نظريات التكامل الدولي : دراسة حالة للخبرة التكاملية العربية
- Alkasd my other blog
نظريات التكامل الدولي : دراسة حالة للخبرة التكاملية العربية
يقوم منهج دراسة الحالة على الدراسة المتعمقة لوحدة دراسية في أبعادها الكلية دراسة متعمقة وهو بذلك يتيح رؤية الظاهرة المدروسة في تشابكات مختلف متغيراتها واقعياً بما يمكن معه تبين حدود التعميم وجوانب الخصوصية في المقولات النظرية فتسعى هذه المقالة لاتخاذ محاولات التكامل العربية حالة دراسية لنظريات التكامل استرشاداً بما تضعه هذه النظريات من مفاهيم وما تهتم به من متغيرات و ما تقدمه من وصفات لتحقيق التكامل تحدد الأولويات والوسائل والإجراءات المتخذة لتحقيق التكامل في الحالة العربية وصولاً لنوع من التقييم لهذه النظريات بالنظر لاختلاف السياق الحضاري والسياسي في هذه الحالة الدراسية.
وعليه تبدأ هذه الورقة بتعريف التكامل ثم محاولة تحديد أهم مقولات نظريات التكامل المختلفة والانتقادات التي وجهت إليها وانطلاقاٌ من هذه النقاط تحاول الورقة تصميم خطة لحالة دراسية لهذه النظريات تتمثل في محاولات التكامل في المنطقة العربية سواء التكامل الإقليمي أو الوحدة بين دولتين أو أكثر كما في حالة الوحدة المصرية السورية عام 1961 و الوحدة بين مصر والسودان وليبيا 1971.
أولاً نظريات التكامل
تعريف التكامل:
على الرغم من أن مفهوم التكامل هو من أكثر المفاهيم السياسية ارتباطاً بمعناه اللغوي الذي يعني توحد الأجزاء في كل واحد فإن هناك الكثير من المشكلاات النظرية الخاصة بتحديد هذا المفهوم كمصطلح سياسي
وأول هذه المشكلات خاص بالتعامل العربي مع هذا المفهوم حيث يجري استعمال كلمة "تكامل" كمرادف لكلمة "اندماج" والكلمة الأخيرة هي الأكثر دلالة على المعنى الغربي لهذا المصطلح "Integration " كما هو في الإنجليزية والفرنسية ويتعبر الاندماج درجة أعلى من التكامل في التعبير عن توحد الأجزاء في كل مشترك ، وهو ما يعتبر من الناحية الواقعية محض أمنية بعيدة المنال حتى بالنسبة لأكثر حالات التكامل استقراراً كما في الولايات المتحدة أو كندا أو بريطاني إذ لا تزال هذه الحالات التي وصلت إلى ذروة التكامل نظرياً وهي الوحدة السياسية تحتفظ أجزاؤها المختلفة التي توحدت بدرجات متفاوتة من التمايز والهوية المستقلة وتنعكس في التنظيم السياسي والإداري والمكتسبات الثقافية الخاصة بكل وحدة / جزء في ظل الدولة الواحدة وتصل أحياناً إلى التأزم بين الحكومة الموحدة والأقاليم على توزيع الموارد أو على السياسة الخارجية ...إلخ الأمر الذي يبرر أولوية استخدام مصطلح التكامل للدلالة على هذه الظاهرة
أما إذا انتقلنا إلى تعرف التكامل في النظريات الغربية التي عالجت هذه الظاهرة فتظهر عدة إشكاليات في هذا التعريف لعل من أهمها تلك الأبعاد القيمية التي ترتبط بمفهموم التكامل وتظهر في كتابات منظريه بين مؤكد على مزايا التكامل المسلم بها معنوياً مثل كارل دويتش حين عرف التكامل بأنه" إنجاز معنى المجتمع في إقليم ما " وأرنست هاس الذي عرفه بأنه " النزوع نحو الخلق الطوعي لوحدات سياسية أكبر يتحاشى كل منها بوعي ذاتي استعمال القوة في العلاقة بين الوحدات المشاركة" وغيرهم ممن ركزوا على عقبات تحقيق التكامل وتكاليفه.
ولعل أكثر التعريفات الوصفية وضوحاً للتكامل هو تعريف كارل دويتش – وهو من رواد منظري التكامل – الذي أورده في كتابه "تحليل العلاقات الدولية ، حيث كتب :" أن يتكامل الشئ يعني بوجه عام أن يجعل الأجزاء كلاً واحدا . أي أن يحول وحدات كانت سابقاً منفصلة إلى مكونات لنظام أو جهاز متناسق والخاصية الأساسية لأي نظام تكمن في وجود درجة معينة من الاعتماد المتبادل بين مكوناته وعادة ما يكون للنظام ككل خواص مميزة له لا توجد في أي من وحداته أو مكونات منفصلة ...فالتكامل إذن هو علاقة بين وحدات بينها اعتماد متبادل وتنتج معاً خواص تفتقر إليها في حالة وجودها منفصلة وأحياناً ما تستخدم كلمة التكامل لوصف العملية التكاملية التي نحصل بواسطتها على العلاقة أو الوضع المتكامل بين الوحدات التي كانت منفصلة سابقاً .
أما جوزيف ناي – وهو أيضا من رواد نظرية التكامل – فيرى أن مفهوم التكامل من أكثر المفاهيم خلطاً و تشويشاً، وعلى سبيل المثال ، عند تشكيل السوق الأوربية المشتركة عام 1957 كان هناك على الأقل أربعة مفاهيم تختلط مع مفهوم التكامل وهي التوحيد السياسي والتوحيد الاقتصادي والتعاون السياسي والاقتصادي والتجارة الحرة .
ولذلك حدد ناي – وتبعه في ذلك العديد من المنظرين مجموعة من المؤشرات لتعريف التكامل تعريفاً إجرائياً أكثر قابلية للقياس والملاحظة العلمية حيث قسم التكامل إلى أجزاء أو مجالات متنوعة وحدد في كل مجال عددا من المؤشرات التي يمكن على أساسها معرفة مدى تحقق التكامل والمقارنة بين حالات التكامل المختلفة فهناك التكامل الاقتصادي و يشمل التكامل التجاري والخدمات المشتركة وهناك التكامل الاجتماعي ويشمل التكامل بين الجماهير والتكامل بين النخب وهناك التكامل السياسي ويشمل التكامل المؤسسي والتكامل في السياسات العامة والتكامل في الاتجاهات وهناك التكامل في مجتمع الأمن وحل المنازعات بطرق سلمية بين الوحدات المتكاملة .
ومن هذا الاتجاه أيضاً تعريف جالتونج للتكامل بوصفه" اتحاد فاعلين دوليين لإقامة فاعل جديد ذي إرادة مستقلة وليس أداة للدولتين" وقد حدد بعدين أساسيين للتكامل وهما : القدرات التي يتمتع بها الكيان الجديد والاعتراف الدولي به وبناء على هذا قسم جالتونج حالات التكامل إلى أربع : تكامل حقيقي وهو الذي يتوافر فيه هذان الشرطان وتكامل غير حقيقي وهو الذي يفتقد هذين الشرطين وتكامل وسيط وهو الذي يتحقق فيه أحد هذين الشرطين دون الآخر.
وهكذا نجد ان كل من يتصدى لتعريف مفهوم التكامل يركز على بعض الجوانب القيمية أو الإجرائية .
أما من حيث طبيعة التكامل ذاته فهناك خلاف ما بين اتجاهين رئيسيين من منظري العلاقات الدولية يعتبر أولهما التكامل حالة أو وضعاً يتحقق فيه إنجازات معينة وعلى رأسها الوحدة السياسية أو خلق مجتمع أمن تختفي فيه فرص اللجوء إلى العنف في حسم المنازعات وعلى رأس هذا الاتجاه كارل دويتش . في حين يركز الاتجاه الآخر على الإجراءات والوسائل التي يتحقق بها التكامل ومن هذا الفريق "أرنست هاس " وفي هذا الاتجاه الأخير تتزايد الخلافات بين المنظرين في تحديد أبعاد العملية التكاملية وأدوار كل من المؤسسات والشعوب والنخب والتفاعلات المختلفة بينها في الوصول إلى التكامل وما إذا كان التكامل يتم تلقائياً بواسطة " يد خفية " بفعل إدراك المزيا المتبادلة ام نتيجة التعبئة الواعية من النخب لتحقيق التكامل .
مقولات نظرية التكامل
لا توجد في الواقع واحدة للتكامل ولكن هناك عديد من النظريات أو بمعنى أدق الوصفات التي تشرح بطرق مختلفة عملية التكامل وتختلف فيما بينها في تحديد المتغير أو المتغيرات المستقلة التي تفسر هذا النمتغير التابع (التكامل) ولعل مما يفسر هذا التعدد والاختلاف والغموض المصاحبين لمفهوم التكامل نفسه المراد تفسيره.
وعلى أي حال يمكن التعرف على المقولات المختلفة لنظريات التكامل من خلال التعرف على هذه النظريات وذلك كما يلي:
اولاً النظريات الاتحادية :
تعتمد هذه الطائفة من النظريات على متغير محدد في تفسير التكامل وهو القرار الحكومي للدول المتكاملة حيث تقر السلطات العليا في كل دولة تبعاً لمصلحتها القومية كما يراها القائمون بالحكم التنازل عن أجزاء من سيادتها تتفاوت بحس كل حالة من أجل تحقيق منافع التكامل المتنوعة بعد حساب عقلاني رشيد للنفقة والعائد المترتبين على الدخول في العملية التكاملية ويكون الهدف من ذلك هو تعظيم المنافع في المجالات المختلفة للتكامل وتقليل الخسائر إلى أقصى حد ممكن.
وفي هذا الإطار فإن الدول المتكاملة ترتبط معاً بروبط دستورية متينة يصبح معها – من وجهة نظر الاتحاديين – حصول النزاع والحروب أمراً مستبعداً ويتشكل في هذا الإطار نوع من الأمن الجماعي القائم على ذلك الرباط السياسي الدستوري وما يكفله من آليات لحل النزاعات بين الوحدات المتكاملة .
