالمحاجات التي تظهر فيها المفاهيم لأداء أنواع معينة من الأعمال في أوقات معينة ومواقع سياسية معينة. فتواريخ المفاهيم السياسية هي تواريخ للمحاجات السياسية والنزاعات والخلافات المفاهيمية التي تدفعها أو تزيحها.
فتاريخ المفاهيم مكتوب بقصد نقدي لإظهار أن التغير المفاهيمي ليس ممكناً فقط، بل وملمح محدد للخطاب السياسي، وأن مثل هذه التواريخ تظهر كيف يصبح فاعل سياسي معين واعياً بالكيفيات الدقيقة التي قد لا يعترف بها لكن من خلاها غيرتهم خطاباتهم هم ومعاصريهم قبل أن يشرعوا هم في تحويل الخطاب السياسي من خلال العمليات والآليات التي بها ومن خلالها يقوم الفاعلون السياسيون بإدخال تغييرات معينة في الخطاب ويتضمن هذا اكتشاف وعرض ونقد التناقضات وعدم التماسك في الخطابات المسيطرة والسائدة والمحاجات والخدع الحربية البلاغية المستخدمة لهذا الغرض وربما بهدف اكثر موضوعية هو بناء خطاب بديل .
وبهذا الوصف وبهذه الأهداف يسعى تحليل المفاهيم للإجابة على عدد من الأسئلة تتصل بالتحليل المعمق الواحدي للمفكر أو الفاعل السياسي مثل:
ما المدلول اللغوي للمفهوم؟
ما السياق التاريخى لظهور المفهوم
ما تعريف المفهوم ودلالاته عند مفكر أو فاعل معين
ما شبكة المفاهيم المرتبطة بالمفهوم موضع التحليل
المفاهيم المستدعاة
المفاهيم الفرعية التي تنسب للمفهوم المركزي و تعبر عن جزئيات المفهوم الأساس
المفاهيم المناظرة التي تقابل هذا المفهوم
ما العلاقات القائمة بين هذه المفاهيم من قبيل
التضمين منطقى
التداخل
التضاد
التداعى
ما الأصول الفكرية لهذه المفاهيم
هل تستوعب هذه العلاقات كل عالم المفهوم؟
ما الدور الذى لعبه أو المفكر فى تغيير دلالات المفهوم ماهى استراتيجيته الخطابية
ما القضايا النظرية التي تثيرها رؤية المنظر لمفهوم القوة
في مرحلة تالية من التحليل يتم استثمار الإجابات على هذه الأسئلة وصولاً لنوع من النتائج المعممة نسبياً حول المفهوم من خلال الإجابة على أسئلة من قبيل:
هل يتفق المعنى اللغوى للمفهوم مع استخداماته المتعددة؟ ما الفارق؟
هل هناك تعريف واحد للمفهوم أم تتعدد تعريفاته؟
ما الدلالات المختلفة التى اكتسبتها عبر الزمن؟
ما أسباب التغير فى هذه الدلالات؟
§ ما الأسس النظرية لتفاوت الدلالات؟
§ ما الأسس العملية لتفاوت الدلالات؟
ما أبعاد انتقالات المفهوم؟
ما القضايا النظرية التى يثيرها المفهوم؟
ما الاستخدامات السياسية للمفهوم؟
والمقولة الرئيسة لهذه السطور أن افتقار عملية بناء المفهوم لنقطة ارتكاز معيارية وبالأخص لمفهومي الحق والحقيقة أعاق وجود أرضية مشتركة للتوافق حول أبعاده الأساسية أثراً لغياب مبدأ معرفي ناظم Episteme مستقى من حقيقة وجودية أنطولوجية ويجعل ثمة أساس للتحديد والتصنيف والتقييم.
تحليل مفهوم القوة في الفكر العربي (ابن خلدون والكواكبي)
المعنى اللغوي للمفهوم
والبدء باللغة مبرر تماما،ً فالفاعلون السياسيون يعملون ضمن قيود لغوية يمكن تحديدها، ويفرضها تراث معين كما هو موجود في زمن معين، واللغة هي التي تشكل هؤلاء الفاعلين وتساعد في جعلهم هذا النوع من البشر الذي هم عليه، الأمر نفسه بالنسبة للعلماء والمنظرين حيث تمثل اللغة معطى أولياً للتحليل حتى لمن يعتبرها تعبيراً عن بنى الهيمنة والسيطرة، فمثلاً بالنسبة للبنيوية تمثل اللغة نظاماً إشارياً يقدم إطار للفكر، وبالنسبة للتداولية أو البراجماتية فإن قواعد لعبة الكلام محددة سلفاً، وتحديد المدلول اللغوي هو الذي يمكن من تحديد التغير في المفهوم، وانتقلات المفهوم تالياً لأن الكلمة عادة لا تتغير إنما المتغير هو الدلالات والمعاني المسندة إليها التي تشكل أبعاد المفهوم المختلفة.
ويشير المعنى المعجمي للقوة على أنها ضِدُّ الضَّعْفِ والجمع: قُوًى، بالضم والكسر كالقِوايَةِ. قَوِيَ، كَرَضِيَ، فهو قَوِيٌّ وتَقَوَّىٰ واقْتَوَى، وقَوَّاهُ اللّهُ. وهو يُقَوَّى: يُرْمَى بذلك. وفَرَسٌ مُقْوٍ: قَوِيٌّ. وفلانٌ قَوِيٌّ مقْوٍ، أي: في نَفْسِه ودابَّتِهِ. والقُوَى، بالضم: العَقْلُ، وطاقاتُ الحَبْلِ، جَمْعُ قُوَّةِ. وحبْلٌ قَوٍ: مُخْتَلِفُ القُوى. وأقْوَى: اسْتَغْنَى، وافْتَقَرَ، ضِدٌّ، وأقوى الحبل: جَعَلَ بَعْضَه أغْلَظَ من بَعضٍ، وأقوى الشِّعْرَ: خَالَفَ قَوَافِيَهُ بِرَفْعِ بَيْتٍ وجَرِّ آخَرَ، وقَلَّتْ قَصِيدَةٌ لهُم بِلا إقْواءٍ. واقْتَواهُ: اخْتَصَّهُ لنَفْسه. والتَّقاوِي: تَزايُدُ الشركاءِ، والبَيْتُوتَةُ على القَوَى. والقِيُّ، بالكسر: قَفْرُ الأرضِ، كالقِواءِ، بالكسر والمَدِّ، والقَوايَةِ. وأقْوَى: نَزَلَ فيها، وأقوت الدارُ: خَلَتْ، كقَوِيَتْ. وقُوَّةُ، بالضم: اسْمٌ. وقاوَيْتُهُ فَقَوَيْتُه: غَلَبْتُه. وقَوِيَ، كَرَضِيَ: جاعَ شديداً، وقوى المَطَرُ: احْتَبَسَ. وباتَ القَواءَ، أي: جائِعاً. وقاواهُ: أعْطاه. والقاوِي: الآخِذُ، وبهاءٍ: البَيْضَةُ، والسَّنَةُ القليلَةُ المطرِ، ورَوْضَةٌ. والقِيقاءَةُ، بالكسر: مَشْرَبَةٌ كالتَّلْتَلَةِ، والأرضُ الغليظَةُ.
ويظهر استعراض مادة قوة السابقة من لسان العرب وغيره من المعاجم أن معاني القوة في اللغة العربية تدور حول الشدة والبأس والغلبة والتغاير فكيف كانت رؤية ابن خلدون لمفهوم القوة؟
سياق مفهوم القوة عند ابن خلدون
يحتل مفهوم السياق مكانة محورية في مختلف مداخل التحليل المفاهيمي، فمن منظور تحليل اللغة الدارجة يجري تحليل المفاهيم بملاحظة ما يقوله المتحدثون في مواقف وسياقات محددة، وفي هذا المدخل يكون التركيز على الحمولة الاتصالية للمفهوم.
أما مدخل تاريخ المفاهيم فإن اهم ما يميزه الاهتمام بالمحاجات التي تظهر فيها المفاهيم لأداء أنواع معينة من الأعمال في أوقات معينة ومواقع سياسية معينة غالباً ما يتم بالإحالة بالإحالة لتراث سياسي معين أو تراث خطابي أي بالعودة للسياق.
فيفيد تحليل السياق التاريخي بعناصره السياسية والاجتماعية والفكرية في التعرف على علاقة التفاعل بين المفكر وعصره تأثيرا وتأثراً وما لذلك من انعكاسات على المفاهيم المستخدمة في النص وعلاقة المفكر بالأطر الاجتماعية القائمة بما لذلك من انعكاسات على عملية بناء المفاهيم تعد جزئياً استجابة للضرورات الفكرية التي يفرضها العصر الذي يعيش فيه المفكر.
السياق التاريخي لرؤية ابن خلدون لمفهوم القوة
كان عصر ابن خلدون ذروة تفكك الوحدات السياسية الكبرى التي حملت لواء الحضارة الإسلامية في المشرق والمغرب بعد انهيار الدولة العباسية وتفتتها لعدة دويلات، أما في المغرب فبعد انهيار النفوذ الإسلامي في الأندلس بدأت دولة الموحدين وهي أعظم دولة في شمال أفريقيا في التفتت والانهيار، وبدأت تظهر الصراعات بينها وبين دولة الحفصيين في تونس من خلال توظيف القبائل المقيمة في التخوم الصحراوية ومن أهم هذه القبائل قبائل بني عبد الواد وبني مرين اللتين سعى كل منها للانفراد بالحكم وتأسيس دولتيهما على أنقاض دولة الموحدين وبالاصطدام بالقبائل الأخرى وهكذا استمر الصرع قائماً بعد انقراض دولة الموحدين على أشده بين المرينيين وبين بني عبد الواد وبينهم وبين الحفصيين إضافة للصراع مع الإمارات المستقلة في كل من بجاية وقسطنطينة واشتد أوار هذا الصراع بتقلب ولاء القبائل الكبرى في المغرب بين الأطراف المتصارعة كما أن اشتداد حملات المسيحيين الأسبان في الأندلس على المغرب كان من شأنها زعزعة الكيان الاجتماعي والسياسي في البلاد المغربية وهكذا كانت الفوضى وعدم الاستقرار الذي عم العالم الإسلامي هي التي دفعت ابن خلدون بعد أن عاش في معترك تقلبات هذه الفوضى وخبر دسائس السياسة وتوازنات القوى بين القبائل للتساؤل لماذا تدول الدول وكان لهذه الأحوال أثرها في صياغة نظريته عن أعمار الدول ودور العصبية فيها هذه النظرية التي كانت الميدان الذي حاول فيه تطبيق منهجه في "علم العمران" وبحثه عن طبائع العمران كما أن هذه الأوضاع هي التي أثارت فيه الإحساس بأن أحوال العمران قد أخذت في التناقص وأن العالم على أبواب تحول كبير ستكون نتيجته" خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث " فكانت عناية ابن خلدون ان يكون هو " من يدون أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها و العوائد والنحل التي تبدلت لأهلها ... ليكون أصلاً يقتدى به.." من خلال تأمل جدلي يربط الماضي بالحاضر وينطلق منهما للتطلع للمستقبل.
السياق النظري لرؤية ابن خلدون لمفهوم القوة:
على الرغم من أن تأليف ابن خلدون للمقدمة التي كان مدفوعاً بشكل اولي محاولة فهم حركيات السياسة في عصره بما يقدم مرشداً للعمل السياسي في هذه الفترة فإن ابن خلدون كان لديه طموحه النظري لتأسيس علم العمران ووضع قواعده وأركانه المنهجية وهو علم جديد مستقل وإن كانت مناسبة هذا التأسيس نقد علم التاريخ وكان ابن خلدون واعياً بهدفه محيطاً بخطته في في تأسيس هذا العلم دون أن يدعي الوصول به إلى منتهاه بل كان يضع حجر الأساس داعياً الخلف لمتابعة البحث في علم العمران قائلاً " ... عزمنا ان نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران وما يعرض فيه... ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح و علم مبين يغوص من مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله و إنما عليه تعيين موضع العلم و تنويع فصوله وما يتكلم فيه والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل."
وقد انعكس هذا الهدف على تقسيم ابن خلدون للمقدمة ففي البداية عالج طبيعة العمران وأنواعه المتعددة بصفة عامة وفي الباب الثاني يتكلم عن العمران البدوي كنمط مبكر من أنماط العمران (وفيه فصول وتمهيدات) وفي الباب الثالث عرض لدورات الحضارات والنظم السياسية (وفيه قواعد ومتممات ) وفي الباب الرابع يعرض خصائص العمران الحضري (وفيه سوابق ولواحق)
فابن خلدون يؤكد على استقلال علم العمران فالغاية الحقيقة لعلم العمران تشتمل على توفير تفسير للظاهرات الكبرى في الحياة الاجتماعية كالظاهرات المعاشية والملك السياسي وتطور الدولة ونفسية الجماعات
يمكن الخلوص من ذلك أن المقدمة تتسم بالطابع المنهجي الذي يسعى لوضوح المفاهيم لكن كيف يمكن مع هذا التقرير عدم اختصاص القوة ببحث نظري في المقدمة؟
إن محاولة تحديد رؤية ابن خلدون في المقدمة للقوة والنظرة المعرفية الإبستمولوجية التي تكمن خلفها كفيلة بالإجابة على هذا التساؤل.
ما تعريف المفهوم ودلالاته عند ابن خلدون
لم ينشغل ابن خلدون بتحديد الطبيعة الجوهرية للقوة ولم يكن هاجسه الأساسي اصطفاء تعريف معين للقوة وبلورته وشحذه كمفهوم وحيد يصلح للاستخدام في نظريته العمرانية بل كان في تعامله معها ينطلق من قاعدة هامة مفادها "بأن الأشياء بمفاعيلها" هذه القاعدة التي تتسق مع الرؤية الإبستمولوجية الإسلامية فعندما سأل المسلمون النبي عليه الصلاة والسلام عن الأهلة لم يجبهم الوحي بنظرية عن حركة الأفلاك ومدار القمر بل وجههم إلى ما يفيدونه منها " قل هي مواقيت للناس والحج" فلم يكن طابع العلوم الإسلامية الانشغال بجوهر الأشياء بل الإدراك المطابق للواقع الظاهر للأشياء أوالظاهرات فكان استعمال ابن خلدون للمفهوم أقرب لمدخل اللغة الدارجة الذي يؤكد على ان تعددية الاستعمال اللغوي المعتاد لمفهوم القوة يعكس الطبيعة المركبة للواقع الاجتماعي الذي جعل مفهوم القوة ذا طابع مزدوج كوجهي "جانوس"" فهي قدرة على فعل أمر ما" فهي خصيصة لكائن معين ، وفي الوقت نفسه تشير هذه المعاني إلى ان القوة تعني أيضاً امتلاك قياد وتحكم في الآخرين بعبارة أخرى فإن القوة أحد خصائص الكائن الاجتماعي التي تمكنه من إنجاز شئ ما وفي الوقت نفسه هي قوة تتم في إطار علاقات اجتماعية معينة.