وتختلف النظريات الاتحادية بحسب درجة استعداد الدول للتخلي عن أجزاء من سيادتها إلا أن أبرز هذه الصور من التكامل هي الوحدة الفيدرالية والوحدة الكونفدرالية وفي النوع الأول الفيدرالية يتم ذوبان الشخصيات القومية القانونية لكل من الوحدات المتكاملة في الكيان الجديد وتقوم في هذا الكيان حكومة واحدة وجيش واحد وسياسة خارجية واحدة على حين تحتفظ الدول المتكاملة بسيادتها ويقتصر على التكامل في بعضا الأمور السياسية أو الاقتصادية والاسترتيجية المحددة .
أما المدخل السياسي لتكامل في هذه الحالات الدستورية فيرجعه الدستوريون إلى وجود تيارات وحدوية داخل التيارات الحاكمة في الدول المتكاملة وفي قطاعات عريضة من شعوبها تملك وسائل الضغط على حكوماتها من أجل تحقيق الوحدة
ثانياً النظريات الوظيفية
على العكس من النظريات الدستورية التي تعتبر القرار السياسي هو المتغير المستقل في تحديد التكامل تنظر المدرسة الوظيفية بعين الحذر إلى القرار السياسي والمسائل المتعلقة بالسيادة فتعتبرها من المسائل الحساسة التي ينبغي تفاديها على الأقل في المراحل الأولى من التكامل حيث تحرصالدول والسلطات القائمة فيها بشدة على عدم التفريط فيها وتدعو غلى التكيز علىالتكامل في الميادين الفنية والاقتصادية والثقافية التي لا تتمتع بهذه الدرجة من الحساسية ومن ثم يميز الوظيفيون بين نوعين من السياسات : السياسات العليا وهي تلك الميادين الحساسة المتعلقة بالسيادة مثل الدفاع والسياسات اله خارجية والسياسات الدنيا وهي الأقل حساسية وأكثر قابلية للاندماج مثل الميادين الاقتصادية والعلمية والرياضية ...إلخ
ويعتبر ديفيد ميتراني من أهم منظري التكامل الوظيفيين وقد طور افكاره إبان الحرب العالمية الثانية متفائلاً بإمكانية كسر الروابط التقليدية بين السلطة والدولة وربط المجتمعات المختلفة بشبكة من النشاطات الاقتصادية والثقافية التي تتجاوز الدولة والإقليم وتسعى إلى الكونية حيث عارض ميتراني التكامل الإقليمي لأنه يؤدي – حسب رأيه – إلى زيادة قوة البنية التنظيمية الجديدة الإقليمية وبالتالي يزيد من القدرة على استعمال القوة في العلاقات الدولية مما ينقل الصراعات من صراعات بين الدول إلى صراعات بين أقاليم كما عارض ميتراني المدرسة الدستورية مؤكداً على أن يكون التكامل تعبيراً عن مصالح الجماهير في الدول المختلفة و ليس فقط شكلاً تنظيمياً فوقياً إذ ان هذه المصالح الجماهيرية المنفعية هي الكفيلة بإقامة "مجتمع" دولي مسالم متماسك و ليس مجرد توقيع الاتفاقيات والمواثيق بين الدول .
ويرى الوظيفيون أن التكامل في مجالات السياسة الدنيا والذي يجب أن يكون له مردود منفعي على الجماهير في الدول المتكاملة سيكفل أن ترتبط الشعوب في الدول المختلفة بشبكة من المصالح المتبادلة والأنساق المشتركة ويفرض على القيادات السياسية في هذه الدول انتهاج سيساسات رشيدة خالية من العنف ويدفعها إلى مزيد من التعاون بحيث يصبح تعطيل هذه المصالح بفعل أي توتر في العلاقات بين هذه الدول أو حرب باهظاً مما يقلل من إمكانات لجوء القيادة السياسية لهذا الفعل كما يكفل هذا النهج تعليم الجماهير عبر الدول المختلفة التعامل مع المشاكل التي تواجهها بطرق تجريبية ويصبح التركيز على توفير الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي بدلاً من الدخول في متاهات وصراعات السياسات العليا.
وهكذا تعطي المدرسة الوظيفية دوراً هاماً لجماعات الضغط والجماعات الوسيطة التي تعبر عن مصالح الجماهير في التكامل وتستطيع فرض هذه المصالح على قياداتها.
ويأمل الوظيفيون بأن النجاح المتزايد للدول المتكاملة في توسيع نطاق التكامل ومجالاته في السياسات الدنيا سوف يدفع القيادات السياسية في هذه الدول إلى التكامل والتنسيق في مجلات السياسات العليا إلى أن يتم التكامل السياسي بين هذه الدول وليس فقط التكامل الاقتصادي.
ثالثاً النظرية الوظيفية الجديدة
عارض الوظيفيون الجدد منطلقات كل من الدستوريين والوظيفين إلى التكامل وبدلاً من أن يركزوا على القرار الحكومي أو المصالح الجماهيرية الاقتصادية كمدخل للتكامل على اعتبار أن الإرادة السياسية ليست معزولة عن الاقتصاد .
وفي حين عارض ميتراني التكامل الإقليمي ودعا إلى تكامل على المستوى العالمي يؤكد أرنست هاس وهو من أبرز الوظيفيين الجدد على الإقليمية مقابل العالمية في التكامل من منطلق أن المنظمات الإقليمية أكثر قابلية لإحلال التكامل من المنظمات العالمية بسبب التقارب القيمي والثقافي المفترض بين مجتمعات الإقليم الواحد وهو ما تفتقر إليه غالباً المنظمات العالمية التي يتمثل فيها مدى واسع من القيم الثقافية المختلفة
وينظر الوظيفيون الجدد و منهم هاس إلى التكامل لا باعتباره حالة يتم فيها تحقيق الوحدة السياسية (كما يرى الدستوريون) أو قيم ومصالح (كما يرى الوظيفيون والاتصاليون كما سيتضح لاحقاً) ولكن يركزون أكثر من ذلك على الطبيعة التعددية للمجتمع الحديث التي تتنافس فيها وتتصارع النخب والمصالح ومن ثم يرون أن التكامل عملية تعيد فيها النخب بطريقة سياسية متدرجة صياغة مصالحها بمصطلحات وأساليب تعبر عن توجه إقليمي أكثر منه توجهاً وطنياً خالصاً فالتكامل لدى هاس هو " العملية التي يكون فيها الفاعلون السياسيون في مختلف المواقع الوطنية مقتنعين بتحويل ولاءتهم وتوقعاتهم ونشاطاتهم السياسية نحو مركز جديد أكبر له مؤسسات ومطالب قانونية على الدول الوطنية السابقة"
وعملية إعادة التوجه هذه من الدولة إلى النظام الإقليمي لا تحدث بطريقة مثالية ودوافع من الإيثار لدى قسم من النخبة المعنية ولكن بسبب إدراكهم للمؤسسات فوق القومية باعتبارها أفضل الطرق لإسباع مصالحهم العملية ولذا يركز الوظيفيون الجدد على تنمية عملية صنع القرار الجمعي والطريقة التي يغير بها النخب الحكومية وغير الحكومية تكتيكاتهم وتنظيماتهم وفقاً لتحولات عملية صنع القرار من المستوى القوي إلى المستوى فوق القومي .
فالمسألة لا تتعلق فقط بتسليم مطلق بفوائد التكامل وإمكانية الانطلاق من مجال وظيفي نجح فيه التكامل إلى مجال آخر وهكذا فحسب ولكن يتوقف نجاح العملية التكاملية على مدى الاتفاق بين الجماعات المنخرطة في عملية التكامل على الأهداف والإجراءات المتبعة في هذه العملية وفي نفس الوقت تمايز المهام المتضمنة من الناحية الاقتصادية مما يضع حداً للمخاوف السياسية التي قد تعرقل التكامل .
وهكذا نجد أن الوظيفيين الجدد قد بنوا نظرياتهم على أسس مشتركة مع رؤية الوظيفيين خاصة فيما يتعلق بالفصل بين السياستين العليا والدنيا والانتقال من مجال وظيفي إلى آخر إلى أن يتم التكامل السياسي ولكنهم كانوا أكثر جرأة وواقعية في التأكيد على وزن الإرادة السياسية للنخب في صنع التكامل ودفع العملية التكاملية وقد اهتموا بالنخبة في مقابل تركيز الوظيفيين على المصالح الجماهيرية كما امتازوا عن الوظيفيين بالتنبيه إلى أهمية الاتفاق القيمي والإجرائي وعملية توزيع المهام داخل مؤسسات التكامل حتى لا تتعثر عملية التكامل ويحدث العكس فتتغلب المخاوف والعقبات السياسية على المصالح المشتركة.
رابعاً النظرية الاتصالية :
تعتبر النظرية الاتصالية من أهم نظريات التكامل وهي تركز على التفاعلات بين الوحدات المتكاملة كمدخل لتحقيق التكامل ويعتبر كارل دويتش من أبرز رواد هذه المدرسة وقد أوضح دويتش أن غاية التكامل هي تكوين "مجتمع" أمن يضم الوحدات المتكاملة وتختفي فيه احتمالات نشوب حرب فيما بينها بسبب ما ينشأ بينها من كثافة في الاعتماد المتبادل وما تتبناه من آليات وإجراءات لفض منازعاتها سلمياً وإحلال التعاون محل الصراع .
وقد ركز دويتش على قيمة الأمن كغاية للتكامل على اعتبار أن الأمن " هو الحالة الأساسية التي يمكن في ظلها التمتع بمعظم القيم الأخرى " وعرف الأمن بأنه قيام السلم وتدعيمه كما أعطاه مضامين أخرى مثل تأمين الثروة والملكية والمؤسسات والرموز والمراكز الطبقية والعادات والأيديولوجية والثقافة واحترام الذات وغيرها من القيم التي تبدو جديرة بالدفاع عنها بالنسبة لمعظم الناس وحيث أن الدول قد أظهرت عدم كفايتها لحماية هذه القيم فإن الناس يلقون آمالهم على المنظمات الدولية لحماية هذه القيم .
ولقد استقرأ كارل دويتش مهام التكامل وشروطه وعوامل تفككه وأنواعه من خلال دراسة لأربع عشر حالة تكاملية في العالم.
وخلص دويتش إلى القول بأن التكامل ينهض بأربع مهام رئيسة وهي:
حفظ السلام
التوصل إلى إمكانيات كبيرة متعددة الأغراض .