ويظهر هذا الفهم كأجلى ما يكون في مفهوم العصبية التي تعبر بما تعنيه من تضامن جمعي عن القوة كخصيصة للفاعل الاجتماعي وفي سعيها للتغلب على العصبيات الأخرى تعبر عن ممارسة القوة على القوة في علاقة اجتماعية على آخرين.
إلا إن أصالة ابن خلدون ترجع إلى أنه وهو يحاول أن يفهم أزمة حضارته كان مضطرا خلال عمليته التنظيرية إلى تأصيل مفاهيم جديدة تتجمع وتتكامل داخل النسق المعرفي الإسلامي ، فهو لم يخرج على الدوائر العامة الكبرى للتصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون ، ولكنه - في الوقت نفسه - لم يجد نفسه مُلزما باستعمال نفس الأدوات والمصطلحات والتعابير ، ولا حتى المنهجية الفكرية التي كانت شائعة في العالم الإسلامي في عصره أو ما قبل عصره ، حين رأى أن تلك المصطلحات أو المنهجية لن تمكنه من القيام بواجبه ، ومن أداء دوره الخاص والمتميز . بل إن هذا الأمر بالذات هو ما مكّنهُ من تقديم عطائه المبدع بشكل جعله بحق أول من حاول بشكل متكامل إيجاد تصورٍ إسلاميٍ معرفيٍ للحضارات وللاجتماع الإنساني وحركته على وجه الإجمال .
ترتبط تحولات الاجتماع البشري بمفهوم القوة التي عالجها ابن خلدون من خلال منظومته المفاهيمية وبالأخص مفهوم الوازع
والوازع من الألفاظ التي استمدها ابن خلدون من المعجم العربي العام ومعناها المعجمي هو الفصل والتفرقة وإبعاد الشئ عن غيره أو الإنسان عن إنسان آخر ثم القيام بذلك على مقتضى ترتيب يراعى في هذا المقام وقد أصبح معنى الكلمة أكثر اختصاصاً في اصطلاح ابن خلدون فالوازع في المقدمة إنما هو الرادع القادر على صد المعتدي يقوم به الملك أو من يقوم مقامه من أصحاب الشوكة وقد أطلق اللفظ في بعض فقرات المقدمة بصورة مجازية على الشعور الديني واحترام الشريعة اللذين يقومان في النفوس المؤمنة والمجتمعات المتدينة بدور الردع عن التعدي والظلم ومثالها العرب بعد الإسلام
فبعدت طباع العرب لذلك كله عن سياسة الملك وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم و تجعل الوازع لهم من أنفسهم و تحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض لكن الوازع على العموم يعني الإلزام وإذا كان الإلزام ضرورياً لإقامة الاجتماع ومن ثم العمران فهو أشد أهمية لتحقيق العلاقة السياسية فهو عصب الملك والرئاسة.
فهو يعني عنده أساس الإلزام الاجتماعي " ثم أن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه و تم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان و الظلم فلابد للاجتماع البشري من وازع، والوازع قد يكون التغلب والرئاسة، يتخذ التغلب في البدو شكل العصبية.
ويجمع الوازع بين مفهومي القوة من أجل تحقيق أهداف معينة و القوة على أطراف أخرى فاصطباغ العرب بصبغة دينية جعل الوازع لهم من أنفسهم فانصرفت النفوس إلى الحق ...وأقبلت على الله فاتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد واتسع نطاق الكلمة فعظمت الدولة
شبكة مفاهيم القوة عند ابن خلدون
المفاهيم الفرعية
ووسيلة الوازع إما ملك أو عصبية أو نبوة
الوسيلة الأولى لقيام الوازع هي العصبية وقد ربط ابن خلدون بين العصبية والاجتماع، (الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج للمتكون) حتى أنها تبدو وكأنها المرادف الأساسي للقوة.
يقول المثل العربي انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فلا عجب إذا كان ابن خلدون يعلق على العصبية أهمية عظمى ويعتبرها العامل الجوهري لقوة المجتمع السياسي ولفظة عصبية مصدر عصب أي جمع واجتمع وتجمع في مكان ما سبق وأن استخدم في الجاهلية كما أورد ابن خلدون وكان يعني العلاقة بين ذوي القربة أي الرابطة الدموية بين أفراد جماعة ما وهذا الاستخدام هو الذي أدانه النبي بقوة إدانة ليس من الصعب ان نجد لها أسباباً سياسية اجتماعية وابن خلدون لا يعيد النظر في هذه الإدانة بل يستنتج أنها تظهر ضرورة فهم العصبية بمعنى ميل الناس إلى التعاون فيما بينهم وينبغي ألا يؤخذ هذا التفسير بحرفيته فالأمر يتعلق بمفهوم واحد يقلبه ابن خلدون حسب حاجات تفسيره للظاهرات الاجتماعية فالعصبية تعني في الأصل النسب (رابطة الدم) إلا أن هذا المعنى يتسع لمختلف تجليات الجماعة من القبيلة الموسعة إلى الموالي والمصطنعين إلى التشكل السياسي (الدولة)
وإذ كان ابن خلدون يربط العصبية بالبدو وسكناه، فذلك لأن البداوة هي صورة الاجتماع الأولى، وهو أمر كشف عنه من قبل في تقسيم مؤلفه حين بدأ بالعمران البشري على الجملة، ثم أردفه بالعمران البدوي وذكر القبائل والامم الوحشية، ثم الدول والخلافة والملك، ثم العمران الحضري..إلخ ، وقال في تفسير ذلك "وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها"
العصبية رابطة تقوم على أصل مشترك/نسب (حقيقي أو متوهم) يشترط فيه عنصر الادراك من قبل المنتمين له (لهذا النسب) ، وعنصر اللحمة والنعرة والتناصر ، والعصبية قوة تتحرك باستمرار لاكتساب مزيد من القوة والسلطة، وهي تقترن بالخلال الحميدة "إن المجد له أصل ينبني عليه، وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير، وفرع يتم وجوده ويكمله وهو الخلال، وإذا كان الملك غاية العصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها وهي الخلال" وعندما تضعف (بالترف والظلم وذهاب الفضائل) فإنها تهيء لانتقال السلطة لعصبية أخرى. وقيم العصبية لا تقتصر على قيم التماسك الداخلي، أو القيم المشتركة بين أهل العصبية، بل تمتد إلى القيم العامة مثل العدل وإكرام أهل العلم.
والعصبية في بنائها كمفهوم ارتكزت على "صلة الرحم"، وهو مفهوم من صفته التراحم والموالاة والنصرة ، ولا يتضمن انكفاء على الداخل ولا يقوم بنائياً في مواجهة الآخر، بل إن الصلة التي تنشئها الرحم صلة ممتدة وواسعة وتجميعية وليست اقصائية بحال. ولا تحمل نظرة خاصة للذات في مقابل الآخر. وإلى جانب صلة الرحم كنسب حقيقي، قد تقوم العصبية على رباط متوهم، لكن تتحقق فيه ثمار النسب من النصرة والتلاحم، والرباط المتوهم قد يكون بولاء أو حلف أو لجوء أو التحام.
والعصبية إذ تقوم على النسب، فلابد مع النسب من ثمراته، وثمرات النسب في النعرة والنصرة، فإذا وجد النسب دون ثمراته لم توجد العصبية، وإذا وجدت ثمراته ولم يوجد النسب، وجدت العصبية، فالنسب أمر وهمي لا حقيقة له ونفعه إنما هو في الوصلة والالتحام. وهذا أمر يقتضي وضوح النسب وإدراكه.
والنسب مفهوم منظومة، فالنسب درجات ، فهناك النسب بالولادة ، أو بصلة الرحم ، وهناك نسب الاصطناع. أما النسب بالولادة ، ففيه نسب خاص يكون بين أبناء العمومة الأقربين ونسب عام بين أبناء العشيرة ، والنسب الخاص عصبيته أقوى من العام لبروز ثمرات النسب فيه بشكل أكبر، كذلك الحال بالنسبة للنسب القريب والمتواصل والبعيد . أما نسب الاصطناع فقد يكون بالولاء والحلف والاسترقاق أو بالادعاء ،وأهل نسب الاصطناع عصبيتهم دون عصبية الدم في العموم ولا تكون لهم الرئاسة على عصبية الدم، وشرف أهل نسب الاصطناع يكون بالعصبية التي يلتحمون ويلتصقون بها لا من نسبهم الحقيقي، وأهل نسب الاصطناع قد يشكلون عصبية قوية حال وقوع ثمرات العصبية من النصرة والالتحام. والنسب حين يختلط بالنصرة والعصبية فهو حسب .
وعليه يعرف ابن خلدون العصبية بـأنها إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته وهي مما جعله الله في قلوب عباده من الشفقة و النعرة على ذوي أرحامهم وقرباهم موجود في الطبائع البشرية و بها يكون التعاضد و التناصر و تعظم رهبة العدو لأهل العصبية
وهكذا أوضح ابن خلدون في البداية أهمية الوازع في الاجتماع البشري.
وأن العصبية هي ضرورة في كل أمر يُراد أن يحمل الناس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة ، لأن بلوغ الغرض يتم بالقتال لما في طبائع البشر من الاستعصاء، ولا بد في القتال من العصبية.
أن العصبية تقوم على النسب (صلة الرحم) أو ما في معناه (مثل الولاء) وما يولده النسب من نعرة ونصرة بين أهله.
أن النسب المشترط للعصبية هو النسب الصريح المدرك والمتحصلة ثماره في النعرة.
أن النسب المختلط قد ينشيء عصبية طالما وجدت "ثمرات النسب" من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال.
الرئاسة تكون لأهل النسب الخاص لأن عصبيتهم أشد من أهل النسب العام، فيكون لهم الغلب.
العصبية عند ابن خلدون هي أساس القوة، ثم هي أساس التّغلب الذي هو أساس الرّئاسة، وعنها يقول: "ولما كانت الرياسة إنما تكون في الغلب، وجب أن تكون العصبية ذلك النّصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرياسة لأهلها "فلا يمكن أبداً الامتزاج والاجتماع والدّول بعصبيّات متكافئة القوى، "فالعصبيات لابدّ أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكل، حتى تجمعها وتؤلفها وتصيّرها عصبية واحدة شاملة لجميع العصائب وهي موجودة في ضمنها".
ويذكر ابن خلدون أن هناك نوعين من العصبية، عصبية خاصة وأخرى عامة، فكل حي أوبطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام، فبينهم أيضاً عصبيات أخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النّسب العام لهم، والنّعرة تقع من أهل النّسب الخاص، أو من أهل النّسب العام إلا أنها في النّسب الخاص أشد لقرب اللحمة، لذا تكون أكثر قوة، ويجب عليها الرّياسة.
لم يفت ابن خلدون أن يتحدّث عن أهمية عدد أهل العصبية فإن قوة واستمرار العصبية مرتبطان بكثرة عددها "والسبب في ذلك أن الملك إنما يكون بالعصبية وأهل العصبية. لهم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة وأقطارها وينقسمون عليها، فما كان من الدولة العامة قابلها وأهل عصابتها أكثر، كانت أقوى وأكثر ممالك وأوطاناً وكان ملكها أوسع لذلك".
فأهل العصبية يتوزعون حصصاً على الممالك والثغور، ويقومون بالحماية والجباية، "إن كانت العصابة موفورة، ولم ينفذ عددها في توزيع الحصص على الثغور والنّواحي، بقي في الدولة قوّة على تناول ما وراء الغاية، حتى ينفسح نطاقها إلى غايته"، فغاية العصبية الغالبة هي التغلّب على عصبيات أخرى بعيدة عنها، فسوف لن تكتفي بالتّغلب على العصبيات التي تحيط بها فقط، فالهدف أكبر من ذلك"
وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضاً، وزادت قوة في التّغلب إلى قوتها. طلبت غاية من التّغلب والتحكّم أعلى من الغاية الأولى وأبعد. وهكذا دائماً حتى تكافئ بقوتها قوة الدولة" ولذلك تقوم قوتها في كثرة عددها كما أنه أوضح أنه إذا حصل الملك والتّرف كثر التّناسل والعمومية فكثرت العصابة.
وتحدث ابن خلدون في مقدمته عن العصبية وتكوين الدولة (الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك) ويتحدث عن العصبية والشرعية ، وعن العصبية واستقرار الدولة (الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة)، وعن الترف والظلم كعوائق لهدف العصبية في الملك، وكمقوض للملك..
صور القوة
اما الصورالتي يمكن أن تتجسد فيها القوة فقد ميز ابن خلدون بين الغلبة التي تتضمن عناصر الانقياد الطوعي إلى جانب الجبر المادي من ناحية وبين القهر فالجبر ضروري في أول عهد الدولة حيث يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب للغرابة و أن الناس لم يألفوا ملكها و لا اعتادوه
أما القهر فمثاله غلبة أهل الأمصار على أهل البوادي والقفار حيث يضطرون إلى طاعة رئيس المصر لما يتوقعونه من فساد عمرانهم ومع استحالة حياتهم بالقفار لايجد هؤلاء ملجأ إلا طاعة رئيس المصر.
وهناك الهيمنة المرتبطة بالدعاوى الدينية
حيث يرى ابن خلدون أنه في الحضر يكون الوازع هو الملك ، والملك ليس إلا عصبية اكتست فوق الغلب والرئاسة صفة القهر والحكم به. فالملك إنما يحصل بالتغلب والتغلب إنما يكون بالعصبية ومع ذلك يصبح الملك وسيلة مستقلة لقيام الوازع وذلك عندما تستحكم الغلبة للدولة ويستقر في النفوس الانقياد لما استحكم لها من صبغة الغلب في العالم فيصبح هذا الانقياد بديهة مسلم بها فكأنه حصل للدولة نوع من استقرار الهيمنة." فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة و توارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين و دول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة و رسخ في العقائد دين الانقياد لهم و التسليم و قاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل و لا يعلم خلافه"
أما النبوة أو دعوة الحق فهي أهم وسائل قيام الوازع لأنها تجعله من داخل النفس من خلال الاستدخال الطوعي للقيم والضبط الاجتماعي فهي تجمع بين مفهومي الضبط الاجتماعي الذي يحمل بعض معنى القوة والهيمنة ويشرح ابن خلدون ذلك خلال حديثه عن العرب بقوله "... وأنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة ، فقلَّ ما تجتمع أهواؤهم . فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خُلُق الكبر والمنافسة منهم ، فسهُل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المُذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس" . وواضحٌ أن المسألة هنا لا تتعلق برفض الهوى ابتداءً ، وإنما بالقدرة على التحكم فيه وتوجيهه إلى الحق ، أي في وجود "الوجهة" المطلوبة .
ولذلك يلاحظ ابن خلدون أن الدعوة الدينية تزيدُ الدولة قوة فوق قوة العصبية التي كانت لها والسبب في ذلك "أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرِّد الوجهة إلى الحق ، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه، وأهل الدولة التي هم طالبوها [أي الدولة التي يواجهونها] وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل، وتخاذلهم لتقية الموت حاصل ، فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعالجهم الفناء بما فيهم من الترف والذل".