إنجاز بعض المهام المحددة
تحقيق الذات ودور الشخصية بصورة أكثر جدية
والجدير بالذكر هنا أن دويتش قد أوضح بعض المؤشرات الإجرائية للتيقن من تحقق هذه المهام فمثلاً حفظ السلام يمكن قياسه من خلال غياب أو ندرة الاستعدادات العسكرية في الدول المتكاملة وبيانات تعبئة القوات والمنشآت العسكرية وبيانات الميزانية واستطلاعات الرأي.
ويتم قياس التوصل إلى إمكانيات متعددة الأغراض عن طريق مؤشرات الناتج القومي الإجمالي والناتج القومي الكلي بالنسبة لكل فرد ومجال معاملاته التجارية وتنوعها.
ويتضح ما إذا كان المجتمع يحقق مهاماً معينة عن طريق وجود وظائف مشتركة ومؤسسات مشتركة وموارد مشتركة.أما قياس تحقيق الذات ودور الشخصية فيتضح من تكرار استخدام رموز مشتركة وخلق واتباع رموز جديدة
أما شروط قيام مجتمع متكامل فهي حسب دويتش :
أهمية الوحدات إحداها للأخرى.
اتفاق القيم وتشابه بعض أنواع الثواب الموجودة فعلاً
التجاوب المتبادل ويقصد به وجود قدرات وموارد هامة تتعلق بالاتصال والإدراك وتوجيه الذات
وجود درجة معينة من التطابق أو الولاء المشترك
أما وسائل إقامة المجتمع التكاملي فتتجمع في أربع عمليات وهي
توليد القيم بمعنى اكتساب السلع والخدمات والعلاقات بين السكان المعنيين
تخصيص القيم بمعنى توزيعها بين أفراد المجتمع التكاملي
القمع ويعني القسر سواء العسكري أو غيره
التطابق ، ويعني تشجيع العمليات و رفع مشاعر الولاء المتبادل وروح الجماعة .
أما انواع المجتمعات التكاملية عند دويتش فتتلخص في نوعين رئيسيين وهما مجتمع الأمن المندمج ومجتمع الأمن المتعدد .
ويتم التمييز بين النوعين السابقين على أساس الهدف من التكامل فإذا كان الهدف الرئيس للتكامل ليس مجرد المحافظة على السلام بين الوحدات السياسية المتكاملة وإنما اكتساب قوة أكبر لتحقيق الأغراض العامة المعينة أو اكتساب تطابق مشترك للأدوار أو خليط من ذلك كله فإن من الفضل تكوين ما يسمى بمجتمع سياسي مندمج ذي حكومة مشتركة وإذا كان الهدف الرئيس هو السلام فيكفي تكوين مجتمع أمن متعدد وفي الواقع سيكون تحقيقه أسهل .
ويوضح دويتش أربع نماذج ممكنة للمجتمع السياسي حسب معياري التعدد والأمن ما بين المجتمع المندمج الآمن والمجتمع غير المندمج الآمن :
ويرى دويتش أن مجتمع الأمن المندمج هو اوثق هذه المجتمعات تكاملاً كما في بريطانيا ولكن مثل هذا المجتمع لا يضمن بذاته الأمن والسلام الداخلي عبر المواثيق و القوانين بل إن محاولة الحفاظ على هذا المجتمع بالقوة قد تؤدي إلى حرب أهلية واسعة النطاق علىالعكس تماماً مما نشأ هذا المجتمع من اجله وهو تفادي الحرب أساساً كما حدث في الحرب الأهلية الأمريكية عامي 1860- 1861 وحرب الهند وباكستان عامي 1946 – 1947 ومع ازدياد القوة التدميرية للأسلحة في العصر الحديث يصبح المجتمع المندمج غير الآمن أكثر خطراً ومع ذلك فإن مجتمع الأمن المنمج – برغم خطورة فشله – يظل مرغوباً أكثر من بدائله لأنه في حالة نجاحه ى يحقق الأمن والسلام فحسب ولكنه يوفر قوة أعظم لإنجاز الخدمات و الأغراض الحكومية العامة والمحددة وربما يوفر شعوراً أكبر بالشخصية والطمأنية النفسية للصفوة والجماهعير .
ويقدم كارل دويتش مجموعة من الشروط التي وردت في إحدى الدراسات لقيام مجتمع أمن مندمج وهي :
التطابق المتبادل بالنسبة للقيم الرئيسية المرتبطة بالسلوك السياسسي.
أسلوب معيشة مميز وجذاب
توقعات لروابط اقتصادية قوية ومفيدة او عائد مشترك.
زيادة ملحوظة في الموارد والقدرات السياسية والإدارية على الأقل بالنسبة لبعض الوحدات المشاركة
نمو اقتصادي أعلى على الأقل بالنسبة لبعض الوحدات المشاركة
بعض الروابط الهامة المتصلة الخاصة بالاتصال الاجتماعي عبر الحدود المشتركة للأقاليم المرتقب تكاملها وعبر حوجز بعض الطبقات الاجتماعية الرئيسية داخلها.
توسيع نطاق الصفوة السياسية داخل بعض الوحدات على الأقل وبالنسبة للمجتمع الناشئ الأكبر ككل
وجود درجة عالية من سهولة الحركة بين الأشخاص جغرافياً واجتماعياً
تعدد مجالات تدفق الاتصالات والمعاملات المشتركة
بعض أنواع التعويض الكلي عن المكافآت في تدفق الاتصالات والمعاملات بين الوحدات المتكاملة.
وجود معدل معقول من تكرار التداخل في أدوار الجماعات بين الوحدات السياسية
وجود قدرة كبيرة متبادلة على التنبؤ بالسلوك.
اما العوامل التي - على العكس من ذلك – تعمل على تفكك مجتمع الأمن المندمج فهي:
1- أي زيادة سريعة في التعبئة الاجتماعية والمشاركة السياسية بمعدل أسرع من معدل استيعاب المواطنين للثقافة السياسية المشتركة للجميع.
2- أي زيادة سريعة في الأعباء الاقتصادية أو العسكرية او السياسية في المجتمع أو في إحدى وحداته وبخاصة في المراحل البكرة.
3- زيادة سريعة في التفرقة الإقليمية أو الاقتصادية او الثقافية او الاجتماعية أو اللغوية أو العرقية بمعدل أقوى وأسرع من أية عملية تكاملية تعويضية
4- تدهور خطير في القدرات السياسية او الإدارية للحكومة أو الصفوة السياسية بالمقارنة بالمهام والآعباء الحاضرة .
5- انغلاق نسبي للصفوة السياسية مما قد يؤدي إلى تباطؤ دخول أعضاء جدد وأفكار جديدة وإلى نشوء صفوة مضادة من الأعضاء المحبطين.
6- فشل الحكومة والصفوة في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والتعديلات المطلوبة أو المتوقعة من قبل السكان في الوقت المحدد أو الفشل في التكيف في الوقت المناسب مع التدهور الوشيك أو فقد بعض مراكز الأقلية البارزة أو المميزة.
وعلى الرغم من أن تحليل كارل دويتش للتكامل يعتبر تحليلاً استاتيكياً حيث يعتبر التكامل حالة يتحقق فيها مجتمع الأمن المندمج او المتعدد فقد اهتم دويتش بتوضيح مراحل عملية التكامل ويرى أنها تبدأ غالباً حول منطقة نواة تتكون من عدد محدود من الوحدات السياسية الأقوى والأكثر تطوراً وجاذبية للوحدات الأخرى ويوجد بها قائد نشيط موحد كما فعلت بيدمونت في توحيد إيطاليا مثلاً.
ثم ينشأ عبر التفاعل بين هذه الوحدات مجتمع لا حرب نفسياً يكره فيه شعوب هذه الوحدات وقادتها محاتربة بعضهم بعضاً كما كان الحال في الكانتونات السويسرية في القرن السادس عشر.
وفي مرحلة تالية تضعف الإنقسامات السياسية البارزة داخل مجتمع الأمن المندمج الناشئ وتنتقل خارج الحدود وتحل محلها اقسامات جديدة تشق طريقها عبر الوحدات والأقاليم السياسية الأصلية وقد تنشأ أحزاب وطوائف سياسية جديدة تعبر عن مصالح متطابقة تجمع بين طائفة من السكان من مختلف أجزاء المجتمع الجديد
ويؤكد دويتش في هذا المجال على أهمية الوعي الشعبي بالمصالح الإقليمية المشتركة المشتركة والذي يمكن استثارته باستحداث طريقة حياة جديدة زجذابة على المستوى الإقليمي لإعطاء مصداقية لهذه العملية التكاملية ومواجهة التحديات الخارجية كما يؤكد على ضرورة أن يصل جيل جديد مؤمن بالتكامل إلى المسرح السياسي يطور عملية التكامل
أما الوسائل المتبعة لتحقيق مجتمع الأمن المنمدج فبعضها مفيد في عملية التكامل وبعضها يضر بالتكامل ويدمره ومن الوسائل الناجحة تطوير مؤسسات سياسية محددة واستخدام الرموز وبسط النفوذ في تعيين بعض الأفراد المختارين عمداً في بعض الوظائف السياسية والإدارية وضم كل الاقتراحات و البدائل المتنافسة و توجيهها نجو القضية الكبرى الواحدة وهي الدمج.
اما الوسائل التي قد تدمر العملية التكاملية فهي الإصرار المبكر على الدمج الكامل أو الجهود المبكرة لإقامة احتكار العنف والغزو العسكري المباشر.
أما عملية إقامة مجتمع الأمن المتعدد فتعتبر أسهل وتتطلب عمليات أبسط وأهم هذه العمليات هي عدم الاجتذاب المتزايد وقلة احتمال الحرب بين الوحدات السياسية في مجتمع الأمن الناشئ وذلك من وجهة نظر حكوماته ومجموعات الصفة وأخيراً السكان.
والعملية الثانية هي نشر الحركات الفكرية والعادات المحبذة للتكامل وتهيئة المناخ السياسي لها .
والعملية الثالثة قد تكون ممارسة وتنمية ممارسة عادات ومهارات الاهتمام المتبادل والاتصال والاستجابة المتبادلة لكي ممكناً الحفاظ على استقلال وسيادة الوحدات المشتركة والمحافظة على التوقعات الثابتة للسلام والتبادل السلمي بينها.