المفاهيم المستدعاة والمناظرة
الرئاسة و الملك
والملك كما يرى ابن خلدون يقتضي التغلب والقهر، لذلك كانت أحكام الملوك جائرة في أغلب الأحيان، فيحملون رعاياهم ما لا طاقة لهم به لتحقيق رغباتهم و شهواتهم، فتعسر طاعتهم و تأتي العصبية المفضية إلى الهرج و القتل، و بما أن التنظيم هو أساس قيام الملك، وجب إيجاد قوانين سياسية " يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها" ذلك أنه إذا خلت دولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها.
وهناك اختلاف بين الملك الطبيعي أو الرياسة والملك السياسي سواء كان خلافة أو سياسة عقلية، وهو أن الملك أمر زائد على الرياسة إذ يقول ابن خلدون:"الفرق إذا بين العصبية القبلية والعصبية السياسية هو أن الأولى خطوة نحو الثانية وإنها إذا بلغت غايتها حصل للقبيلة الملك " ويقول التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرياسة لأن الرياسة هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه و أما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر..."
الخلافة
تختلف الخلافة عن الملك السياسي، من حيث أن الأولى الملك يهتم بالدنيا في حين أن الخلافة تهتم بالآخرة، ومن هذا المنطق كانت الخلافة بالنسبة لابن خلدون منصباً دينياً. إلا أن هذا التمييز بين الخلافة و الملك ليس تمييزا واقعيا بقدر ما هو تمييزا إجرائيا يمكن ابن خلدون من تحليل ظاهرة الحكم دينيا كان أم عقليا على أسس حضارية و تاريخية. ذلك أن الخلافة رغم كونها منصب ديني بالأساس ليست غريبة عن الملك، بل أنها تحتويه، إذ يقول ابن خلدون " و الخلافة والملك في الطورين ملتبسين بعضهما ببعض" بل إن الخلافة لا يمكن أن تكون رتبة دينية بحتة وإلا لما كانت خلافة ولوجب إلغاؤها كما ذهب إلى ذلك المعتزلة. و الخلافة باعتبارها تحتوي الملك و بخططها الدينية الشرعية من الصلاة والفتاوي والقضاء والجهاد والحسبة، هي صورة الدولة الخاضعة للدين.
و يرى ابن خلدون أن أمر الخلافة والعهد بها لم يكن مهما في فجر الإسلام، و ذلك بقوة الوازع الديني أو الحامل بتعبير ابن خلدون حتى أن شأن العصبية فقد أهميته لأن أمر الدين، رغم كونه يحتاج إلى العصبية كما يبين ذلك ابن خلدون، كان كله بخوارق للعادة، فلم يحتج "إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صيغة الانقياد والإذعان... فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات... استحالت تلك الصبغة قليلا قليلا وذهبت الخوارق و صار الحكم للعادة كما كان... وأصبح الملك و الخلافة و العهد بهما من المهمات الأكيدة ."
المفهوم المناقض: انهيار القوة أو فناء الدولة
دورة الدول ودورة العصبيات :
لقد نظر ابن خلدون للدولة على أنَّها كائن حي وينمو ، ثُمَّ يهرم ليفنى.فللدولة عمر مثلها مثل الكائن الحي تماماً ،وقد حدَّد ابن خلدون عمر الدولة بمائة وعشرين عاماً ،لأنَّه يرى أنَّ العمرالطبيعي للأشخاص كما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرين عاماً ، ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر إلاّ إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب مستشهداً بقوله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ) ، وذكر أنَّها تتكون من ثلاثة أجيال كل جيل عمره أربعون سنة، وذلك لأنَّه اعتبر متوسط عمر الشخص أربعين سنة ، حيث يبلغ النضج إلى غايته مستشهداً بقوله تعالى : "حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ولهذا بيَّن أنَّ متوسط عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل، ويؤيد ذلك حكمة التيه الذي وقع لبني إسرائيل في أربعين سنة ، والمقصود بالأربعين سنة فيه فناء الجيل لإحياء ونشأة جيل آخر وربط ابن خلدون تعاقب هذه الأجيال بقوة العصبية التي تستند إليها الدولة فالجيل الأول تكون العصبية فيه قوية فهو الذي يؤسس الدولة ثم تتدعم قوة الدولة في الثاني نظراً للجمع بين قوة العصبية والقوة الناجمة عن استقرار الملك من هيبة وثروة إلا أن الترف المذهب للشعور بالتضامن الجمعي واستقرار الدولة بصورة تجعل صاحب العصبية يسعى للانفراد بالملك يؤدي لسهولة تغلب أقوى العصبيات الناشئة الأخرى في الدولة على حكم الدولة القائمة وبدء دورة جديدة.
ما الدور الذى لعبه أو المفكر فى تغيير دلالات المفهوم ماهى استراتيجيته الخطابية؟
انطلق ابن خلدون في رؤيته للقوة من نظرية واقعية فتجاوز الثنائيات الاستقطابية التي تمحورت حولها رؤى العديد من المفكرين فسعى ابن خلدون لاعتبار الواقع دون أن يسقط في مقولة يتضمن في ذاته مرجعية داخلية تتحدد حسب توازنات السيطرة المجردة فرأى ابن خلدون أن القوة هي قدرة لتحقيق الأهداف بكفاءة وفعالية وبالتالي تجنب التوصيف القيمي لحالة معينة على أنها تفتقر للقوة فالكفاءة ترتبط باعتبارات ميدانية مرحلية تكتيكية في الأجل القصير في حين ترتبط الفعالية بمنظور كلي فلاشك أن المتغلب قد يجمع صنوفاً من القوة لكن منطق الاستبداد الداخلي يوقع به بما يؤكد أن الحق نفسه هو مصدر قوة.
أما الاستراتيجيات الخطابية التي لجأ إليها ابن خلدون فتتمثل في:
- الاستدلال المنطقي من خلال مقدمات يتم التسليم بصحتها بناء على مشاهدات الواقع أو أخبار التاريخ ثم بناء عدد من النتائج التي تلزم عنها مثل أثر الترف على العصبية
- الموازنة العقلية أو حجة المقارنة بين مواقف مختلفة من خلال النظر في طبيعة الأسباب والنتائج المفضية إليها.
- تقديم الشوهد الاختبارية من الخبرة والممارسة
- استخدام حجج التنبؤ بالعواقب المستقبلية:
وتتضمن جانبين:-
حجة الاتجاه أو المسار وتسعى إلى استشراف المستقبل بتوكيد أن الفعل الحالي مرتبط ارتباطاً أصيلاً بأفعال مستقبلية فتسعى الحجة إلى بيان أن الحوادث غير منعزلة فمتى تم الانفراد بالملك مثلاً دون بقية العصبية مع الانغماس في الترف فلن يتم التوقف حتى يتم انتقاص العمران إيذاناً بخرابه فهي أشبه بنظرية الدومينو .
حجة الترهيب: فتؤكد هذه الحجة العواقب الوخيمة الناجمة عن سلوك معين مثل الترف والظلم والترهيب من عواقبهما المستقبلية الرهيبة من انهيار المجتمع وسقوط الدولة.
ما القضايا النظرية التي تثيرها رؤية ابن خلدون لمفهوم القوة
ما طبيعة العلاقة بين صور القوة
العلاقة بين صور القوة القائمة على القبول وتلك القائمة على القهر
ويعبر عن هذه العلاقة بالعلاقة بين الشرعية والقوة وقد عبر ابن خلدون عن مفهوم الشرعية بالاستحقاق فالقوة تخلق أحياناً شرعية فاستحقاق الرئاسة حسب ابن خلدون إنما يكون بالغلب هذا إذا كان الوصول إليها مباشراً وإلا وإذا كان هذا الوصول موروثاً فمن استحقها بالغلب: إنما تكون متناقلة في منبت واحد تعين له الغلب بالعصبية .
العلاقة بين الجبر و الهيمنة
وتشير إليها مقولة ابن خلدون الذائعة أن المغلوب مولع بتقليد الغالب "والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به وذلك هو الاقتداء"
العلاقة بين الثروة والجبر
وهي في بداية علاقة إيجابية بما توفره من قدرة على تقوية التضامن العصبي من ناحية وإمكانية تسييلها إلى أدوات الجبر من سلاح وجند لكنها تنقلب علاقة سلبية مع استحكام الدولة وزيادة الثروة يما يؤدي للترف بما يعنيه من تبديد الثروة وضعف العصبية
العلاقة بين قوة الحجة والعصبية
ومثال قوة الإقناع الدعوات الدينية وهي دائماً في حاجة إلى العصبية من ناية والعصبية تسكتمل بالارتكان لدعوة دينية عناصر قوتها
كيف يؤثر الجمع بين صور القوة على فعاليتها من حيث الانتشار والشمول والكثافة
لم يهتم ابن خلدون كثيراً بكثافة القوة نظراً لطبيعة السلطة السياسية في عهده وإن لم يمنع هذا من اهتمامه بها داخل العصبية الواحدة وبالأخص مفهوم الرئاسة داخل العصبية أما من حيث انتشار القوة فهو دالة في عدد العصبية وقوة التضامني العصبوي كما يدل عليه قوله:
إذا كانت الأمة وحشية ( ومن ثم قوية العصبية) كان ملكها أوسع وذلك لأنهم أقدر على التغلب والاستبداد كما "أن عظم الدولة و اتساع نطاقها و طول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة و الكثرة و السبب في ذلك أن الملك إنما يكون بالعصبية و أهل العصبية هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة و أقطارها و ينقسمون عليها فما كان من الدولة العامة قبيلها و أهل عصابتها أكثر كانت أقوى و أكثر ممالك و أوطاناً و كان ملكها أوسع لذلك
ما أهم ركائز القوة
ويمكن إجمالها في العدد والتضامن بين العصبية الواحدة أو التضامن الناتج عن الدعوات الدينية
فالعدد يحدد اتساع الدولة ويحدد طول أمدها وعمر الحادث هو من قوة مزاجه أي قوة العصبية أما يفعل فعلها من توحيد الجهود والوجهة في الجماعة كالدعوة الدينية " يقال أن عدد بني مرين لأول ملكهم كان ثلاثة آلاف و أن بني عبد الواد كانوا ألفاً إلا أن الدولة بالرفه و كثرة التابع كثرت من أعدادهم و على هذه النسبة في أعداد المتغلبين لأول الملك يكون أتساع الدولة و قوتها و أما طول أمدها أيضاً فعلى تلك النسبة لأن عمر الحادث من قوة مزاجه و مزاج الدول إنما هو بالعصبية فإذا كانت العصبية قوية كان المزاج تابعاً لها و كان أمد العمر طويلاً و العصبية إنما هي بكثرة العدد.
رؤية الكواكبي لمفهوم القوة :
السياق النظري والعملي لرؤية الكواكبي لمفهوم القوة
بذل الكواكبي محاولاته الإصلاحية في حلب والشام والتي خاض في غمارها تولي المناصب الرسمية والعمل بالصحافة والمحاماة بل والعمل عرضالحجياً بما أدى به للاصطدام بالاستبداد التركي المتستر بالعثمانية فكان أن وجه عنايته لمحاربة الاستبداد باعتباره العلة الأولى لحالة الفتور العام التي اعترت العالم الإسلامي وإذا كان الكواكبي ليس أول مفكر عربي يتصدى للاستبداد بالنقد والتعريض حيث سبقه إلى ذلك مفكرون من أمثال خير الدين التونسي وابن أبي الضياف فإنه أول عربي يتصدى للظاهرة الاستبدادية بالتحليل والدراسة ليقدم نظرية متكاملة في عن الاستبداد ومقاومته وهكذا فإن رؤية الكواكبي لمفهوم القوة تشكلت في سياق صياغته لنظريته عن الاستبداد وطرق مقاومته والتحرر منه باعتباره انهياراً للقوة وسبباً لحالة الوهن والضعف فكأنه سلك عكس مسلك فوكو الذي انطلق من رصد عمل نظم الممارسات وصولاً لاستكشاف إمكانات التحرر الملازمة لهذه الممارسات.
وثمرة أفكار الكواكبي يضمها كتاباه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" وكتاب " أم القرى " إضافة إلى مقالاته في صحف مثل حلب والشهباء التي كان يرجع الفضل في توجيه الاهتمام بها لجان داية وتابعه بالتحقيق والتوثيق محمد جمال طحان وإلى جانب ذلك يوجد كتابان أشار إليهما الكواكبي وإن لم يصلا إلينا وهما "صحائف قريش" " والعزة لله" وبرجح الأستاذ العقاد أن صحائف قريش متممة لأم القرى وان "العزة لله" ينعي فيه على المستبدين مطاولتهم لله تعالى في صفاته ومن معاصريه منهم السلطان عبدالحميد الذي بقي الكوكبي حتفه مسموماً على يد أحد عملائه.
شبكة مفاهيم القوة عند الكواكبي
يمكن القول عن حق أن كتاب "طبائع الاستبداد" إيجاز وتركيز لكتاب "أم القرى" إذ تجمعهما وحدة الهدف والمنهج والغاية وإن اختلف الأسلوب حيث يتحدد الهدف في بحث أسباب "هذا الخلل الطارئ والضعف النازل" الذي حل بغالب المسلمين و " التنقيب عن أفضل الوسائل للنهضة الإسلامية" اما السلوب فتراوح بين الأسلوب التقريري الحاسم في طبائع الاستبداد وأسلوب " الفن الروائي" في أم القرى ومن خلال هذا الأسلوب التخيلي يستعرض الكواكبي العلل المتعددة وراء هذا الفتور و يصنفها بين علل أصلية وأخرى فرعية ويرى العلاقة البادلية فيما بينها فهي أشبه بالحلقة المفرغة بين الأسباب والنتائج لا يكسرها إلا الاستبداد الذي يمثل بما له من طبيعة بنيوية العلة الأولى وراء حالة الفتور العام والضعف والوهن ف" كلّ ٌ يذهب مذهباً في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء. وحيثُ إني قد تمحّص عندي أنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي ودواؤه دفعه بالشّورى الدّستورية
وهو ما يؤكد عليه الكواكبي في الطبائع بشكل أوضح حيث يتتبع هذا المفهوم في علاقته بشبكة الفعاليات والعلاقات الاجتماعية كالدين والمال والتربية والأخلاق التي ترتكس بالاستبداد "من الحِكَم البالغة للمتأخرين قولهم: "الاستبداد أصلٌ لكلِّ داء"، ومبنى ذلك أنَّ الباحث المدقق في أحوال البشر وطبائع الاجتماع كشف أنَّ للاستبداد أثراً سيئاً في كلِّ واد"
وقد يوحي هذا المنهج بأن تنظير الكواكبي للقوة كان من خلال النفي والسلب خاصة أن القسم الأكبر من كتابه الطبائع كان مخصصاً لبحث طبائع الاستبداد في حين كان القسم الأقل مخصصاً ل"مصارع الاستعباد" لكن إمعان النظر في الكتابين يظهر أن الكواكبي حتى في سياق عرضه لطبائع الاستبداد وعلل الفتور العام كان يجلي ركائز وصور القوة ودلالات مفهومها.