نقد نظريات التكامل
تنبع أهمية نظريات التكامل من حيث تركيزها على شق هام من التفاعلات الدولية وهو التعاون والتبادل السلمي في حين يركز معظم منظري العلاقات الدولية والسياسة بوجه عام على عوامل التفكك والثصراع والفوضى في العلاقات الدولية والظواهر السياسية مما يعطي انطباعاً متشائماً عن السياسة وعلومها فتأتي نظريات التكامل الدولي لتكشف بأضوائها تلك الجوانب التعاونية والسلمية من هذه الظاهرة وتدفع الباحثين إلى المزيد من الاهتمام بهذه الجوانب والمساهمة في تكريسها وتعظيمها ولو على المستوى التنظيري.
ومع ذلك يوجه غلى نظريات التكامل العديد من الانتقادات السلبية وأهم هذه النظريات يقدح في طبيعتها النظرية ذلك أنها اتجهت بالأساس لتفسير متغير تابع غامض ولم تحدد هذا المتغير تحديداص دقيقاً فضلاً عن اختلافها في توضيح ما هو المتغير المستقل الذي يتوقف عليه التكامل واختلفت في ذلك ما بين منظرين يؤكدون على الرشادة والقرار الحكومي (الدستوريون) وآخرين يركزون على المصلحة الجماهيرية (الوظيفيون) وآخرون يركزون على الحاجة إلى الأمن (لاتصاليون) وهي كلها متغيرات غامضة شان متغير التكامل نفسه.
ولذلك تعتبر نظريات التكامل مجرد وصفات للتكامل لا ترقى إلى مستوى النظرية إلا مجازاً .
وفي هذا الصدد تعتبر النظرية الاتصالية أقرب هذه النظريات إلى معنى النظرية خاصة وقد اعتمدت على استقراء حالات واقعية محددة للتكامل وأوضحت من خلالها أهداف التكامل وشروطه وانواعه وعوامل استقراره أو انهياره ومراحل تكوينه فانفردت بذلك عن بقية نظريات التكامل بطابع واقعي شمولي أكثر قدرة على التفسير والتعميم والتنبوء وهي وظائف هامة للمنظرين
ويبدو ان كلاً من النظريات السابق عرضها تقصر عن الإلمام بكل أبعاد ظاهرة التكامل وخاصة النظريات الثلاث الأولى مما يقلل كثيراً من قابليتها للتعميم وتبدو فيها بوضوح آثار الخبرات التي أنتجتها والظروف التاريخية التي أحاطت بمفكريها وحاجات مجتماعاتهم آنذاك فمثلاً النظرية الوظيفية لميتراني جاءت لتواكب بتطلعاها المثالية دعوات الحكومة العالمية والمنظمات الدولية الكبرى كما انتقدت التكامل الإقليمي بعتباره مدخلا لنقل الصراع من مستوى الدول إلى مستوى الأقاليم وهو تخوف مفهوم في ظل الخبرة الأوربية عن الأحلاف التي كانت مرتبطة بتفجر الحروب لأكثر من قرن ومنها الحربان العالميتان الأولى والثانية كطما ترتبط الوظيفية الجديدة بالمجتمع الغربي الذي تتضح فيه التمايزات الاجتماعية والسياسية ونضجت فيه جماعات المصالح والجماعات الوسيطة والرأي العام بحيث تشكل ضابطاً وموجهاً للسياسات الخارجية للدول الغربية يدفعها نحو التكامل والتعاون عبر القومي وهو ما لا يتضح في دول الجنوب بنفس الدرجة.
وثمة انتقاد عام يوجه إلى نظريات التكامل السابقة وهو تعويلها الدائم على عنصر المصلحة القومية اتو مصلحة النخب كدافع للتكامل وهو فضلاً عن غموض الممفهوم وعدم تحديد مصلحة من بالتحديد وفي أي مجال وفي أي ظرف يرتبط بالتسليم الضمني برشادة صانع القرار وهو أمر أصبح محل شك ونقد خاصة من نظريات صنع القرار والإدراك وينطبق هذا الانتقاد بدرجة اكبر على النظرية الدستورية في التكامل.
وبالنسبة إلى النظرية الدستورية الاتحادية خاصة فإنه فضلاً عن نقد مفهوم المصلحة ومفهوم الرشادة المرتبط به ضمنياً كما سبق يمكن القول إن القرارات الوحدوية لا تحقق بذاتها التكامل المنشود والأمن بين الوحدات المتكاملة وقد أثبت ذلك العديد من الحروب الأهلية وانهيارات الوحدات السياسية التي نشأت بقرارات فوقية كما أوضح ذلك أنصار نظرية الاتصال.
وبالنسبة للنظرية الوظيفية فقد انتقدها كل من الوظيفيين الجدد والاتصاليين وخاصة ما يتعلق بالفصل بين السياسة الدنيا والعليا وافتراض الانتقال من التكامل على المستوى الوظيفي غلى المستوى السياسي تلقائياً كما انتقدت من حيث افتراضها بإمكانية اقتطاع أنشطة معينة من أنشطة الدول المتكاملة دون أن يتأثر ذلك بالقرارات السياسية التي قد تعوق التكامل الوظيفي نفسه أو أن يؤثر ذلك التكامل الوظيفي في السياسة العليا مما قد يهدد بإيقافه من جانب القيادات
وأخيرا؟ً بالنسبة إلى النظرية الوظيفية الجديدة كان من أهم الانتقادات الموجهة إليها فضلاً عن ارتباطها بخبرة معينة هي الخبرة الليبرالية الديمقراطية افتراضها إمكانية انتقال الولاء من الدولة إلى المنظمة الإقليمية وهذا إن كان قد حدث في الجماعة الأوربية لدى أفراد فهو لم يحدث بعد على مستوى اجتماعي واسع ولا زالت القوميات الأوربية المختلفة داخل الجماعة الأوربية تتمسك بهويتها المستقلة بل وتتفجر فيها حركات تؤكد هذا الاستقلال وتعارض الانصهار.
نظريات التكامل وخبرات التكامل العربية كحالة للدراسة
بالنظر إلى الواقع العربي في ضوء مقولات نظريات التكامل السابق عرضها نجد أن أياً من هذه النظريات لم تنطبق على العالم العربي تماماً فلم تقم بعد أية وحدة تكاملية بين الدول العربية على المستوى الإقليمية العام مستقلة عن إرادة قيادات هذه الدول وهو الشرط الذي يميز التكامل عن مجرد التعاون والتنسيق ومع ذلك فقد تمت بالفعل تجارب جزئية بين دولتين أو أكثر بين الدول العربية يمكن اعتبارها متوافقة مع بعض تلك النظريات وفي صدد دراسة خبرات التكامل العربي كحالة دراسية لنظريات التكامل. تثور ثلاثة أسئلة محورية حول : الكيفية التي ربما كان منظروا هذه النظريات سيقومون بها الواقع العربي وفقاً لمقولاتهم وحول مدى قوة تلك النظريات في تفسير الخبرة التكاملية للعالم العربي
ثم خصوصية السياق العربي لعملية التكامنل ودلالتها لنظريات التكامل
وللإجابة عن التساؤل الأول يمكن تصور اكثر من طريقة للتعامل مع الواقع العربي تتنوع بتنوع نظريات التكامل السابق عرضها :
1- فمن وجهة نظر المدرسة الدستورية – وهي من أكثر نظريات التكامل ارتباطاً بالمنظور التقليدي في العلاقات الدولية يتصور أن ينصب تركيز دارسيها على عدة أمور أساسية للحكم على فرص التكامل العربي وهي:
1 – المصلحة القومية لكل من الدول العربية وهي حسب هذا المنظور مصلحة واحدة متفق عليها يمكن إدراكها من خلال قيادات الدول التي يجتمع حولها الجماهير وتعبر عن مصلحتهم العامة تقليديا وتبين ما إذا كانت هذه المصلحة القومية للدول العربية تجتمع على التكامل مع الدول العربية الأخرى وفقاً لمعيار الرشادة وهو يعني حساب العائد في مقابل النفقة في ظل معلومات وافية عن الواقع العربي
2- مدى تشبع النخب السياسية في الدول العربية بقيم الوحدة والتكامل واستعدادهم للتضحية بسيادات دولهم من أجل المصلحة القومية العليا المشتركة في ضوء التقدير العام للمكاسب المترتبة علىالتكامل عقلانياً
3- مدى تغلغل القيم التكاملية / الوحدوية لدى الجماهير العربية
وعن طريق الإلمام بهذه العناصر يمكن الحكم من منظور النظرية الاتحادية على احتمالية قيام تكامل/ وحدة ما بين الدول العربية أو بين بعضها من عدمه
ب-اما من وجهة نظر النظرية الوظيفية فغنها سترشح للدول العربية طريقة للتكامل تتفق مع مقولاتها وهي الفصل يسن مسائل السياسة الدنيا ومسائل السياسة العليا وستنصح شعوب هذه الدول ونخبها الاقتصادية بالتعاون في المجالات الفنية المختلفة لإحاطة سلطات هذه الدول السياسية بشبكة قوية من التفاعلات الوظيفية التي تجعل التعاون أمراً مرغوباً أكثر من الصراع وبقدر ما تنجح هذه العلاققات الوظيفية فإنها من ناحية تتوسع وتطول مجالات أخرى ومن ناحية أخرى تخرج من سلطة النظمة السياسية لصالح النظام الإقليمي وهكذا إلى أن يتحقق التكامل العربي تماماً
وفي هذا المجال يمكن تصور ان يعمل الوظيفيون على قياس حجم التفاعلات الاقتصادية والفنية المتخصصة في العالم العربي عبر الدول العربية سواء فيس شكل علاقات ثنائية بين كل دولتين أو في شكل إقليمي عام كما في المنظمات الوظيفية العربية المنبثقة عن النظام الإقليمي العربي وقياس مدى فاعلية هذه التنظيمات وآثار هذه العلاقات على الجماهير العربية لمعرفة ما إذا كانت مغرية بتكثيف التعاون بين الدول العربية وقابلة لانفصال عن سيطرة النظم السياسية العربية لصالح النظام الإقليمي العربي وترشيح أكثر المجالات وأكثر الدول قابلة للتكامل .
ج _ أما الوظيفيون الجدد فسوف يصرفون بحثهم إلى استكشاف القوى المختلفة المؤثرة المختلفة في صنع القرار في الدول العربية واستقراء خبراتهم و توجهاتهم فيما يتعلق بالتكامل العربي ومن ثم فسوف يتناول بحثهم النخب السياسية الحكومية وغيرها والأحزاب وجماعات المصالح ورجال الأعمال وغيرهم ممن يشتركزن في صنع القرار الجمعي العربي ويؤثرون فيه كل ذلك فضلا عن العلاقات والتنظيمات الوظيفية التي تجمع بين الدول العربية على مستوى السياسات الدنيا
وبقدر ما تبدو قيم تلك القوى الفاعلة في الدول العربية متجهة نحو التكامل محققاً للمصلحة القومية المشتركة وبقدر اقتناعهم بأهمية تحويل ولاءتهم الوطنية إلى الولاء الإقليمي العربي و أن مؤسسات التكامل العربي العامة ستشبع مصالحهم بدرجة أعلى من مؤسسات دولهم بقدر ما يتحقق ذلك يعتبر الوظيفيون أن التكامل أقرب إلى التحقيق أي إن الوظيفيين سيركزون على الصراع والخلاف في المصالح بين القوى السياسية المختلفة في الدول العربية ومعرفة ما إذا كان اتجاه هذا الصراع في صالح التكامل أم القطرية مع الاهتمام بالعامل القيمي في تهيئة المناخ السياسي للتكامل عبرالمجالات الوظيفية المختلفة و الذي قد يظهر في استطلاعات الرأي العام وكتابات المثقفين والخطاب السياسي للنخبة .
د – وأخيراً فإن أنصار النظرية الاتصالية سوف يحاولون استكشاف مدى توافر شروط قيام مجتمع تكاملي في العالم العربي ما هي أهمية الوحدات إحداها للأخرى ومدى اتفاق القيم وتشابه أنواع الثواب والتجاوب المتبادل والتطابق أو الولاء المشترك ثم يحاولون تبين مدى فعالية وسائل لإقامة هذا المجتمع وهي توليد القيم وتخصيصها والقمع والتطابق ومن خلال مقارنة هذه الشروط و الوسائل والواقع العربي يمكن للاتصاليين الخلوص إلى نتيجة بارتفاع فرص التكامل العربي أو انخفاضها.
وفي هذا الصدد تبدو النظرية الاتصالية اكثر نظريات التكامل تحديداً في تقييم الواقع وذلك لاستنادها إلى العديد من الشروط الإجرائية في تعريف التكامل وعوامل قيامه وعوامل انهياره.
حدود القوة التفسيرية لنظريات التكامل في الواقع العربي
إن نصيب كل من نظريات التكامل يبدو متفاوتاً في القدرة على تفسير الخبرة التكاملية في الواقع العربي .
فمن ناحية تفترض النظرية الاتحادية / الدستورية أن قيام التكامل يتم وفقاً لقرارات النخبة الحاكمة في كل من الوحدات المتكاملة بناءاً على حسايبات رشيدة للمكاسب والخسائر او التكاليف وفي ظل تيار وحدوي يسود النخبة والجماهير وفي الواقع فقد حدثت مثل تلك الوحدة في العالم العربي ولكن في حالات محدود من حيث من حيث العدد ومن حيث الانتشار الجغرافي وأيضاً من حيث درجة النجاح وكان أبرز هذه الحالات الوحدة المصرية السورية عام 1958 والوحدة اليمنية عام 1990 ولم تحدث مثل هذه الوحدة على مستوى عربي عام برغم وجود مقومات التكامل العربي وأهمها على الإطلاق العوامل الثقافية وكذلك لم تنجح هاتان الوحدتان في التطبيق العملي لهما فقد انفصلت سوريا عن مصر في أواخر الستينات على أثر تغيرات سياسية داخلية ونشبت الحرب الأهلية في اليمن عام 1994 بسبب الخلاف على توزيع مكاسب الوحدة الوليدة وهذا يقدح بقوة في فرضية النظرية الدستورية القائلة بأن هذا النوع من الوحدة يحقق الأمن المتبادل للدول المتكاملة كما يقدح أيضاً في الفرضية الكامنة في هذه المدرسة حول رشادة القادة السياسيين ودقة حساباتهم للمكاسب والتكاليف خاصة في البعد المستقبلي لهذه الحسابات .
ومن ناحية أخرى تعتبر المدرسة الوظيفية أضعف نظريات التكامل عند تطبيقها على الواقع العربي للعديد من الأسباب التي اهمها الطبيعة الشخصية للأنظمة السياسية العربية والتي تجعل الفصل بين السيسة العليا والسياسة الدنيا شبه مستحيل في العالم العربي وتدني مستوى الوعي السياسي والاقتصادي والثقافة لدى الجماهير العربية وتفشي الأمية والسلبية في أغلب الدول العربية بما فيها الدول العربية الأكثر قدماً ونمواً كمصر وسوريا و العراق مما ينعكس بدوره على مستوى المشاركة السياسية للجماهير العربية بالسلب يضاف إلى ذلك العوامل الخارجية التي تجعل التكامل الوظيفي بين كل دولة عربية والدول الكبرى في النظام الدولي أقرب من التكامل بين الدول العربية ذاتها ولا سيما أن الدول العربية جميعها دول متخلفة اقتصادياً وتكنولوجياص مما يجعلها في وضع لا تستفيد فيه إحداها من الأخرى في تلك المجالات الوظيفية بالمقارنة بما يمكن الاستفادة به من التعاون مع العالم الخارجي غير العربي.
ومن ناحية ثالثة فإن النظرية الوظيفية الجديدة تعاني في تطبيقها على العالم العربي ما تعاني منه الوظيفية في هذا المجال و لا نستطيع أن نفسر لماذا لا يتحقق التكامل العربي بالرغم من وجود مؤسسات التكامل وقراراته الهائلة في العالم العربي متجسدة في جامعة الدول العربية والتي بلغ عددها نحو ستة وتسعين اتحاداً في مطلع الثمانينات وتغطي المجالات المهنية والثقافية والعلمية والتربوية والعمالية والنقابية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية و الإعلامية والاتصالية والسياحية فضلاً عن خبرات اللجان المشتركة التي تعمل على التنسيق بين كل دولتين أو أكثر في مجالات وظيفية وأخيراً تجربة التجمعات الإقليمية التي يصعب العثور على أي أثر للمنحى الوظيفي في التحول إليها ويظهر فحص دوافع قيام التجمعات الإقليمية العربية وآليات العمل بها أن التحول في مسار النظام العربي نحو هذه التجمعهات لا علاقة له بالمنهج الوظيفي
فقد اختلفت دوافع قيام التجمعات الثلاث ودوافع الدولا الأعضاء فيها فمجلس التعاون الخليجي نشأ لمواجهة القضايا الأمنية التي أثارها اندلاع الثورة الإيرانية ثم نشوب الحرب العراقية الإيرانية وتحمست السعودية لقيامه لأنها وجدت في الظروف القائمة آنذاك مناخاً مواتياً لدعم نفوذها الإقليمي بعد انشغال كل من العراق وإيران في الحرب وشجعت الولايات المتحدة على قيامه لدعم مكانة القوى المحافظة في العالم العربي وخلق شروط أفضل للتحركات الاستراتيجية والأمنية للولايات المتحدة في المنظقة أما اتحاد المغرب العربي فقد نشأ أساساً لدعم المركز التفاوضي للشمال الأفريقي في مواجهة مشروع السوق الأوربية الواحدة عام 1992 ووجدت فيه ليبيا فرصة للخروج من عزلتها النسبية على الصعيدين الإقليمي والعالمي أما مجلس التعاون العربي فقد نشأ كرد فعل لتكوين المجلسين الآخرين وتفاوتت دوافع أطرافه وإن التقت كلها على طريق التكتل والتجمع فهو بالنسبة للعراق يعني مزيداً من العزلة للنظام السوري واحتياطياً استراتيجياً في حالة تجدد القتال مع إيران اوربما تصور إمكانية دعمه لدى غزوه للكويت وهو بالنسبة إلى مصر وسيلة لإنهاء العزلة العربية وفرصة لاختبار قدرتها على التحرك عربياً دون التخلي عن اتفاقات كامب ديفيد أما الأردن فقد كانت أكبر المستفيدين بعد تآكل دورها في النظام العربي .
وهكذا فإن هذه التجمعات الإقليمية برغم أنها كما أعلن نشأت لتعالج أغراضاً وظيفية مختلفة فإنها تجمعات كان دافع السياسة العليا كامناً فيها بدرجة أو بأخرى سواء الدافع الأمني بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي أو السياسي بالنسبة للمجلسين الآخرين .
ومع ذلك فلم يؤت أي من هذه التجمعات ثمارها الأمنية و لا الاقتصادية و لا الاستراتيجية فقد احتل العراق الكويت عام 1990 ولم تستطع دول مجلس التعاون الخليجي الدفاع عن الكويت وطرد المحتل وتزايد الوجود الغربي على أراضيها على أثر ذلك اما اتحاد المغرب العربي فلم يستطع دعم قدرات دوله الاقتصادية والتكنولوجية في مواجهة الجماعة الأوربية وذلك لأسباب هيكلية تتمثل في تدني المستوى الاقتصادي والتكنولوجي في هذه الدول واعتمادها على تصدير المواد الخام فضلاً عن العوامل السياسية الداخلية والخارجية مثل الحرب الأهلية الجزائرية أما مجلس التعاون العربي فقد انهار بعد أشهر قليلة من إنشائه بسبب الغزو العراقي للكويت
ويلاحظ ان أياً من هذه التكتلات لم يبدأ بانتهاج سياسة تكاملية على أسس وظيفية فلم يتم اختيار قطاع محدد من قطاعات النشاط الإنتاجي أو الخدمي لاستخدامه كقاعدة للعمل المشترك باتجاه التكامل.