والكواكبي شأنه شأن ابن خلدون يفرق بين القوة العارية بتعبير برتراند راسل التي تستهدف التحكم وإرضاء الشهوات والميول الخاصة والقوة الغائية وهي القوة الحقيقية الجديرة بهذا الوصف.
ويرتبط النمط الأول من القوة بالاستبداد وهو "في اصطلاح السّياسيين هو تَصَرُّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة" ومن صور القوة العارية " استعباد، واعتساف، وتسلُّط، وتحكُّم".
لكن الكواكبي لا ينكر على المستبد تمتعه بالقوة وارتكانه إلى ركائزها " ثمَّ إنَّ الاستبداد محفوفٌ بأنواعٍ القوات التي فيها قوّة الإرهاب بالعظمة وقوّة الجُند، لا سيما إذا كان الجند غريب الجنس، وقوة المال، وقوة الإلفة على القسوة، وقوّة رجال الدين، وقوّة أهل الثروات، وقوّة الأنصار من الأجانب، فهذه القوات تجعل الاستبداد كالسيف" ويجلي الكواكبي عناصر قوة المستبد هذه تفصيلاً مبيناً أنها يمكن أن يحول الاستبداد هذه الركائز والصور من جوهرها الفاعل إلى صورتها الفاسدة والمفسدة فمثلاً بالنسبة للمال الذي يعرفه بانه كلُّ ما يُنتَفَع به في الحياة فالأصل فيه أنه "يستمدُّ من الفيض الذي أودعه الله تعالى في الطبيعة ونواميسها، ولا يملك؛ أي لا يتخصص بإنسان، إلا بعمل فيه أو في مقابله " ووظيفته "عند الاقتصاديين: ما ينتفع به الإنسان، وعند الحقوقيين: ما يجري فيه المنع والبذل؛ وعند السياسيين: ما تُستعاض به القوة؛ وعند الأخلاقيين: ما تُحفظ به الحياة الشريفة" لكنه أدة الاستغلال وإحكام السيطرة بالنسبة للمستبد على أن أهم القوى هي الدين والدين في الأصل بقوة باعثة على التعاون لتحقيق الخير العام في الدنيا والآخرة لكنه عندما ينحرف عن حقيقته على يد رجال الدين أعوان المستبد يتولد الاستبداد الديني القائم على القهر والذي يتولد عنه الاستبداد السياسي " والبعض يقول: إنْ لم يكنْ هناك توليد فهما أخوان...والمشاكلة بينهما أنَّهما حاكمان؛ أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب.ويرون أنَّ هذا التَّشاكل في بناء ونتائج الاستبدادَيْن؛ الدِّيني والسّياسي" فالدين بالأساس قوة تحرير " لا مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد".
وقد ظهر مما تقدَّم أنَّ الإسلامية مؤسسة على أصول الحرّية برفعها كلّ سيطرة وتحكُّم، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء، وبحضِّها على الإحسان والتحابب. وقد جعلت أصول حكومتها: الشّورى الأريستوقراطية؛ أي شورى أهل الحلِّ والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم. وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي؛ أي الاشتراكي "
حتى" أنَّ كل المدقِّقين السّياسيين يرون أنَّ السّياسة والدّين يمشيان متكاتفَيْن، ويعتبرون أنَّ إصلاح الدّين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السّياسي"
والأمر نفسه بالنسبة لقوة العلم والمعرفة حيث "الاستبداد والعلم ضدان متغالبان؛ فكلُّ إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل" ترتعد فرائص المستبدُّ من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصّل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تُكبر النفوس، وتوسّع العقول، وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النّوال، وكيف الحفظ."
لكن قوة المستبد تستند بالاساس للجبر وما يرتبط به من قهر فقصر المستبدِّ في كلِّ زمان هو هيكل الخوف عينه" و "َ الاستبداد محفوفٌ ...بقوّة الإرهاب بالعظمة وقوّة الجُند، لا سيما إذا كان الجند غريب الجنس، وقوة المال، وقوة الإلفة على القسوة"
المفاهيم المستدعاة
السياسة
السياسة عند الكواكبي علم وفن وممارسة لذلك فهي كعلم "علمٌ واسعٌ جدّاً، يتفرّعُ إلى فنون كثيرة ومباحثَ دقيقة شتّى. وكفن وممارسة "قلّما يوجد إنسان لا يحتكُّ فيه" ووموضوع السياسة كعلم هو «إدارة الشّؤون المشتركة بمقتضى الحكمة» وعليه يكون أوّل مباحث السّياسة وأهمّها بحث (الاستبداد)؛ أي التّصرُّف في الشّؤون المشتركة بمقتضى الهوى ويتسق هذا مع رؤية الكواكبي للسياسة شأنه شان علماء المسلمين باعتبارها القيام على الأمر بما يصلحه فالاستبداد إفساد للسياسة
القانون
يرى الكواكبي أن المنشأ الأصلي لكل شقاء هو انحلال السلطة القانونية بسبب فسادها أو غلبة سلطة شخصية عليها، وهكذا انحرفت السياسة الإسلامية من الديمقراطية، في عهد الراشدين، إلى الملكية المقيدة بقواعد الشرع الأساسية، ثم أصبحت شبه مطلقة، ومثل هذا الانحراف أدى إلى ضعف المسلمين.
فالقانون خير زمام تملكه الأمة إذ بفضله تضبط تصرفات الحاكم، فإن انحرف عنه عاقبته، إنه يكشف، عبر هذه الصورة، للرعية مدى ما تمتلكه من قوة، خاصة حين تستطيع مواجهة المستبد بسلطة القانون، فيصبح في قبضتها، تستطيع محاسبته، أما حين تفتقد القانون فإنها تصبح أسيرة في قبضة المستبد.
فمع السلطة الاستبدادية، التي تتخذ صفات مطلقة، يلغى القانون أو العرف عندئذ ينتفي أي حساب وأي عقاب يمكن أن تخضع له هذه السلطة، لذلك تسير أمور الدولة على هواها، لا تهتم إلا بمصالحها الخاصة، وينتبه الكواكبي منذ وقت مبكر إلى أن مثل هذه الانحرافات ليست حكرا على النظام الملكي، بل من الممكن أن تصيب السلطة التي تسمي نفسها بالمقيدة (أي الجمهورية) فهي تلتقي مع النظام المطلق في كونها تحكم وفق مصالحها الخاصة، بعيدا عن أي حساب، لهذا تدوس على مصلحة الرعية، دون أي رادع، وهو يبين أن أفظع أشكال الاستبداد حين يتجسد الحكم بفرد يملك جميع السلطات السياسية والعسكرية والدينية، ومن ثم يستطيع أن يورّثها فيبين الكواكبي أن أهمية القانون ليست في وجوده بحد ذاته بل تعبيره عن المصلحة العامة .
وعليه فإن نشر الوعي بالقانون من خلال المباحث التي تدرس " حفظ السُّلطة في القانون" و "
هل يكون للحكومة إيقاع عمل إكراهي على الأفراد برأيها؛ أي بدون الوسائط القانونية؟ أم تكون السُّلطة منحصرة في القانون، إلا في ظروف مخصوصة ومؤقَّتة؟" هو من أهم الأعمال التي تمهد لاستعادة الأمة لحريتها
المفاهيم المناقضة
الحرية
يعرّف الكواكبي الحرية "بأن يكون الإنسان مختارا في قوله وفي فعله لا يعترضه مانع ظالم…" فهو تعريف أقرب للطابع السلبي للحرية من حيث أنها غياب للقيود التي تفرضها القوة العارية والحرية عند الكواكبي قيمة عليا لذلك كان افتقادها أصل داء الانحطاط والفتور والضعف فهي "أعزّ شيء لدى الإنسان بعد حياته، وحين نفقدها تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطّل الشرائع، وتختلّ القوانين" وبذلك تصبح قوام الحياة والتطور لذلك تندرج تحتها القيم الأخرى التي حتى أنه يجعل العدالة والمساواة تابعة لها وتأسيس الحرية يبدأ من الوعي لذلك يؤكد على أهمية الدين لتأسيس الحرية بنفي الاعتقاد بالجبر والخضوع لغير الله تعالى وبذلك يملك الناس "حريتهم التي تحميمهم من أن يكونوا أرقاء أذلاء لألف شئ من أرواح وأجسام وأوهام "فثمرة الإيمان بألا إله إلا الله عتق القلوب من الأسارة" ومن فروع الحرية "تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار انهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة وبذل النصيحة " و"حرية التعليم وحرية الخطابة " والمطبوعات " وحرية المباحثات العلمية" والعدالة بأسرها حتى لا يخشى إنسان من ظالم أو غاصب أو مغتال" و "الأمن على الدين والأرواح والأمن على الشرف والأعراض والأمن على العلم واستثماره" ويعي الكواكبي التلازم بين هذه الفروع فيقرن مثلاُ الحرية الشخصية بالحرية السياسية ويرفض أن تسيطر الحكومة على أعمال الناس وأفكارهم لأنه يرى أن" أفراد الأمة أحرار في الفكر مطلقا" وفي الفعل ما لم يخالف القانون الاجتماعي لأنهم أدرى بمنافعه الشخصية" ولا حدود لحرية الفكر لأن الأمة " جامعة سياسية اختيارية لكل فرد حق إشهار رأيه فيها"
المقاومة
الثورة والإصلاح الثوري
إن الذهاب بمنطق القوة العارية إلى منتهاه قد يردي بصاحبها عندما يستثير الجماهير فلا تجد بداً من مقاومته فيحدد الكواكبي الحالات التي يثور فيها" العوام" عقب أحوال مخصوصة مهيِّجة فورية، منها:
عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبدُّ على المظلوم يريد الانتقام لناموسه.
عقب حرب يخرج منها المستبدُّ مغلوباً، ولا يتمكَّن من إلصاق عار التغلُّب بخيانة القوّاد.
عقب تظاهر المستبدِّ بإهانة الدّين إهانةً مصحوبةً باستهزاء يستلزم حدَّة العوام.
عقب تضييق شديد عام مقاضاةً لمالٍ كثير لا يتيسَّر إعطاؤه حتّى على أواسط الناس.
في حالة مجاعة أو مصيبة عامّة لا يرى الناس فيها مواساةً ظاهرة من المستبدّ.
لكن الكوكبي لا يثق بثورة الرأي العام التي تأخذه شكل هبة عفوية لأنها سرعان ما تخمد فلا ينتج عنها إلا استبدال مستبد بأخر أشد عتياً ما دام الاستبداد مستحكماً في شبكة العلاقات الاجتماعية بتعبير مالك بن نبي لذلك يؤثر ما يمكن تسميته بالإصلاح الثوري مع فهمه بشكل أعمق يرفع ما بين عنصري الإصلاح والثورة من تناقض ظاهري فالثورة بما تتضمنه من تقويض راديكالي لقوة الاستبداد لابد من أن تجتث جذورها في الوعي والعقيدة الممارسة الاجتماعية بما يعنيه ذلك من إصلاح ممتد لا يعني بحال إدخال تحسينات وتعديلات على الوضع القائم فالكواكبي يفضل الثورة المخططة التي تبدأ بالإصلاح الديني ونشر الوعي من خلال المؤسسات الداعية لنشر التوحيد كعقيدة تحرير وعمل بما يمهد الطريق لتقديم بديل متكامل للاستبداد
قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ماذا يُستبدل به الاستبداد هو: إنَّ معرفة الغاية شرطٌ طبيعي للإقدام على كلِّ عمل، كما أنَّ معرفة الغاية لا تفيد شيئاً إذا جهل الطريق الموصل إليها، والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقاً، بل لا بدَّ من تعيين المطلب والخطة تعييناً واضحاً موافقاً لرأيِّ الكلِّ
ما القضايا النظرية التي تثيرها رؤية الكواكبي لمفهوم القوة ؟
لعل أهم هذه القضايا هو كيفية الحد من القوة الشاملة التي تستند للعديد من ركائز القوة وتجمع بين ممارسة العديد من صور القوة ؟
يبدو من استقراء فكر الكواكبي أن الإجابة متعددة المستويات:
فأولاً لابد من تقييد هذه القوة بالقانون لكن وجود القانون وحده ليس ضمانة كافية إذ لابد من ضمان أن يكون هذا القانون معبراً عن إرادة المجموع ويعمل لمصلحتها من خلال الشورى التي تعمل من خلال التداول الحر للآراء والأفكار في مؤسسات الفكر والإعلام ولما كان للقوة ميل متأصل للتوسع والاستبداد لابد من أن يحمي القانون من العبث قوة السيف لكن فعالية قوة السيف مرهونة بإيجاد الشروط التي تجعل اليد التي تحمل هذا السيف ماضية العزم من خلال نشر الحريات في كافة المناشط الاجتماعية وبالأخص في الدين بحرية الفكر ونبذ التقليد وتوحيد العبودية لله تعالى وكذلك في مجال التربية حتى لا يصبح الإنسان في زمن الاستبداد كما يطلق عليه الكواكبي "الأسير" .
الأصل اللغوي لمفهوم القوة باللغات الأوربية:
تشير المعاني المعجمية الغربية لمفهوم القوة على أنه "قدرة على فعل أمر ما" فهي خصيصة لكائن معين ووفق هذا المعنى فإن الإنسان ليس الموجود الوحيد الذي يمكن نسبة القوة إليه فكل الموجودات لها نوع أو آخر من القوة، وفي الوقت نفسه تشير هذه المعاني إلى ان القوة تعني أيضاً "امتلاك قياد وتحكم في الآخرين: سيطرة ،حكم ،حكومة أمر، ضبط، نفوذ، سلطة.
مفهوم القوة عند حنة أرنت :
السياق التاريخي والنظري
يكتسب السياق التاريخي الذي بلورت فيه أرنت مفهومها للقوة أهمية خاصة حيث تعتبر محطات سيرتها الذاتية بحد ذاتها تجسيداً لأهم أحداث وخصائص هذا القرن الدموي بحيث يمكن القول مع إرنست جيلنر إن "حياة هذه الناقدة اللاذعة تجسد أيضا جملة الحياة الفكرية والسياسية في عدة قرون أوروبية".
فعلى الرغم من انجذاب أرنت لدراسة الفلسفة منذ صغرها ثم انتظمها في دراستها بشكل نظامي في الجامعة جاءت وصول النازيين وإيديولوجيتهم الشمولية إلى الحكم في ألمانيا في عام 1933 شكل نقطة تحول مركزية في حياة آرندت دفعتها إلى الابتعاد عن الفلسفة بمفهومها النظري البحت والتوجه إلى العمل السياسي بشكل عملي. وفي صيف عام 1933 اعتقلت المخابرات النازية حنة أرندت، ثم أطلقت سراحها فيما بعد. ثم نجحت هذه "اليهودية الألمانية المطاردة من قبل النازيين"، على حد تعبيرها، في الهروب من براثن النازية إلى باريس ثم إلى نيويورك، حيث عملت صحفية، ومراجعة لغوية ومحاضرة جامعية وبدأت عملها السياسي الحقيقي، فسعت لاستكشاف أصول الأنظمة الشمولية من خلال وضع أرنت الشكلين الأكثر بروزا للأنظمة الكليانية وهما النازية الألمانية والستالينية الروسية تحت المجهر في كتابها الموسوعي "أصول الشمولية" إدراكاً لخطورة هذه النظم والأهم خطورة الاعتقاد بأنها أصبحت تنتمي إلى الماضي واكدت أرنت على التحدي الذي تثيره هذه الإيديولوجيات باعتبارها تشكل انبثاقا لظاهرة جديدة جذريا تجبر كل الباحثين على القيام بمراجعة كاملة لأدوات التحليل العلمي المعهودة، علاوة على أنها انعطافة نكوصية لم يشهدها تاريخ الفكر الأوروبي قبل ذلك". وعلى هذا النحو توضح آرندت أن "الأصالة المرعبة للشمولية لا تنشأ عن أن فكرة جديدة جاءت إلى العالم، وإنما على شرخ جديد سحق كل مقولاتنا السياسية وكل مقاييسنا الخاصة بالحكم الأخلاقي. فجبروت الحدث يتفوق هنا على المفهوم". ورغم فاشية الجوهر الإيديولوجي للنازية والستالينية، إلا أن السمة الشمولية تظهر جليا في هدف هذه الأنظمة، الذي لا يقتصر على الاستيلاء على السلطة فحسب، بل يمتد ليـ"يشمل" كل المجتمع ويجسد التماثل الكامل بين الحزب الحاكم والدولة.
وفيما بعد وضعت أرنت كل طاقتها وموهبتها في خدمة المنظمات اليهودية العاملة في نيويورك، التي أخذت على عاتقها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من يهود أوروبا والعمل على إقامة وطن لليهود على أرض فلسطين التاريخية. لكنها انفصلت عن هذه المنظمات لاحقاً ، وبدأ هذا الابتعاد إبان الخلاف الذي نشب داخل الحركة الصهيونية حول التحالفات التي من الممكن عقدها بين ما أُطلِقَ عليه أنصار "الواقعية السياسية" (هرتزل) وأنصار "المثالية الأدبية" (ب. لازار)، وقفت أرندت بجانب الأخير، لأن السياسة الواقعية الوحيدة تنحصر في سياسة تحالف مع الشعوب المتوسِّطية الأخرى التي تعزز الوضع المحلِّي اليهودي في فلسطين والتي تؤمِّن تعاطفًا حقيقيًّا مع الجيران.
ورأت أرندت أن أحد مصادر العمى الصهيوني الخاص بما تسميه "المسألة العربية" يكمن في الاتجاه نحو الواقعية السياسية، أي الاندراج في لعبة القوى العظمى. وبهذا المعنى لا تكون هذه السياسة سوى سياسة تُلغي معناها بسبب تقريبها ممَّن يمتلك قوة أكثر؛ لذلك فهي "غير مبصرة للواقع" الضروري للفعل.
فرأت أرنت أن "إنجازات اليهود في فلسطين هي مصدر الشرعية ونقطة التقاء محتمل مع العرب، فإذا كان هناك بُعدٌ "تاريخي" لاختيار فلسطين دون أي بقعة أخرى في العالم – بحسب الزعم الصهيوني – فهذا لا يضفي وحده شرعية على الوجود اليهودي فيها. فالشرعية لا يمكن أن تتأتى إلا من مبدأ يمكن الآخرين الاعتراف به. وبالنسبة إلى العرب، الحق المعترف به لليهود هو في "جعل الأرض التاريخية بلدًا لهم، لا بالقوة، ولكن بعملهم labor وبثمرة work رؤوسهم وأيديهم". والأمر نفسه، بطبيعة الحال، ينطبق على العرب. وذهبت أرنت إلى ضرورة الاتفاق على "بعض المطالب الرئيسية"؛ ومنها
أن حقَّ الشعب اليهودي في فلسطين "مماثل لحقِّ كلِّ إنسان في حيازة ثمرة عمله"، سواء أكان يهوديًّا أم عربيًّا.
وتأكد هذا الانسلاخ عندما وجدت أرنت الدولة اليهودية تغرق في مستنقع "السياسة الواقعية" Realpolitik، حسب تعبيرها وبعد تغطيتها محاكمة أيْخْمَنْ لحساب مجلة النيويوركر وصدرت لاحقاً في كتاب «أيخمان في القدس» وكان أدولف أيخمان هو المسؤول عن ترحيل وإعدام اليهود في ألمانيا النازية وكان العنوان الفرعي للكتاب«تقرير عن عادية الشر» هو الذي جلب عليها طوفاناً من النقد والهجوم والحملات الصهيونية حيث أبرز إيخمان موظفاً بورجوازياً تافها، وليس سادياً أوشاذاً كما حاول الادعاء الإسرائيلي أن يصوره، بل شخصاً عادياً تماماً، ومرعباً في عاديته. لم تر أرنت في أيخمان تجسيداً للشر، بل أدركت أن الكارثة تكمن في قدرة النظم الشمولية على تحويل البشر إلى محض «منفذين» و «تروس» في الآلة الإدارية – أي تجريدهم من إنسانيتهم.
اعتبرت أرنت المحاكمة محاولة من الدولة الإسرائيلية ترسيخ دعائمها عبر محاكمة مسرحية رأت فيها بدايةً لاستخدام الهولوكوست أداةً سياسية، لا سيما أنها أُجريت في وقت كان بن غوريون يسعى فيه إلى الحصول على المزيد من التعويضات المالية من ألمانيا الغربية. كما كشفت أرنت دور المجالس اليهودية في التعاون و«العمالة» مع النظام النازي بما أثار الشك في الإدعاء الصهيوني بكون اليهود «ضحايا دائمين»، وهو ما أدى لاتهامها بـ "معاداة السامية".
شبكة مفاهيم القوة عند أرنت
على خلاف غيرها من المفكرين فإن فهم طبيعة مفهوم القوة يبدأ بفحص عدد من المفاهيم المرجعية ولعل أهمها السياسة فقد كان اهتمام أرنت الأساسي هو تأكيد طبيعة وخبرة الحياة السياسية فدعت لحس متميز بالسياسة في مقابل اختزالها لمجرد منهج تكنوقراطي ترى أرنت أن السياسة يصعب تحديدها أنطولوجيا لأنها ليست كامنة في ذات الإنسان كما ظن ذلك أرسطو, بل تتجلى في العلاقات بين الناس وتوجد في فضاء خارج الإنسان-الفرد. إن السياسة بحكم أنها نظام من العلاقات, فإنها ترتقي باختلاف البشر وتمايزهم, وبالاعتراف بتساوي البشر رغم اختلافهم, وكل تغييب للاختلاف والتمايز يقود حتما إلى تفقير السياسة وانحدارها وعليه سعت أرنت لإيجاد لغة جديدة للسياسة كعلاقة بين نظراء، بدلا من العلاقة بين فاعل ومفعول به.
والسياسة عند أرنت واحدة من المجالات الهامة للوجود الإنساني من خلاله وفيه نعطي معنى لغربتنا الوجودية وغربة الآخرين الذين يشتركون معنا فيها بما يعني أنها مسؤولية بشكل أساسي، وردٌّ على نداء الحاضر الذي يفترض أننا نلتقط "الفرص التي تعرضها الظروف". وإمكان الفعل نفسه يفترض مفهومًا للتاريخ في كلِّ مرة لا يكون فيها الحاضر محددًا تمامًا، ولكنه يترك دائمًا، ولو على نحو ضئيل، فرصة صغيرة، لا يمكن استغلالها إلا إذا جرى اتخاذ مبادرة سياسية. فمسألة الحاضر المباشر ليست الضرورة، بل الإمكان؛ والإمكان، أي الواقع، "لا يقع دائمًا في مرمى بصرنا". وعلى هذا النحو، فإن الواقعية السياسية تخطئ في إدراك الواقع؛ إذ إنها تأخذ الماضي على أنه الواقع وتفوِّت الواقع الوحيد الدال: الممكن.
وكثيرا ما تقترن السياسة عند المفكرين بالسيطرة والغلبة والعنف, على أن هذه النظرة السلبية للسياسة هي ناتجة عن تحيزات و أحكام مسبقة وهي مرتبطة بالوضع المأزوم للإنسانية. على أن هذا الوضع ليس قدرا محتوما على الإنسانية ولا يمكن على أساسه استخلاص ماهية السياسة. وبالفعل عرفت الإنسانية أوضاعا سليمة نسبيا في عصور قديمة وفي عصر الثورات الليبرالية والاشتراكية, وحينذاك برزت السياسة في معناها الحقيقي (أي, التحاور والتواصل والتداول). إن النظرة السلبية تجاه السياسة دفعت بالبعض إلى التفكير في إسناد السلطة للبيروقراطية لتفادي شخصانية الحكم وعسفه. على أن البيروقراطية قد تتحول إلى أخطر حكم سياسي على الإطلاق, لأن السلطة فيها مجهولة وغير مرئية. ولابد أن تأتي المعرفة في سياق الفهم إن الفهم يسبق ويتبع المعرفة فالفهم أساس لأي معرفة وفي الوقت نفسه فإن الفهم الحق لابد أن يتجاوز مجرد المعرفة ليجعل للمعرفة معنى وهو ما يقصر عنه مفهوم العلم الجامد والتحليل السياسي السياسي لن يثبت أو ينفي ماً يمكن اعتباره كطبيعة أو جوهر للحكومات اللاستبدادية أو الطغيانية أو الجمهورية فهذه الطبيعة الخاصة يأخذها الفهم الأولي كمعطى يؤسس عليها العلم نفسه في حين إن الفهم الحق يرجع دوماً إلى الأحكام والتحيزات التي تلحق وترشد البحث العلمي وكل ما يمكن أن يؤديه العلم أن ينور - لا أن يثبت أو ينفي - الفهم الأولي الذي انطلق منه فإذا افتقد العالم هذا الدليل وتصرف كخبير فني محتقراً الفهم العامي الذي انطلق منه فسرعان ما يفتقد الخيط الناظم الذي يرشده في متاهة نتئج بحثه إن الأزمة العالمية لاترتبط بالشمولية وحدها بل بالموقف الحديث الذي نحتاج فيه لتجاوز الفهم الأولي والمدخل العلمي الصارم معاً حيث فقدنا أدوات الفهم ومن ثم اتسمنا بالغباء بالمعنى الذي وصفه كانت فبحثنا عن المعنى يحثه ويحبطه في وقت واحد فقداننا قدرتنا على توليد المعنى.
إن جوهر الأزمة الحضارية هو تزايد غياب المعنى مترافقاً مع فقدان الحس المشترك منذ بداية القرن العشرين في غباء متزايد بحيث عدنا " لا نعلم حضارة قبلنا يكيف الناس فيها احتياجاتهم للسلع والأشياء كما تنشر الإعلانات ولم نعرف في أي قرن مضى أن العلاج الناجع يرتبط بالدفع السخي لمن يقوم بالعلاج" إن هذا التدهور الخاصة انسحب على كل مجالات الحياة العادية وترى أرنت أن ذلك ليس هذا مجرد عرض للمجتمع الجماهيري بل ما جرى هو انتشار نزعة المنطق الشكلاني الذي ينطوي على التحول الشمولي لتحريف الفكرة إلى مقدمة منطقية أو جملة واضحة بذاتها يمكن استدلال كل شئ منها في اتساق منطقي داخلي يفصل الصحة عن الملاءمة فيصبح مثلاً 2+2= 4 أمر هي صحيح بالنسبة للرب والعبد معاً بغض النظر عن الشرط الوجودي والاجتماعي.
مفهوم القوة والتواصل
ترى حنا أرنت " القوة جزء هام من من العالم الاجتماعي غالباً ما يتم إهمال إسهامها في تشغيل الحياة الاجتماعية وأدائها لوظائفها " وفي تفصيل هذه الرؤية تقول أرنت أن " كل المؤسسات السياسية هي تجليات وتجسدات مادية للقوة، فهي تتكلس وتتحلل عندما تكف القوة الحية للناس عن دفعها".
وقد انعكس هذا حتى على تحديد معنى القوة فالحقيقة الأساسية في الحياة الإنسانية هي الجماعية والتنوع في نفس الوقت،وهذا يولد الحاجة الى العمل معا، وتميز فى هذا الخصوص بين نوعين من العمل:
العمل المعبر عن الشخص ، والعمل الاتصالى
العمل الاتصالى، والعمل التقريرى
القوة وفقا تعبر عن العمل الاتصالي فهي ليست قدرة البشر على أن يعملوا معا فقط ، ولكن أن يعملوا بطريقة متناسقة فالقوة في معناها الأصلي تصور رضائي أو طوعي Consensual Notion
يعتمد على اتفاق جماعة من الفاعلين الاجتماعيين على كيفية تنظيم ووضع قواعد لممارساتهم الحياتية المتعددة فالقوة عند أرنت ضرورية لتحقيق التنسيق بين الأفراد لأداء هدف اجتماعي متفق عليه فهي ضرورية لأي هيكل تنظيمي إنساني ولابد أن تقوم على الاقتناع الحر من جانب المحكومين ومن ثم تكون القوة ها قوة اجتماعية إيجابية وبدون هذا الرضاء يصبح الكيان السياسي القائم هو اغتصاب و سلطة Authority
والقوة بالوصف المشار إليه لا يمكن أن تكون أبداً خاصة فردية بل إن تعود إلى جماعة وتظل موجودة طالما ظلت المجموعة مع بعضها البعض وعليه فإن القوة لا تحتاج إلى تبرير انطلاقاً من كونها لا تقبل أي فصل عن وجود الجماعات السياسية نفسه وما تحتاج إليه القوة إنما هو المشروعية فالقوة تنبثق من كل مكان يجتمع فيه الناس ويتصرفون بالتناسق فيما بينهم لكنها تستنبط مشروعيتها من اللقاء الأول أكثر مما تستنبطه من أي عمل قد يلي ذلك.
و رأت حنا أرنت أن ثمة خطأ جوهري في بنية مفهوم القوة الاجتماعية بجعلها تعتمد بالأساس على عدم المساوة والهيمنة وترفض أن تشير القوة لبنى الهيمنة والعنف في المجتمع ف"السلطة تكمن حقاً في جوهر كل حكومة لكن العنف لا يكمن في هذا الجوهر العنف بطبيعته أداتي"
المفاهيم المناقضة
العنف
وترى حنا أرنت عند تحليلها للنظم الشمولية أن العنف يتعارض جوهريا مع السياسة بل يقصيها ويغيبها تماما. إن العنف يرتبط بأفعال غير سياسية في عمقها: التحايل الضبط أو التطويع الاجتماعي, التخدير الإيديولوجي. فتذهب في كتابها في العنف إلى القول: "إن السلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم أحدهما حكما مطلقا يكون الآخر غائبا.