أما الأبنية المؤسسية لهذه التجمعات فلا يمثل أي منها تطويراً يذكر للبناء المؤسسي لجامعة الدول العربية فالإطار المؤسسي لصنع القرار واحد بما يتضمنه من غياب دورالمنظمات غير الحكومية وغياب سلطة فعلية لمؤسساتها تمكنها من فرض إرادتها على الدول الأعضاء ,
وهكذا فإن التكامل العربي لم يتحقق لأسباب عديدة لم تعالجها الوظيفية الجديدة لأنها بالأساس استقت مقولاتها من واقع مختلف عن الواقع العربي وهو الخبرة الأوربية في التكامل وأهم هذه الأسباب الطبيعة الشخصية للنظم السياسية العربية والعوائق الخارجية وتدني مستوى الوعي الجماهيري .
واخيراً وفيما يتعلق بالنظرية الاتصالية فلا يدل استقراء الواقع العربي على وجود مجتمع أمن عربي مندمج أو تعددي ونظرة واحدة إلى الحدود العربية توضح أنه لا توجد دولتين عربيتين إلا وبينها نزاع حدودي تختلف درجة حدته .
اما شروط قيام مجتمع تكاملي بين الدول العربية فتختلف في درجة تحققها وإن كانت أكبر على المستوى القيمي .
المراجع
كارل دويتش ، تحليل العلاقات الدولية ، ترجمة شعبان محمد محمود شعبان ، القاهرة الهيئة العامة للكتاب ، 1983.
فيليب حتي ، النظرية في العلاقات الدولية بيروت 1993
Michael Hodges, Integration theory, in
Trevor Taylor, Approach and theory in international relations, London : Longman , 1980.
J. S. Nye , Pece in parts: integration and conflict un regional organization, Boston : Little Brown Co., 1971.
جميل مطر و علي الدين هلال ، النظام الإقليمي العربي، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية ، 1983.
يقوم منهج دراسة الحالة على الدراسة المتعمقة لوحدة دراسية في أبعادها الكلية دراسة متعمقة وهو بذلك يتيح رؤية الظاهرة المدروسة في تشابكات مختلف متغيراتها واقعياً بما يمكن معه تبين حدود التعميم وجوانب الخصوصية في المقولات النظرية فتسعى هذه المقالة لاتخاذ محاولات التكامل العربية حالة دراسية لنظريات التكامل استرشاداً بما تضعه هذه النظريات من مفاهيم وما تهتم به من متغيرات و ما تقدمه من وصفات لتحقيق التكامل تحدد الأولويات والوسائل والإجراءات المتخذة لتحقيق التكامل في الحالة العربية وصولاً لنوع من التقييم لهذه النظريات بالنظر لاختلاف السياق الحضاري والسياسي في هذه الحالة الدراسية.
وعليه تبدأ هذه الورقة بتعريف التكامل ثم محاولة تحديد أهم مقولات نظريات التكامل المختلفة والانتقادات التي وجهت إليها وانطلاقاٌ من هذه النقاط تحاول الورقة تصميم خطة لحالة دراسية لهذه النظريات تتمثل في محاولات التكامل في المنطقة العربية سواء التكامل الإقليمي أو الوحدة بين دولتين أو أكثر كما في حالة الوحدة المصرية السورية عام 1961 و الوحدة بين مصر والسودان وليبيا 1971.
أولاً نظريات التكامل
تعريف التكامل:
على الرغم من أن مفهوم التكامل هو من أكثر المفاهيم السياسية ارتباطاً بمعناه اللغوي الذي يعني توحد الأجزاء في كل واحد فإن هناك الكثير من المشكلاات النظرية الخاصة بتحديد هذا المفهوم كمصطلح سياسي
وأول هذه المشكلات خاص بالتعامل العربي مع هذا المفهوم حيث يجري استعمال كلمة "تكامل" كمرادف لكلمة "اندماج" والكلمة الأخيرة هي الأكثر دلالة على المعنى الغربي لهذا المصطلح "Integration " كما هو في الإنجليزية والفرنسية ويتعبر الاندماج درجة أعلى من التكامل في التعبير عن توحد الأجزاء في كل مشترك ، وهو ما يعتبر من الناحية الواقعية محض أمنية بعيدة المنال حتى بالنسبة لأكثر حالات التكامل استقراراً كما في الولايات المتحدة أو كندا أو بريطاني إذ لا تزال هذه الحالات التي وصلت إلى ذروة التكامل نظرياً وهي الوحدة السياسية تحتفظ أجزاؤها المختلفة التي توحدت بدرجات متفاوتة من التمايز والهوية المستقلة وتنعكس في التنظيم السياسي والإداري والمكتسبات الثقافية الخاصة بكل وحدة / جزء في ظل الدولة الواحدة وتصل أحياناً إلى التأزم بين الحكومة الموحدة والأقاليم على توزيع الموارد أو على السياسة الخارجية ...إلخ الأمر الذي يبرر أولوية استخدام مصطلح التكامل للدلالة على هذه الظاهرة
أما إذا انتقلنا إلى تعرف التكامل في النظريات الغربية التي عالجت هذه الظاهرة فتظهر عدة إشكاليات في هذا التعريف لعل من أهمها تلك الأبعاد القيمية التي ترتبط بمفهموم التكامل وتظهر في كتابات منظريه بين مؤكد على مزايا التكامل المسلم بها معنوياً مثل كارل دويتش حين عرف التكامل بأنه" إنجاز معنى المجتمع في إقليم ما " وأرنست هاس الذي عرفه بأنه " النزوع نحو الخلق الطوعي لوحدات سياسية أكبر يتحاشى كل منها بوعي ذاتي استعمال القوة في العلاقة بين الوحدات المشاركة" وغيرهم ممن ركزوا على عقبات تحقيق التكامل وتكاليفه.
ولعل أكثر التعريفات الوصفية وضوحاً للتكامل هو تعريف كارل دويتش – وهو من رواد منظري التكامل – الذي أورده في كتابه "تحليل العلاقات الدولية ، حيث كتب :" أن يتكامل الشئ يعني بوجه عام أن يجعل الأجزاء كلاً واحدا . أي أن يحول وحدات كانت سابقاً منفصلة إلى مكونات لنظام أو جهاز متناسق والخاصية الأساسية لأي نظام تكمن في وجود درجة معينة من الاعتماد المتبادل بين مكوناته وعادة ما يكون للنظام ككل خواص مميزة له لا توجد في أي من وحداته أو مكونات منفصلة ...فالتكامل إذن هو علاقة بين وحدات بينها اعتماد متبادل وتنتج معاً خواص تفتقر إليها في حالة وجودها منفصلة وأحياناً ما تستخدم كلمة التكامل لوصف العملية التكاملية التي نحصل بواسطتها على العلاقة أو الوضع المتكامل بين الوحدات التي كانت منفصلة سابقاً .
أما جوزيف ناي – وهو أيضا من رواد نظرية التكامل – فيرى أن مفهوم التكامل من أكثر المفاهيم خلطاً و تشويشاً، وعلى سبيل المثال ، عند تشكيل السوق الأوربية المشتركة عام 1957 كان هناك على الأقل أربعة مفاهيم تختلط مع مفهوم التكامل وهي التوحيد السياسي والتوحيد الاقتصادي والتعاون السياسي والاقتصادي والتجارة الحرة .
ولذلك حدد ناي – وتبعه في ذلك العديد من المنظرين مجموعة من المؤشرات لتعريف التكامل تعريفاً إجرائياً أكثر قابلية للقياس والملاحظة العلمية حيث قسم التكامل إلى أجزاء أو مجالات متنوعة وحدد في كل مجال عددا من المؤشرات التي يمكن على أساسها معرفة مدى تحقق التكامل والمقارنة بين حالات التكامل المختلفة فهناك التكامل الاقتصادي و يشمل التكامل التجاري والخدمات المشتركة وهناك التكامل الاجتماعي ويشمل التكامل بين الجماهير والتكامل بين النخب وهناك التكامل السياسي ويشمل التكامل المؤسسي والتكامل في السياسات العامة والتكامل في الاتجاهات وهناك التكامل في مجتمع الأمن وحل المنازعات بطرق سلمية بين الوحدات المتكاملة .
ومن هذا الاتجاه أيضاً تعريف جالتونج للتكامل بوصفه" اتحاد فاعلين دوليين لإقامة فاعل جديد ذي إرادة مستقلة وليس أداة للدولتين" وقد حدد بعدين أساسيين للتكامل وهما : القدرات التي يتمتع بها الكيان الجديد والاعتراف الدولي به وبناء على هذا قسم جالتونج حالات التكامل إلى أربع : تكامل حقيقي وهو الذي يتوافر فيه هذان الشرطان وتكامل غير حقيقي وهو الذي يفتقد هذين الشرطين وتكامل وسيط وهو الذي يتحقق فيه أحد هذين الشرطين دون الآخر.
وهكذا نجد ان كل من يتصدى لتعريف مفهوم التكامل يركز على بعض الجوانب القيمية أو الإجرائية .
أما من حيث طبيعة التكامل ذاته فهناك خلاف ما بين اتجاهين رئيسيين من منظري العلاقات الدولية يعتبر أولهما التكامل حالة أو وضعاً يتحقق فيه إنجازات معينة وعلى رأسها الوحدة السياسية أو خلق مجتمع أمن تختفي فيه فرص اللجوء إلى العنف في حسم المنازعات وعلى رأس هذا الاتجاه كارل دويتش . في حين يركز الاتجاه الآخر على الإجراءات والوسائل التي يتحقق بها التكامل ومن هذا الفريق "أرنست هاس " وفي هذا الاتجاه الأخير تتزايد الخلافات بين المنظرين في تحديد أبعاد العملية التكاملية وأدوار كل من المؤسسات والشعوب والنخب والتفاعلات المختلفة بينها في الوصول إلى التكامل وما إذا كان التكامل يتم تلقائياً بواسطة " يد خفية " بفعل إدراك المزيا المتبادلة ام نتيجة التعبئة الواعية من النخب لتحقيق التكامل .
مقولات نظرية التكامل
لا توجد في الواقع واحدة للتكامل ولكن هناك عديد من النظريات أو بمعنى أدق الوصفات التي تشرح بطرق مختلفة عملية التكامل وتختلف فيما بينها في تحديد المتغير أو المتغيرات المستقلة التي تفسر هذا النمتغير التابع (التكامل) ولعل مما يفسر هذا التعدد والاختلاف والغموض المصاحبين لمفهوم التكامل نفسه المراد تفسيره.
وعلى أي حال يمكن التعرف على المقولات المختلفة لنظريات التكامل من خلال التعرف على هذه النظريات وذلك كما يلي:
اولاً النظريات الاتحادية :
تعتمد هذه الطائفة من النظريات على متغير محدد في تفسير التكامل وهو القرار الحكومي للدول المتكاملة حيث تقر السلطات العليا في كل دولة تبعاً لمصلحتها القومية كما يراها القائمون بالحكم التنازل عن أجزاء من سيادتها تتفاوت بحس كل حالة من أجل تحقيق منافع التكامل المتنوعة بعد حساب عقلاني رشيد للنفقة والعائد المترتبين على الدخول في العملية التكاملية ويكون الهدف من ذلك هو تعظيم المنافع في المجالات المختلفة للتكامل وتقليل الخسائر إلى أقصى حد ممكن.
وفي هذا الإطار فإن الدول المتكاملة ترتبط معاً بروبط دستورية متينة يصبح معها – من وجهة نظر الاتحاديين – حصول النزاع والحروب أمراً مستبعداً ويتشكل في هذا الإطار نوع من الأمن الجماعي القائم على ذلك الرباط السياسي الدستوري وما يكفله من آليات لحل النزاعات بين الوحدات المتكاملة .
وتختلف النظريات الاتحادية بحسب درجة استعداد الدول للتخلي عن أجزاء من سيادتها إلا أن أبرز هذه الصور من التكامل هي الوحدة الفيدرالية والوحدة الكونفدرالية وفي النوع الأول الفيدرالية يتم ذوبان الشخصيات القومية القانونية لكل من الوحدات المتكاملة في الكيان الجديد وتقوم في هذا الكيان حكومة واحدة وجيش واحد وسياسة خارجية واحدة على حين تحتفظ الدول المتكاملة بسيادتها ويقتصر على التكامل في بعضا الأمور السياسية أو الاقتصادية والاسترتيجية المحددة .
أما المدخل السياسي لتكامل في هذه الحالات الدستورية فيرجعه الدستوريون إلى وجود تيارات وحدوية داخل التيارات الحاكمة في الدول المتكاملة وفي قطاعات عريضة من شعوبها تملك وسائل الضغط على حكوماتها من أجل تحقيق الوحدة
ثانياً النظريات الوظيفية
على العكس من النظريات الدستورية التي تعتبر القرار السياسي هو المتغير المستقل في تحديد التكامل تنظر المدرسة الوظيفية بعين الحذر إلى القرار السياسي والمسائل المتعلقة بالسيادة فتعتبرها من المسائل الحساسة التي ينبغي تفاديها على الأقل في المراحل الأولى من التكامل حيث تحرصالدول والسلطات القائمة فيها بشدة على عدم التفريط فيها وتدعو غلى التكيز علىالتكامل في الميادين الفنية والاقتصادية والثقافية التي لا تتمتع بهذه الدرجة من الحساسية ومن ثم يميز الوظيفيون بين نوعين من السياسات : السياسات العليا وهي تلك الميادين الحساسة المتعلقة بالسيادة مثل الدفاع والسياسات اله خارجية والسياسات الدنيا وهي الأقل حساسية وأكثر قابلية للاندماج مثل الميادين الاقتصادية والعلمية والرياضية ...إلخ
ويعتبر ديفيد ميتراني من أهم منظري التكامل الوظيفيين وقد طور افكاره إبان الحرب العالمية الثانية متفائلاً بإمكانية كسر الروابط التقليدية بين السلطة والدولة وربط المجتمعات المختلفة بشبكة من النشاطات الاقتصادية والثقافية التي تتجاوز الدولة والإقليم وتسعى إلى الكونية حيث عارض ميتراني التكامل الإقليمي لأنه يؤدي – حسب رأيه – إلى زيادة قوة البنية التنظيمية الجديدة الإقليمية وبالتالي يزيد من القدرة على استعمال القوة في العلاقات الدولية مما ينقل الصراعات من صراعات بين الدول إلى صراعات بين أقاليم كما عارض ميتراني المدرسة الدستورية مؤكداً على أن يكون التكامل تعبيراً عن مصالح الجماهير في الدول المختلفة و ليس فقط شكلاً تنظيمياً فوقياً إذ ان هذه المصالح الجماهيرية المنفعية هي الكفيلة بإقامة "مجتمع" دولي مسالم متماسك و ليس مجرد توقيع الاتفاقيات والمواثيق بين الدول .
ويرى الوظيفيون أن التكامل في مجالات السياسة الدنيا والذي يجب أن يكون له مردود منفعي على الجماهير في الدول المتكاملة سيكفل أن ترتبط الشعوب في الدول المختلفة بشبكة من المصالح المتبادلة والأنساق المشتركة ويفرض على القيادات السياسية في هذه الدول انتهاج سيساسات رشيدة خالية من العنف ويدفعها إلى مزيد من التعاون بحيث يصبح تعطيل هذه المصالح بفعل أي توتر في العلاقات بين هذه الدول أو حرب باهظاً مما يقلل من إمكانات لجوء القيادة السياسية لهذا الفعل كما يكفل هذا النهج تعليم الجماهير عبر الدول المختلفة التعامل مع المشاكل التي تواجهها بطرق تجريبية ويصبح التركيز على توفير الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي بدلاً من الدخول في متاهات وصراعات السياسات العليا.
وهكذا تعطي المدرسة الوظيفية دوراً هاماً لجماعات الضغط والجماعات الوسيطة التي تعبر عن مصالح الجماهير في التكامل وتستطيع فرض هذه المصالح على قياداتها.
ويأمل الوظيفيون بأن النجاح المتزايد للدول المتكاملة في توسيع نطاق التكامل ومجالاته في السياسات الدنيا سوف يدفع القيادات السياسية في هذه الدول إلى التكامل والتنسيق في مجلات السياسات العليا إلى أن يتم التكامل السياسي بين هذه الدول وليس فقط التكامل الاقتصادي.
ثالثاً النظرية الوظيفية الجديدة
عارض الوظيفيون الجدد منطلقات كل من الدستوريين والوظيفين إلى التكامل وبدلاً من أن يركزوا على القرار الحكومي أو المصالح الجماهيرية الاقتصادية كمدخل للتكامل على اعتبار أن الإرادة السياسية ليست معزولة عن الاقتصاد .
وفي حين عارض ميتراني التكامل الإقليمي ودعا إلى تكامل على المستوى العالمي يؤكد أرنست هاس وهو من أبرز الوظيفيين الجدد على الإقليمية مقابل العالمية في التكامل من منطلق أن المنظمات الإقليمية أكثر قابلية لإحلال التكامل من المنظمات العالمية بسبب التقارب القيمي والثقافي المفترض بين مجتمعات الإقليم الواحد وهو ما تفتقر إليه غالباً المنظمات العالمية التي يتمثل فيها مدى واسع من القيم الثقافية المختلفة
وينظر الوظيفيون الجدد و منهم هاس إلى التكامل لا باعتباره حالة يتم فيها تحقيق الوحدة السياسية (كما يرى الدستوريون) أو قيم ومصالح (كما يرى الوظيفيون والاتصاليون كما سيتضح لاحقاً) ولكن يركزون أكثر من ذلك على الطبيعة التعددية للمجتمع الحديث التي تتنافس فيها وتتصارع النخب والمصالح ومن ثم يرون أن التكامل عملية تعيد فيها النخب بطريقة سياسية متدرجة صياغة مصالحها بمصطلحات وأساليب تعبر عن توجه إقليمي أكثر منه توجهاً وطنياً خالصاً فالتكامل لدى هاس هو " العملية التي يكون فيها الفاعلون السياسيون في مختلف المواقع الوطنية مقتنعين بتحويل ولاءتهم وتوقعاتهم ونشاطاتهم السياسية نحو مركز جديد أكبر له مؤسسات ومطالب قانونية على الدول الوطنية السابقة"
وعملية إعادة التوجه هذه من الدولة إلى النظام الإقليمي لا تحدث بطريقة مثالية ودوافع من الإيثار لدى قسم من النخبة المعنية ولكن بسبب إدراكهم للمؤسسات فوق القومية باعتبارها أفضل الطرق لإسباع مصالحهم العملية ولذا يركز الوظيفيون الجدد على تنمية عملية صنع القرار الجمعي والطريقة التي يغير بها النخب الحكومية وغير الحكومية تكتيكاتهم وتنظيماتهم وفقاً لتحولات عملية صنع القرار من المستوى القوي إلى المستوى فوق القومي .
فالمسألة لا تتعلق فقط بتسليم مطلق بفوائد التكامل وإمكانية الانطلاق من مجال وظيفي نجح فيه التكامل إلى مجال آخر وهكذا فحسب ولكن يتوقف نجاح العملية التكاملية على مدى الاتفاق بين الجماعات المنخرطة في عملية التكامل على الأهداف والإجراءات المتبعة في هذه العملية وفي نفس الوقت تمايز المهام المتضمنة من الناحية الاقتصادية مما يضع حداً للمخاوف السياسية التي قد تعرقل التكامل .
وهكذا نجد أن الوظيفيين الجدد قد بنوا نظرياتهم على أسس مشتركة مع رؤية الوظيفيين خاصة فيما يتعلق بالفصل بين السياستين العليا والدنيا والانتقال من مجال وظيفي إلى آخر إلى أن يتم التكامل السياسي ولكنهم كانوا أكثر جرأة وواقعية في التأكيد على وزن الإرادة السياسية للنخب في صنع التكامل ودفع العملية التكاملية وقد اهتموا بالنخبة في مقابل تركيز الوظيفيين على المصالح الجماهيرية كما امتازوا عن الوظيفيين بالتنبيه إلى أهمية الاتفاق القيمي والإجرائي وعملية توزيع المهام داخل مؤسسات التكامل حتى لا تتعثر عملية التكامل ويحدث العكس فتتغلب المخاوف والعقبات السياسية على المصالح المشتركة.