ويظهر العنف "لما تكون السلطة مهددة. لكنه إن ترك على سجيته سينتهي الأمر باختفاء السلطة". إن العنف لا يمثل إلا مسلكا من المسالك التي تلجأ إليها السلطة, وهي لما تقوم بذلك تحاول تبريره. إن الأفعال السياسية الحق لا تحتاج إلى تبرير، أما العنف فيوجب في أغلب الأحيان التبرير. وتقول حنا أراندت: "لا يمكن للعنف أن ينحدر من نقيضه الذي هو السلطة, وأنه يتعين علينا, لكي نفهم العنف على حقيقته أن نتفحص جذوره وطبيعته".
وتبعا لمقاربتها الظاهراتية (الفينومنولوجية), ترى أرنت أن العنف يعبر في كثير من الأحيان عن مشاعر لا ترتبط بالضرورة بالسياسة: كالخوف من الموت والفناء, والبحث عن الخلود عن طريق استمرارية الجماعة. ويظهر العنف المضاد للسلطة عند غياب الحرية. فالحرية تعني "القدرة على الفعل" أو "القدرة على التأثير". إن الديمقراطيات الحديثة لها طابع بيروقراطي بشكل رئيسي وبالتالي فهي تجنح إلى التقليص من فضاء الحرية, بل تسعى إلى جعلها بدون جدوى وفعالية وبدون معنى, سيما وأن البيروقراطية
تبدو وكأنها "سلطة بدون هوية سياسية". إن المثقفين في الشرق ينشدون الحرية ويطالبون بها, أما المثقفون في الغرب فيرون أن حريتهم ليست لها معنى, وهذا ما أفضى في النهاية إلى أعمال العنف. إن المفكرين المحدثين الذين مجدوا العنف إنما انطلقوا من أساطير وأوهام سياسية, فاعتبروا أن العنف قد يكون خلاقا ومنقذا للجماعة كما هو الشأن عند جورج سوريل أو أنه باعثا على الحياة كما هو الشأن عند فرانز فانون.
السلطة
وترى أرنت أن السلطة من أكثر الظواهر التباساً بما يجعلها أكثر عرضة لسوء الاستخدام وهي يمكن استخدامها على المستوى الشخصي كما يمكن استخدامها على مستوى المؤسسات في مجلس الشيوخ الروماني أو في التارتبية الهرمية الكنسية وتتميز السلطة بأن الذين يطلب إليهم الخضوع لها يعترفون بها دون أن يضعوا دون ذلك أي شروط ومن دون أن يحتاج الأمر إلى إقناع أو إكراه والإبقاء على السلطة يتطلب احتراماً معيناً للشخص أو المؤسسة المعنية والعدو الأكبر للسلطة هو الاحتقار أما الخطر الأكبر الذي ينسف التسلط فهو الاستهزاء.
ركائز السلطة
الحالة الجماهيرية
غالباً ما تسعى الحركات الشمولية برأي أرنت إلى تنظيم الجماهير وتفلح في ذلك لكنها تتساءل كيف ظهرت هذه الجماهير وكيف أصبحت كذلك ؟ وتجيب إن عبارة "الجماهير" تنطبق على الناس، الذين عجزوا، لسبب أعدادهم المحضة، أو لسبب اللامبالاة، أو للسببين المذكورين معاً عن الانخراط في أي من التنظيمات القائمة على الصالح المشترك ـ أكانت أحزابا سياسية، أم مجالس بلدية، أو تنظيمات مهنية أو نقابية. توجد الجماهير، وجوداً بالقوة، في كل البلدان، وتشكل غالبية الشرائح العريضة من الناس الحياديين واللامبالين سياسياً، والذين نادراً ما يصوتون ولا ينتسبون إلى أي حزب.
لقد أدرك أيدلولوجيو وزعماء الشمولية بيقين تام هذا الأمر، وعملوا كل ما بوسعهم كي يجزئوا المجتمع ويذرروه ويحرموا الإنسان من العلاقات الاجتماعية المتوارثة عن الماضي، ويعزلوا الناس بذلك عن بعضهم البعض.
بمعنى آخر: لقد طمحت الشمولية إلى أكثر ما يمكن من اجتثاث كل الجذور التي تربط الإنسان بتلك الجماعات, وإلى الحد الأقصى من توحيد كل روابطه الاجتماعية، وتعرية كل الجوانب، والنواحي المقدسة في حياته الخاصة وكشفها على الملأ. لقد مهدت الفردية السبيل، على ما يبدو عليه ذلك من تناقض، تحقيق هذا الهدف ولئن صح أن الحريات الديمقراطية قامت على أساس من المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، إلا أنها لا تكسب معناها ووظيفتها العضوية إلا حالما ينتمي المواطنون إلى جماعات تمثلهم، أو تشكل في ذاتها هرمية اجتماعية وسياسية لكن اللامبالاة إزاء الشؤون العامة، والحياد في المجال السياسي، ليسا شرطين كافيين لنمو الحركات الشمولية فقد كان انهيار منظومة الطبقات، مؤاتياً لانطلاقة النازية لقد كان من شأن انهيار نظام الطبقات أن أفضى بصورة آلية إلى انهيار نظام الأحزاب نفسه، ولما كانت هذه الأحزاب قائمة على المصالح، لم يسعها أن تمثل مصالح طبقة من الطبقات وسط هذا المناخ، وخلال انهيار مجتمع الطبقات، أخذت تتنامى نفسية "رجل الجمهور" الأوروبي. ولئن أصاب نفس المصير جمهوراً من الأفراد، في تماثلية رتيبة ومجردة، فإن ذلك لم يحل دون أن يطلق هؤلاء على أنفسهم أوصاف الفشل الفردي، كما لم يحل دون إطلاق أحكام الظلم لمخصوص على العالم. مع ذلك، فإن هذه المرارة الشخصية ما كانت لتشكل رابطاً مشتركاً بين أعداد الناس، رغم حدوثها في حالاتٍ فردية كثيرة ومعزولة: ورغم ميل هذه المرارة إلى محو الاختلافات الفردية، لم تقم على أية مصلحة مشتركة، أكانت اقتصادية، أم اجتماعية، أو سياسية. وبالتالي، فإن الانطواء على النفس بات متلازماً مع إضعافٍ إرادي في غريزة البقاء. وقد تجلى ذلك في عدم المبالاة، بمعنى ألا يكون للمرء قيمة في نظر نفسه، وفي الشعور بإمكان أن يكون المرء مضحى به، على أن هذين لم يكونا تعبيراً عن مثالية فردية، إنما دلا على ظاهرة جماهيرية.
ومن ناحية أخرى لطالما كانت الحركات الشمولية أحوج إلى ظروفٍ خاصة تكون فيها الجماهير مفتتة ومشظاة، لذلك تتشكل الحركات الشمولية من تنظيماتٍ جماهيرية تضم إليها أفراداً مبعثرين ومعزولين فكان على الشمولية التخلص نهائياً من حيادية لعبة الشطرنج"، أي أن تتخلص من أي نشاطٍ ذي وجود مستقل. أما الذين ما برحوا يهوون "لعبة الشطرنج لذاتها"، والذين قارنهم مصنفوهم مع "محبي الفن للفن" مقارنة محقةً، فلا يعدون كونهم عناصر لا تزال تبدي مقاومة إزاء مجتمع قائم على الجماهير، والذي يشكل تجانسه التام أحد شروط الشمولية الأساسية.
الإرهاب
تكمن العلاقة الفارقة للنظام الشمولي في أن الرعب والإرهاب يستخدمان وإنما كأدوات اعتيادية وواسعة الاستخدام لقيادة الجماهير. ولتحقيق هذا الهدف يغذى دائماً، ويعاد إنتاج مناخ الحرب الأهلية.يعمم الإرهاب دون أي سبب واضح، أو استفزاز مسبق، وتكون ضحاياه من غير المذنبين إطلاقاً، حتى من وجهة نظر أولئك الذين ينفذون الإرهاب فالإرهاب هو تحقق قانون الحركة إذ يقضي هدفه الرئيسي في جعل قوة الطبيعة أو التاريخ تنصر على الجنس البشري برمته وفي هذا السياق يصبح الإرهاب هو الشرعية إذا ما صار القانون قانوناً لحركة قوة فوق بشرية سواء الطبيعة بالنسبة للنازية أو التاريخ بالنسبة للماركسية
الأيديولوجيا
إن الايديولوجيات جميعها تتضمن عناصر شمولية غير أن الحركات الشمولية دفعت بها إلى التنامي بصورة كاملة فالمسألة الحاسمة للذهنية الشمولية أنها تستخدم الحجج، والمبادئ المؤسسة على الأيديولوجيا مكان الوقائع الحقيقية. هنا يسود منطق العبث على منطق العقل السليم، يحل الواقع المزيف، والموهوم، المركب صنعياً مكان الواقع القائم فعلياً. من هذه الزاوية تعتبر العلاقة القوية بين الحقيقة والقوة الخاصية الثابتة للشمولية.
القوة هنا تحدد الحقيقة، حسب قول لينين: "مذهب ماركس كلي القوة لأنه صحيح يمكن للمؤرخين أن يختلفوا فيما بينهم في الرأي في تفسير هذه أو تلك من الأحداث التاريخية لكن يبقى هناك بحر من الوقائع التي لا يمكن لأحد منهم أن تظهر لديه شكوك في واقعيتهما. وتسعى الشمولية من حيث المبدأ لتجفيف هذا البحر من الوقائع، وتكون بذلك
قد قضت على إمكانية الاتفاق بشأنها. لا عجب أن النازية أنكرت، بإصرار، وحدة البشر كممثلين للجنس البشري الواحد، وذلك كان ضرورياً كما يقول جورج أورويل: من أجل"الكذب التمهيدي" المدعو لخلق ليس المستقبل فحسب، وإنما الماضي- التاريخ بشكل عام حسب رؤية أرنت.
مفهوم القوة عند فوكو
السياق النظري لمفهوم فوكو عن القوة
تشكلت رؤية فوكو للقوة في سياق سعيه للإجابة على التساؤل الذي رأه محور أي تفكير نقدي وهو "من نحن الآن؟ حيث أراد أن يكتب تاريخ الحاضر بالرجوع تاريخياً إلى الماضي بهدف "صنع تاريخ للطرق المختلفة لتكوين ذاتية الكائن البشري في مجتمعنا" هذا التاريخ الذي يظهر بجلاء أن التغير هوالثابت الوحيد ومن ثم رفض فوكو الإيمان بأن الإنسان يحمل جوهراً خفياً يجب اكتشافه التغير هو الثابت الوحيد ورفضه رؤية الذات على أنها عقلانية وواعية فلا وجود مستقل للذات العقلانية عن الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تكسب هذه الذات هويتها وكينونتها أو بتعبير فوكو تنتج هذه الذات بل وتنتج نظام الحقيقة الخاص بكل مجتمع " فالحقيقة تختلف من مجتمع لآخر فليست هناك حقيقة شاملة وكاملة للعالم بأسره إذ "لكل مجتمع نظامه الخاص المتعلق بالحقيقة وسياسته العامة حول الحقيقة" وتنتج الحقيقة من خلال عمليات السيطرة الإقصاء داخل المجتمع.
وعليه تمثلت نقطة الانطلاق في رؤية فوكو للقوة في مفارقته للرؤية الإبستمولوجية الحداثية للحقيقة التي تقوم على ثنائية الذات والموضوع فوفقاً لهذه الثنائية تسعى الذات العاقلة لوعي الحقيقة الموضوعية بالخارج من خلال منهجيات العلم وإذا كان الإنسان لم يحط بعد بكافة جوانب الحقيقة فإن ثمة أمل من خلال فكرة التقدم بغزو الأماكن المجهولة من الحقيقة وصولاً إلى الاستحواذ على الحقيقة الشاملة ويرفض فوكو هذه الرؤية للحقيقة ونتج عن هذا الرفض عدم اهتمام فوكو بصياغة مفهوم للقوة لأن مثل هذه الصياغة ستؤدي به إلى لمحاولة تقديم تعميم يمكن أن ينطبق على التاريخ كله وعلى كافة المجتمعات وهو ما يتناقض مع رؤية الحقيقة باعتبارها تتولد في سياق العلاقات الاجتماعية
رؤية فوكو للقوة كممارسة تحليلية
إن فهم القوة على أنها مقولة تحليلية أو كنظرية له تداعيات هامة فالدارسون الذين يعتبرون أن لفوكو نظرية للقوة عادة ما يرفضونها باعتبارها تفتقر للاتساق والتماسك وخطرة في حين أن ما يرون القوة عنده مقولة تحليلية عادة ما يؤيدونها لأنها تفتح آفاقاً جديدة للبحث السياسي والاجتماعي
يعني الأصل اللغوي للتحليل الرد إلى العناصر في حين يحمل الأصل اللغوي لكلمة النظرية رؤية الشئ والتأمل فيه وصولاً إلى ماهيته وعليه فإن مفهومي التحليل والنظرية يشيران إلى عمليتين جد مختلفتين وإن لم يعن ذلك غياب الصلة بينهما فعلى الرغم من أن الهدف من التحليل والنظرية هو إنتاج شكل من المعرفة عن العمليات أو العلاقات أو الأشياء فإن مسار البحث متضاد كلية فالنظريات تسعى لفهم الأمور والأشياء من خلال البحث عن جوهرها في حين أن العمليات التحليلية تسعى لفهم الأشياء بتفتيتها إلى أجزائها المكونة وبناء على التعريفات السابقة فإن النظرية تقترح علاقة معينة بين الحس والفكر والأشياء وهدف النظرية هو عمل تجريد للأشياء في الذهن يكود جوهر الشئ الحقيقي في الواقع ومن ثم تحاول النظرية التغلب على التأثيرات المتحيزة والوسيطة وصولاً إلى شئ أقرب إلى نظرية مناظرة للحقيقة وعلى حين تسعى النظرية للعمومية فإن التحليل يسعى للإفراد وعلى حين تسعى النظرية للتطبيق يسعى التحليل إلى الشرح وعلى حين تسعى النظرية لشرح ما عليه الأشياء يسعى التحليل لشرح كيف تعمل الأشياء.
وعلى هذه الشاكلة فإن التحليل لا يسعى للإجابة على الأسئلة وجودية أوغيبية من قبيل ما القوة ومن يملك القوة ومتى تستخدم القوة بشكل شرعي وما شابه ذلك من أسئلة بل يبحث التحليل فيما تتضمنه هذه العلاقة التي يطلق عليها علاقة تتضمن قوة.
قام فوكو في أواخر السبعينات بتفصيل نقده لمفهوم النظرية فذكر في مقابلة أجريت معه عام 1977 أن دور النظرية اليوم يبدو لي يتمثل لا في صياغة نظرية نظامية شاملة تضع كل شئ في موضعه بل في تحليل الشكل الخاص الذي تتخذه آليات القوة ووضع الصلات والامتدادات وبناء المعرفة الاستراتيجية شيئاً فشيئاً. وقد طور فوكو نقده السلبي للنظرية باعتبارها تعميما يشتمل كل شئ ذا حجية ليتضمن نقداً إيجابياً للنظرية يقترح طرقاً جديدة لدمج النظرية بالممارسة من خلال فهم النظرية على أنها حقيبة عدة وتأكيد بعدها التحليلي.
وعليه لابد من تحليل العلاقة لاكتشاف كيف تبنى فالقوة هي الاسم الذي توصف به شروط وجود أي علاقة فالقوة هي الاسم الذي يطلق على أي إمكانية لعمل شئ
فكان اهتمام فوكو بدراسة كيفية ممارسة القوة و ليس محاولة تعريف القوة نظرياً أو اجرائياً هذا الاهتمام الذي جعله يعيد تعريف القوة على أنها علاقة فكلمة قوة ليس لها معنى بمفردها ويقرر فوكو انه إذا استخدمها بمفردها فإنما يقصد علاقات القوة فالقوة ممارسة.
يصوغ فوكو هذا التصور الجديد للقوة من خلال التركيز على بعدها الإجرائي والفاعل، ويحكم عليها انطلاقا من القوى التي تخضع لها، أو تلك التي تخضعها لها. كما أنّ مساءلة فوكو للقوة ليست مساءلة لماهيتها، ولطبيعتها، كما أنه ليس تساؤلا حول أصلها وموطنها، ولكنه تساؤل حول طرق فعلها، وكيفية تصرّفها، وآليات اشتغالها.
هذا التوصيف للقوة جعله يطرح أسئلة مغايرة لتلك التي يطرحها المنظور السائد للقوة الذي يرمز له بمفهوم القوة السيادية ففي القوة السيادية تتركز القوة في الملك رمز السيادة التي تتكرس سلطتها عن طريق العقاب الشديد فأي إنسان يتجرأ على مهاجمة السيادة عن طريق كسر قوانينها لابد أن يعاقب بشدة ولابد من علنية هذا العقاب كدليل على إعادة السيطرة والقوة وكرد فعل على الاختراق الذي حصل للقوة السيادية فالقوة السيادية تتسم باعتمادها على العقاب وإخافة الناس فهي قوة " الحياة والموت " بتعبير فوكو وهي قوة ذات طابع سلبي ترتبط بالمنع والقمع والإكراه وتستهدف الحد من السلوك لا توليد أشكال جديدة من السلوك وفي هذا الشكل التقليدي للقوة تثار أسئلة من قبيل من يملك القوة؟ وهل هي علاقة ثنائية أم إمكانية لفاعل اجتماعي؟ وأين تتركز القوة ؟ وكيف يمكن الاستدلال على علاقة القوة هل بامتلاك موارد معينة أم بإنتاج آثار مقصودة على من تمارس عليه رغم إرادته ؟ كل هذه الأسئلة اقترح فوكو ضرورة تجاوزها في دراسة علاقات القوة منتقداً المنظور السائد للقوة بتنويعاته الليبرالية والماركسية لأنهما قدما إجابات مختلفة لكن لأسئلة واحدة تتعلق بماهية القوة ومن الذي يمارسها فالمنظور الليبرالي يرى القوة في إطار السيادة القانونية و المؤسسية للدولة أو السلطة القانونية هذا الإطار الذي يشير إليه فوكو بنموذج التنين.
وفي مقابل القوة السيادية طرح فوكو مفهوم القوة الانضباطية التي تختلف عن الأولى في الطبيعة الهدف وأسلوب العمل والنتائج المترتبة عليها فمن ناحية الهدف تركز القوة الانضباطية على إنتاج فرد كفء يتصرف بشكل جيد لذلك فإن مجال عملها هو الجسد والروح معاً وتعتمد القوة الانضباطية على المراقبة والمعاقبة بهدف صنع إنسان مطيع ويستجيب فيصبح ماهراً وتزداد قدراته ويتحول إلى قوة منتجة ومفيدة فالقوة الانضباطية تتسم بالطابع الإيجابي المنتج وتتسم المراقبة بالعمومية الناجمة عن الخفاء فمن تمارس عليه القوة لا يرى من يراقبه ومن ثم فحتى إذا لم يوجد من يراقبه فلن يعرف ذلك ويستمر في شعوره بوجود القوة ولما كانت المراقبة تستهدف ليس مجرد إخضاع الجسد بل استغلال هذا الإخضاع في عملية أشمل ليتحول الفرد لقوة منتجة تصل إلى ذروة الفعالية وذروة السرعة فإن المراقبة لابد أن تقترن بتطوير معارف عن الجسد الإنساني محل المراقبة ومعرفة التفرد الذي يشكله كل واحد ضمن النوع الإنساني وكان هذا مبدأ تكون العلوم الإنسانية وإلى جانب المراقبة توجد قوة المكافأة كأدة للتحفيز الفردي على العمل .
تتسم القوة في منظور فوكو، بطابع سلبي وإيجابي في الوقت ذاته: فهي تجسّد من جهة طاقة سلبية تنفي كلّ من يعاديها ويعارضها باستخدام إجراءات تطويعية وتقنيات قمعية، ومن جهة أخرى فإنّ هذا القمع والتطويع يمارس بموازاة تشغيل إجراءات أخرى إيجابية كإجراء تحريض الذوات المسلوبة الإرادة على مزيد من الإنتاجية، والمردودية، والنجاعة.
توظّف القوة عدّة تقنيات كالمراقبة والحراسة والعقاب. لكنّها أيضا تحثّ على الإنتاج، وتوظّف من أجل السيطرة والهيمنة، الجسد ورغباته، والقيم والمعارف. فأشكال مراقبة السلطة تشمل الإنتاج المعرفي والأشكال الثقافية، كما تطول التعبيرات الجسدية.
إنّ القوة لدى فوكو لا تنفصل عن علاقات القوة، بحيث لا وجود لها خارج هذه العلاقات. وهذا يعني أنها ذات "طبيعة استراتيجية". فهي تمارس ضغطا دائما على النشاط الإنساني. وبالفعل فالقوة تتعلّق بالكيفية التي يتم بها تدبير السلوكيات وحكمها داخل المجتمع، وهي بذلك تتجاوز تقنيات ممارسة الإخضاع والهيمنة المشروعة، إلى مستوى علاقات القوة التي تحدّد مختلف الأنشطة داخل المجتمع. إنّها نسق يقظ ينصبّ على السيرورات والسلوكيات والأنشطة. ومثل هذه الوظيفة غير قابلة أن تختزل إلى المراقبة والعقاب لأنها تروم إحداث تغيير إيجابي على الأفعال وتوجيهها، ومقارنتها ببعضها البعض، و إحالتها وإثارتها. إنّ القوة تعمل كعلاقة، أو كعلاقة للعلاقات، علاقة الفعل بفعل آخر، وعلاقة السلوك بسلوكيات أخرى، أو علاقة القوة بقوة أخرى.. ولا شكّ أنّ هذه النظرة إلى السلطة بما هي علاقات القوة، أخذت تفرض نفسها على المجتمعات عندما "تخلّت السلطة عن "نموذج السيادة" لصالح "النموذج التأديبي". إنّ هذا لم يحدث إلا حينما تخلّت ممارسة السلطة على التسليم بالطابع المفارق والمتعالي للقانون. إنّ هذا الانتقال إلى "النموذج التأديبي" أحدث تحويرا عميقا في أنماط تعقّل السلطة. فالتفكير في السلطة كآلية تأديبية يقتضي التخلّي عن النظر إليها كممارسة لها حق "الأمر" غير القابل للجدل. كما يقتضي ذلك أيضا عدم إحالة السلطة إلى "مبدأ حق" يحدّد مسبقا فعلها ويتنبأ بمفعولاتها. "فالنموذج التأديبي" يقطع إذن مع فكرة وجود معيار خارجي عن مجال تطبيقه ويتعالى على السيرورات والعمليات التي يتحقق من خلالها. يعني هذا أنّه يعمل على بلورة تصور للمعيار، محايث لعمل السلطة ولا يشرطها بشكل قبلي. إنّ "التأديب" لا يمكن التفكير فيه إلا في علاقة بالعمليات التي ينجزها، من هنا يكتسي طابعه التاريخي المحايث.
إنّ القوة كما يتصورها فوكو ليست اضطهادية ولا قمعية. بل يجب التخلّي عن التفكير فيها بألفاظ الممنوع والمحظور. إنها تتسم بطابع إيجابي ومنتج. ولهذا فهي تتحدّد قبل كل شيء كسلطة لتوليد الانفعالات واستقبالها في الوقت ذاته. فهي تفعل وتنفعل.
وإذا كانت القوة في الماضي موجّهة فحسب نحو وظائف سلبية، كإبطال مفعول المخاطر التي تهدد استقرارها وهيبتها وجبروتها، حيث كانت تعمل كقوة خارجية تمارس الإكراه من الخارج، فتسعى إلى أن تمنع أو تجنّب أو تلزم وتكره الناس على احترام القواعد. فإنّ السلطة التأديبية لها دور أكثر إيجابية. فهي لا تكتفي بالزجر أو بالمنع، ولكنها تستثمر موضوعها وتعمل على تشكيله وتنمية قدراته ومنافعه. وبالرغم من كونها تستمر في القيام بعمليات تأنيب السلوك، إلا أنها تهتم أكثر بمضاعفة مردوديته. "فالتأديب" يستعمل من أجل صناعة فرد منتج مفيد ونافع.
إنّ ما يكشف عنه هذا النموذج ليس صورة سلطة تمارس قمعها من الخارج، بل سلطة داخلية تدعو وتثير وتنتج وتشكّل. قوة تتمتع بقدرة كبيرة على التوجيه، توجيه الأفعال والتصرفات، ومضاعفة مردوديتها على غرار، قوة التأديب المدرسي، أو قوة التأديب الحرفي.
من بين مضاعفات هذا التحول في براديغم السلطة، أنه يؤدّي إلى إحداث قلب في المحور السياسي لنزعة الفردنة . ففي النظام التأديبي نجد بأنّ "نزعة الفردنة" توجد في هبوط دائم، "إذ بقدر ما تصبح السلطة مجهولة الإسم، وأكثر وظيفية، فإنّ أولئك الذين تمارس عليهم ينزعون إلى أن يكونوا أكثر فردانية". إنّ الفرد تتحدّد هويته تبعا لدرجة إدراكه لأفعاله ورؤيته لتصرّفاته، حيث كثافة وحدّة فردانيته تتناسب مع درجة رؤيته لها. وميكانيزمات التأديب تلعب على هذا السجل المشكّل من جدلية بداهة الرؤية/النزعة الفردانية. وإذا كانت السلطة التأديبية تولّد "نزعة الفردنة"، فلأنها تجعل الرؤية ممكنة، رؤية لا تفرضها من الخارج، بل يسلّطها الأفراد بعضهم على بعض. فالمعيار norme يجعل كل فرد يتموضع بالنسبة للآخر والآخرين. وهذا هو الفرق بين النموذج التأديبي والنموذج الملكي. ففي هذا الأخير تصبح السلطة هي المرئية، بينما في النموذج الثاني، الذي يستلهم نموذج panoptisme ، تصبح السلطة هي التي "ترى دون أن ترى". وعبر مفعول الرؤية هاته وما يترتّب عنها من مقارنة، تعمل السلطة التأديبية على تشكيل الفردانيات. إنها تنتج الذوات عبر الرؤية والمعرفة المقارنة لبعضها البعض. وهي لا تنجح في التأثير عليهم إلا حينما تجعلهم قابلين للتشكّل كحقائق: أي كوضعيات، ومراتب، ودرجات. إنّ هذه السلطة غريبة عن كلّ ميتافيزيقا ذاتية، لأنّ الفردانية التي تصنعها آليات التأديب هي فردانية بدون ماهية خاصة. فهي لا توجد إلا من خلال وعبر آلية "الرؤية" و"المقارنة" التي يتيحها المعيار.
إذن "التأديب"، بمعناه الحديث، يفتح إمكانيتين متكاملتين من حيث الجوهر: تشكيل الفرد كذات مختلفة متخصصة، متميزة، مؤهلة؛ وبموازاة ذلك تشكيل فضاء للمقارنة يسمح بتقدير المسافات التي تفصل بين الأفراد وتعمل على توزيعهم داخل مجموعة من السكان.
إنّ ميكروفيزياء عمليات التأديب ليست شيئا آخر غير تفعيل علاقات القوة في مجتمع متعدد. ونجاعة هذا النموذج تتوقف –كما لاحظ ذلك فوكو- على أدوات بسيطة ولكنّها تستعمل وتوظّف بكيفية منظّمة ممنهجة: يتعلق الأمر بالتراتبية، والتطبيع، والفحص.
بيد أنّ القوة في العصر الحديث لا تكتفي بالتحكّم في حركات الجسد ودوافعه وحوافزه، بل تسعى أيضا إلى التحكّم في حياته ومماته وتوالده وتكاثره. ومن أجل تحقيق ذلك تلجأ إلى استعمال تقنيات جدّ معقّدة بما في ذلك مراقبة السلوك البيولوجي للساكنة.
إنّ استراتيجيات القوة في تنظيم وتدبير الحياة العضوية للناس يطلق عليها فوكو مصطلح "البيو-سياسي" إذ ابتداء من القرن17 طوّرت القوة استراتيجيات جديدة للتحكّم في الحياة العضوية وفي مقدّمتها استراتيجية التعامل مع الجسد باعتباره آلة. فترويض الجسد، وإنماء قدراته، وسلب قواه، ودمجه في نسق الرقابة الاقتصادية والفاعلية الإنتاجية، كلها يتم تكريسها عن طريق المراقبة. إنّها استراتيجية تقوم على ما يطلق عليه فوكو بمصطلح آخر "التشريح السياسي" للجسد الإنساني.
أمّا الاستراتيجية الثانية فهي مرتبطة بتقنيات الحياة وبخصائص الجسد، وهي تروم جعل الجسد قاعدة لسيرورات بيولوجية، مثل التوالد، والحياة والموت، ومستوى الصحة، ومعدّلات العمر..إلخ. وهذه الاستراتيجية التي تسعى إلى مراقبة الجسد وترويضه وتطويعه توجد في انفتاح دائم على آخر ما استجدّ من تقدّم على الصعيد العلمي والتقني.
وفق هذه الرؤية طرح فوكو مفهوم القوة الحيوية التي تهدف إلى "إدارة الحياة" لتطوير وتعزيز وتنظيم الحياة حيث أصبح لديها الحق في التدخل في الحياة ورفع مستوى الحياة وإطالة العمر وهي تجمع إلى تقنيات القوة الانضباطية أو التأديبية بيولوجيا سياسية للسكان حبث تحول اهتمام الحكومة من السيادة إلى إدارة السكان. وتنطوي القوة الحيوية على مفهومين مفهوم "التشريح-السياسي" للجسد الإنساني، ومفهوم "البيو-سياسي"الذي يتعلّق بحياة السكان. المفهوم الأول يتعلّق بالجسد ويستهدف ترويضه، والمفهوم الثاني ينصبّ على تقنيات التدبير الأقصى للقوى الحيوية، ويستهدف بصفة خاصة التناسل والسكان. يبيّن فوكو بوضوح شديد على أنّ الموضوع الخاص بالسلطة السياسية الحديثة هو تحكّم في الجسد يتخذ صورة "التأديب" ومراقبة الحياة، وتدبير القوى البيولوجية. إنّ الرهان الأساسي للقوة كما يتصورها فوكو هو الجسد والحياة العضوية بصفة عامة بتعبير آخر، يتبنّى فوكو فرضية نيتشه التي ترى "أنه في العالم الحديث، صارت الحياة هي الموضوع السياسي بامتياز، بل وصارت هي المستهدفة في ديناميتها الأصلية السابقة على كل اجتماع بشري لذلك تعمل القوة الحيوية على مستوى الظواهر العامة للسكان
وربما كانت هذه القوة تطويراً للقوة الرعوية القديمة التي وإن كانت تأخذ في الماضي شكل علاقة الملك بالرعية (من بحمله المفهوم من علاقات بين القطيع وراعية الذي يحفظه) لكن تحول الهدف منها من تحقيق خلاص القطيع في الآخرة إلى تحقيق رفاه ورخاء القطيع الدنيوي.
المفاهيم المناقضة
الحرية والمقاومة
يرى فوكو أن الحرية والمقاومة التي ترتبط بها شرط محايث للقوة فلا قوة بدون مقاومة فيقول إن الحرية شرط القوة الأول وركيزتها الدائمة لأنه يجب أن تكون ثمة حرية حتى تمارس القوة لأن الحرية إذا اختفت كلياً من القوة التي تمارس عليها فإن القوة ستزول من جراء ذلك ويكون البديل الإكراه المطلق للعنف.
وهذا التلازم بين القوة والمقاومة يشير إلى بقاء الأخيرة خياراً مفتوحاً أمام الفرد طالما استمرت القوة حاضرة في كل شبكة النسيج الاجتماعي حتى لو كانت هذه المقاومة عند حدها الأدنى ويشرح فوكو ذلك بقوله "عن نقاط المقاومة متواجدة في كل مكان في شبكة علاقات القوة" بل ويذهب فوكو أن المقاومة هي التي تميز علاقات القوة عن العنف المجرد لكن بالنظر على الطبيعية الكلية للقوة فكيف يتحدد من تمارس المقاومة ضده؟ بعبارة أخرى مقاومة ضد من؟ يجيب فوكو "نحن نقاتل ضد بعضنا بعضاً... بل إن في داخل كل شخص دائماً شئ يقاتل شيئاً آخر" ويعني ذلك عدم وجود تحالفات دائمة أو خطوط واضحة لعلاقات القوة والمقاومة بين الأطراف.
المفاهيم المستدعاة
المعرفة
تعتبر المعرفة عنصرا أساسيا في علاقات القوة. فهي مفعول للقوة وشرط لها في الوقت ذاته، إذ كل من هما يستدعي الآخر ويشترطه. فليست المعرفة والعلم وسائلا محايدة، أو أدوات موضوعية، بل هي شكل من أشكال السلطة، وعناصر أساسية في استراتيجية الصراع حول السلطة. فهناك علاقة وطيدة بين الاختيار المعرفي أو العلمي واستراتيجية القوة. من هنا النقد الذي يوجّهه فوكو للعلوم الإنسانية، إذ كلّها تساهم بدرجات متفاوتة في وضع استراتيجيات من أجل التلاعب بالعقول وترويض الأجساد. فنظام المعرفة وتشكيلات الخطاب تقوم على إرساء أشكال مختلفة من آليات التسلّط على البشر، مثل علم الاجتماع، والتحليل النفسي، والطبّ العقلي، وعلم النفس، والبيداجوجيا. فكلّ هذه المعارف والخطابات يتمّ تصريفها في ممارسات وسلوكيات، تروم تطويع الأجساد، ومراقبة الحياة، واستعمال المتع والرغبات.
الدولة
يرفض فوكو اختزال القوة في أجهزة الدولة القمعية، كما يرفض اختزالها في المؤسسات الإيديولوجية - كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي الرّاحل لويس ألتوسير. مما يعني أنّ مفهوم فوكو للقوة يتجاوز المجال السياسي كما يتجاوز المجال الإيديولوجي. إذ هي ليست جهازا بل علاقة، وهي غير مستقرّة ومتمركزة في مكان محدد، بل توجد مبعثرة في كلّ أنحاء الجسد الاجتماعي، إنّها توجد في كلّ الأمكنة وخصوصا في تلك التي لا يعتقد أنها من الممكن أن توجد بها. إنها كما يقول فوكو، "توجد في كلّ مكان ولا مكان بعينه"، لا مركز لها ولا أطراف لها، تحكم سيطرتها على كلّ شيء، وهي سيرورة بدون ذات، وليست مفعولا لذات فردية أو جماعية أو تاريخية أو رمزية، بل هي مفعول لنسيج من العلاقات والمؤسسات، مثل الأسرة والسجن والعيادة والمدرسة والحزب والمذهب..إلخ.
كما أن تصوّر فوكو للقوة يقصي كلّ محاولة تروم تأسيسها على أسس مشروعة: كالتوافق أو التراضي وكالحوار والتواصل. لا شيء باستطاعته الحدّ من استراتيجيات السلطة أو من علاقات القوة. فالسلطة لا يمكن إخماد فتيل نار حربها، ولا يمكن استئصال استراتيجيتها، كما أنّ محاولة مأسستها وتثبيتها، لا يمكن إيقاف جموحها نحو مزيد من التوسّع والانتشار والهيمنة والتسلّط.
تصور فوكو للقوة ينبني على أنقاض نظريات التعاقد والسيادة والحق، وكذلك التصور الماركسي للسلطة. إذ لا ينبغي النظر إليها كملكية في يد جهاز، أو طبقة، أو فئة، أو فرد. لأنّ القوة هي نتاج لاستراتيجيات الصراع الدائر بين القوى المشكّلة للمجتمع، وهي ليست متمركزة، ولا تصدر من مكان محدّد وخاص بها، إذ هي تمثّل مختلف علاقات القوة. لذلك فهي بقدر ماهي متكاثرة ومتعددة، فهي أيضا متشظية ومنبثّة في كلّ العلاقات الاجتماعية والرّمزية. كما أنها لا تفرض من القمة على القاعدة، وإنما مصدرها العمق والتحت، وهي منتشرة بمختلف نقط النسيج الاجتماعي. يقول فوكو في هذا الصدد: "إن السلطة بما هي علاقات قوة، فهي تنبع من تحت وليس مصدرها من فوق، وهي لا تنطلق من القمة إلى القاعدة، كما أنها لا تختزل إلى ثنائية العلاقة: مهيمن ومهيمن عليه".
إن القوة هي نتاج لصراع لا يتوقف ولا ينتهي، كما أنها متحرّكة وليست مستقرة، إذ الصراع مستمر ودائم من أجل القوة وبواسطتها. وامتلاك القوة تتحكّم فيه شروط كثيرة متغيّرة، واستراتيجيات متقلّبة. لهذا فهي تتحدّد كعلاقات متغيّرة بين قوى.
إنّ القوة بهذا المعنى لا تنضبط بما هو سياسي، بل تتجاوز باستمرار مجال السياسي وتخومه. وهذا يعني أنّ السلطة غير قابلة للاختزال إلى الدولة – كما ترى الماركسية- لأنّ الدولة ليست وحدها التي تحتكر القوة، لأنّ هذه الأخيرة لا مركز لها، كما أنها متشظّية ومبعثرة في كل أنحاء الجسد الاجتماعي. فهي توجد على صعيد الفرد الواحد، والمعرفة، والخطاب، والسلوك، كما توجد على صعيد الأسرة والمدرسة والمستشفى والقيم..إلخ.
إنّ هذا الطابع الميكروفيزيائي للقوة يثبت تهافت التصورات السياسية التي تختزلها في أجهزة الدولة. إذ السلطة شبكة لا مركز لها، ولا تتجسّد في أي جهاز محدّد حتى ولو كان دلك الجهاز هو الدولة نفسها.
لا يعني هذا الكلام أنّ فوكو يقلّل من شأن قوة الدولة، وإنّما يسعى أن يبيّن الطابع المنتشر للقوة غير القابل للاختزال. وما ذلك إلا لأنّ الدولة لا يمكن أن تستنفد كل أشكال علاقات السلطة. ومن جهة أخرى فالدولة لا تستطيع القيام بوظائفها اعتمادا على ذاتها وقدراتها الخاصة، إذ هي في حاجة لخدمات الأسرة، والمدرسة، والشارع، والصورة، والمعلومة، والمعرفة، والرمز، ومختلف أشكال الإنتاج التقني والفنّي.
إذا كان الطابع الميكروفيزيائي للقوة يشدّد على طابعها المتشظّي، فلأنّ السلطة تخترق كل العلاقات التكتيكية والاستراتيجية للأفراد والجماعات والمؤسسات والخطابات والمواقف والسلوكيات. وهذا الذي يجعلها تتسم بالتعدد والكثرة، وينفي عنها طابع الوحدة.
كما أن ميكروفيزياء القوة تعني أنها لا تخضع للمراقبة ولا تختزل إلى عمليات التحكّم في الأجهزة والمؤسسات. إنّ القوة لا تقاس سوى بمفعولاتها. فهناك صراع مستديم وحرب دائمة من أجل امتلاك السلطة، الشيء الذي يجعل علاقات القوة المشكّلة للسلطة عبارة عن علاقات بين قوى غير مستقرّة أقصى ما تستطيعه هو السعي الدؤوب إلى إدامة نفسها إلى حين، وذلك عبر عملية التمأسس واستثمار ذاتها في مؤسسات.
إنّ الطابع الميكروفيزيائي للقوة يجعل أيضا الصراع حولها غير قابل للحسم بواسطة التواصل والحوار(هابرماس وأوتو آبل)، أو التداول الديمقراطي للسلطة عن طريق التوافق والتعاقد أو الاقتراع(نظريات الحق والتعاقد). وهذا يعني أن السلطة، في ظل المنظور الميكروفيزيائي، هي سلطة فاقدة للمشروعية، طالما أنها ليست نتاجا للتوافق أو التعاقد، وطالما أن آلياتها الأساسية هي الغلبة والتحكّم، والقوة، والمراقبة، والعقاب. إنّ هذا التصور هو الذي دفع دولوز إلى الربط بين تصور فوكو للقوة وتصور نيتشه لها. وذلك لاعتبار أساسي يتمثّل في كون أنّ السلطة لديهما معا توجد فيما وراء الأخلاق، وخارج المعايير الحقوقية والقانونية التي ينظر إليها باعتبارها أوهاما وأقنعة تحجب الطابع التسلّطي للدولة. إنّ القوة لا تني توظّف جميع آليات التوهيم والخداع والتضليل، وحينما لا تجدي هذه الآليات يتم اللجوء إلى العنف لإخضاع القوى المعارضة.
- القانون:
إنّ تصور فوكو للقوة يعلن نهاية الإشكالية الحديثة للقوة والتي تنتظم حول التقابل الرئيسي: بين المجتمع والحقوق من جهة، وبين الدولة والقانون من جهة أخرى. ويعلن من جهة أخرى بداية لمنظور معرفي أو براديم جديد للقوة. فإذا كانت القوة توجد في كل مكان وتخترق طرفيها المهيمن والمهيمن عليه، وأنّ الشرعية والاضطهاد هما وجهان لعملة واحدة إذ لا يختلفان من حيث الماهية. وإذا كانت الدولة لم تعد اللحظة الحاسمة ولا الدالة في السلطة، فإنّ هذا يقتضي بل ويستدعي بالضرورة إعادة التفكير من جديد في السياسة، وإعادة تعريف للقوة.
كتب دولوز حول أعمال فوكو المتعلّقة بالقوة قائلا:" إنّ القاسم المشترك بين الجمهوريين وبين الملكيين في الغرب، يتمثّل في إعلائهما من شأن القانون إلى مرتبة مبدأ السلطة، وذلك من أجل جعل هذه الأخيرة تقدّم نفسها في صورة تمثّل قانوني متجانس". ويضيف دولوز قائلا: "إنّ فوكو لم يساهم بتاتا في تقديس "دولة الحق"، فهو يرى بأنّ التصوّر الذي يستند إلى الشرعية ليس بأفضل من التصوّر القمعي للسلطة. فنحن هنا أمام نفس التصور في الحالتين معا". " إنّ فوكو يبيّن بأنّ القانون لا يمثّل حالة سلم يمكن اعتبارها أفضل من تلك التي تفرضها حرب مربوحة. بل إنّ القانون يمثّل الحرب ذاتها، بل هو بالفعل استراتيجيتها".
إنّ ما قاله دولوز يعبّر عن طبيعة الموقف المعاصر المضاد "للنزعة القانونية"، وهو ذاته موقف كل من نيتشه وفوكو. يتأسس هذا الموقف على رفض للتقابل الذي أقامته الحداثة السياسية ما بين تصور تقليدي للقانون من حيث أنه يمثّل اللحظة الأساسية للحكم، وما بين فكرة "الحرب" الدائمة الملازمة لكلّ تنظيم اجتماعي. بل أكثر من ذلك، إذ يعتبر هذا الموقف - والذي يمكن وصغه بموقف مابعد حداثي القانون باعتباره الشكل الراهن للحرب. ينتهي هذا التصور إلى تفكيك التحديد الكلاسيكي للحق. فلقد سبق لهوبز أن طرح القانون كنهاية للحرب، وكل المفكّرين الحداثيين من بعده سطّروا على هذه المسألة. أي مسألة اعتبار أن الحق/القانون ينهي الحرب ويضع حدّا لحالة الطبيعة. وحده سبينوزا أبدى تحفّظه اتجاه هذه المسألة، حين رأى أنّ الحق لا يؤدّي إلى إلغاء حالة الطبيعة، وإنّما يؤدّي فحسب إلى تغيير في الطريقة أو الكيفية التي تدار بها السلطة. ذات الشيء نعثر عليه لدى فوكو و دولوز، حيث يقدّمان معا الحق باعتباره أحد أشكال الحرب، بحيث ليست حالة الطبيعة وحدها التي تستمرّ في الوجود، وإنّما الحق ذاته ليس سوى أحد أشكالها الراهنة. فليس هناك اختلاف بين القوى كيفما كانت. وهذه أحد النتائج التي ينتهي إليها هذا الموقف. إذ ينتهي إلى إلغاء التمييز أوالتفاضل الذي تقيمه الحداثة بين السلطة المؤسسة على الحق، والسلطة المؤسسة على الاستبداد. يقول فوكو: " إنّ التحليل بألفاظ القوة لا يجب أن يسلّم كمعطيات أوّلية، سيادة الدولة، والشكل القانوني والموحّد الشاملين للهيمنة. فهذه الألفاظ ليست إلا أشكالا نهائية. هكذا فكل ما يتعلّق بالقوة يدور في الفضاء المعتم لعلاقات القوة. فالجهاز القانوني ليس سوى ظاهر القوة وشكلها المرئي، أمّا ماهية القوة وحقيقتها العميقة فيجب البحث عنها خلف أقنعة القانون والحق.
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home