رابعاً النظرية الاتصالية :
تعتبر النظرية الاتصالية من أهم نظريات التكامل وهي تركز على التفاعلات بين الوحدات المتكاملة كمدخل لتحقيق التكامل ويعتبر كارل دويتش من أبرز رواد هذه المدرسة وقد أوضح دويتش أن غاية التكامل هي تكوين "مجتمع" أمن يضم الوحدات المتكاملة وتختفي فيه احتمالات نشوب حرب فيما بينها بسبب ما ينشأ بينها من كثافة في الاعتماد المتبادل وما تتبناه من آليات وإجراءات لفض منازعاتها سلمياً وإحلال التعاون محل الصراع .
وقد ركز دويتش على قيمة الأمن كغاية للتكامل على اعتبار أن الأمن " هو الحالة الأساسية التي يمكن في ظلها التمتع بمعظم القيم الأخرى " وعرف الأمن بأنه قيام السلم وتدعيمه كما أعطاه مضامين أخرى مثل تأمين الثروة والملكية والمؤسسات والرموز والمراكز الطبقية والعادات والأيديولوجية والثقافة واحترام الذات وغيرها من القيم التي تبدو جديرة بالدفاع عنها بالنسبة لمعظم الناس وحيث أن الدول قد أظهرت عدم كفايتها لحماية هذه القيم فإن الناس يلقون آمالهم على المنظمات الدولية لحماية هذه القيم .
ولقد استقرأ كارل دويتش مهام التكامل وشروطه وعوامل تفككه وأنواعه من خلال دراسة لأربع عشر حالة تكاملية في العالم.
وخلص دويتش إلى القول بأن التكامل ينهض بأربع مهام رئيسة وهي:
حفظ السلام
التوصل إلى إمكانيات كبيرة متعددة الأغراض .
إنجاز بعض المهام المحددة
تحقيق الذات ودور الشخصية بصورة أكثر جدية
والجدير بالذكر هنا أن دويتش قد أوضح بعض المؤشرات الإجرائية للتيقن من تحقق هذه المهام فمثلاً حفظ السلام يمكن قياسه من خلال غياب أو ندرة الاستعدادات العسكرية في الدول المتكاملة وبيانات تعبئة القوات والمنشآت العسكرية وبيانات الميزانية واستطلاعات الرأي.
ويتم قياس التوصل إلى إمكانيات متعددة الأغراض عن طريق مؤشرات الناتج القومي الإجمالي والناتج القومي الكلي بالنسبة لكل فرد ومجال معاملاته التجارية وتنوعها.
ويتضح ما إذا كان المجتمع يحقق مهاماً معينة عن طريق وجود وظائف مشتركة ومؤسسات مشتركة وموارد مشتركة.أما قياس تحقيق الذات ودور الشخصية فيتضح من تكرار استخدام رموز مشتركة وخلق واتباع رموز جديدة
أما شروط قيام مجتمع متكامل فهي حسب دويتش :
أهمية الوحدات إحداها للأخرى.
اتفاق القيم وتشابه بعض أنواع الثواب الموجودة فعلاً
التجاوب المتبادل ويقصد به وجود قدرات وموارد هامة تتعلق بالاتصال والإدراك وتوجيه الذات
وجود درجة معينة من التطابق أو الولاء المشترك
أما وسائل إقامة المجتمع التكاملي فتتجمع في أربع عمليات وهي
توليد القيم بمعنى اكتساب السلع والخدمات والعلاقات بين السكان المعنيين
تخصيص القيم بمعنى توزيعها بين أفراد المجتمع التكاملي
القمع ويعني القسر سواء العسكري أو غيره
التطابق ، ويعني تشجيع العمليات و رفع مشاعر الولاء المتبادل وروح الجماعة .
أما انواع المجتمعات التكاملية عند دويتش فتتلخص في نوعين رئيسيين وهما مجتمع الأمن المندمج ومجتمع الأمن المتعدد .
ويتم التمييز بين النوعين السابقين على أساس الهدف من التكامل فإذا كان الهدف الرئيس للتكامل ليس مجرد المحافظة على السلام بين الوحدات السياسية المتكاملة وإنما اكتساب قوة أكبر لتحقيق الأغراض العامة المعينة أو اكتساب تطابق مشترك للأدوار أو خليط من ذلك كله فإن من الفضل تكوين ما يسمى بمجتمع سياسي مندمج ذي حكومة مشتركة وإذا كان الهدف الرئيس هو السلام فيكفي تكوين مجتمع أمن متعدد وفي الواقع سيكون تحقيقه أسهل .
ويوضح دويتش أربع نماذج ممكنة للمجتمع السياسي حسب معياري التعدد والأمن ما بين المجتمع المندمج الآمن والمجتمع غير المندمج الآمن :
ويرى دويتش أن مجتمع الأمن المندمج هو اوثق هذه المجتمعات تكاملاً كما في بريطانيا ولكن مثل هذا المجتمع لا يضمن بذاته الأمن والسلام الداخلي عبر المواثيق و القوانين بل إن محاولة الحفاظ على هذا المجتمع بالقوة قد تؤدي إلى حرب أهلية واسعة النطاق علىالعكس تماماً مما نشأ هذا المجتمع من اجله وهو تفادي الحرب أساساً كما حدث في الحرب الأهلية الأمريكية عامي 1860- 1861 وحرب الهند وباكستان عامي 1946 – 1947 ومع ازدياد القوة التدميرية للأسلحة في العصر الحديث يصبح المجتمع المندمج غير الآمن أكثر خطراً ومع ذلك فإن مجتمع الأمن المنمج – برغم خطورة فشله – يظل مرغوباً أكثر من بدائله لأنه في حالة نجاحه ى يحقق الأمن والسلام فحسب ولكنه يوفر قوة أعظم لإنجاز الخدمات و الأغراض الحكومية العامة والمحددة وربما يوفر شعوراً أكبر بالشخصية والطمأنية النفسية للصفوة والجماهعير .
ويقدم كارل دويتش مجموعة من الشروط التي وردت في إحدى الدراسات لقيام مجتمع أمن مندمج وهي :
التطابق المتبادل بالنسبة للقيم الرئيسية المرتبطة بالسلوك السياسسي.
أسلوب معيشة مميز وجذاب
توقعات لروابط اقتصادية قوية ومفيدة او عائد مشترك.
زيادة ملحوظة في الموارد والقدرات السياسية والإدارية على الأقل بالنسبة لبعض الوحدات المشاركة
نمو اقتصادي أعلى على الأقل بالنسبة لبعض الوحدات المشاركة
بعض الروابط الهامة المتصلة الخاصة بالاتصال الاجتماعي عبر الحدود المشتركة للأقاليم المرتقب تكاملها وعبر حوجز بعض الطبقات الاجتماعية الرئيسية داخلها.
توسيع نطاق الصفوة السياسية داخل بعض الوحدات على الأقل وبالنسبة للمجتمع الناشئ الأكبر ككل
وجود درجة عالية من سهولة الحركة بين الأشخاص جغرافياً واجتماعياً
تعدد مجالات تدفق الاتصالات والمعاملات المشتركة
بعض أنواع التعويض الكلي عن المكافآت في تدفق الاتصالات والمعاملات بين الوحدات المتكاملة.
وجود معدل معقول من تكرار التداخل في أدوار الجماعات بين الوحدات السياسية
وجود قدرة كبيرة متبادلة على التنبؤ بالسلوك.
اما العوامل التي - على العكس من ذلك – تعمل على تفكك مجتمع الأمن المندمج فهي:
1- أي زيادة سريعة في التعبئة الاجتماعية والمشاركة السياسية بمعدل أسرع من معدل استيعاب المواطنين للثقافة السياسية المشتركة للجميع.
2- أي زيادة سريعة في الأعباء الاقتصادية أو العسكرية او السياسية في المجتمع أو في إحدى وحداته وبخاصة في المراحل البكرة.
3- زيادة سريعة في التفرقة الإقليمية أو الاقتصادية او الثقافية او الاجتماعية أو اللغوية أو العرقية بمعدل أقوى وأسرع من أية عملية تكاملية تعويضية
4- تدهور خطير في القدرات السياسية او الإدارية للحكومة أو الصفوة السياسية بالمقارنة بالمهام والآعباء الحاضرة .
5- انغلاق نسبي للصفوة السياسية مما قد يؤدي إلى تباطؤ دخول أعضاء جدد وأفكار جديدة وإلى نشوء صفوة مضادة من الأعضاء المحبطين.
6- فشل الحكومة والصفوة في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والتعديلات المطلوبة أو المتوقعة من قبل السكان في الوقت المحدد أو الفشل في التكيف في الوقت المناسب مع التدهور الوشيك أو فقد بعض مراكز الأقلية البارزة أو المميزة.
وعلى الرغم من أن تحليل كارل دويتش للتكامل يعتبر تحليلاً استاتيكياً حيث يعتبر التكامل حالة يتحقق فيها مجتمع الأمن المندمج او المتعدد فقد اهتم دويتش بتوضيح مراحل عملية التكامل ويرى أنها تبدأ غالباً حول منطقة نواة تتكون من عدد محدود من الوحدات السياسية الأقوى والأكثر تطوراً وجاذبية للوحدات الأخرى ويوجد بها قائد نشيط موحد كما فعلت بيدمونت في توحيد إيطاليا مثلاً.
ثم ينشأ عبر التفاعل بين هذه الوحدات مجتمع لا حرب نفسياً يكره فيه شعوب هذه الوحدات وقادتها محاتربة بعضهم بعضاً كما كان الحال في الكانتونات السويسرية في القرن السادس عشر.
وفي مرحلة تالية تضعف الإنقسامات السياسية البارزة داخل مجتمع الأمن المندمج الناشئ وتنتقل خارج الحدود وتحل محلها اقسامات جديدة تشق طريقها عبر الوحدات والأقاليم السياسية الأصلية وقد تنشأ أحزاب وطوائف سياسية جديدة تعبر عن مصالح متطابقة تجمع بين طائفة من السكان من مختلف أجزاء المجتمع الجديد
ويؤكد دويتش في هذا المجال على أهمية الوعي الشعبي بالمصالح الإقليمية المشتركة المشتركة والذي يمكن استثارته باستحداث طريقة حياة جديدة زجذابة على المستوى الإقليمي لإعطاء مصداقية لهذه العملية التكاملية ومواجهة التحديات الخارجية كما يؤكد على ضرورة أن يصل جيل جديد مؤمن بالتكامل إلى المسرح السياسي يطور عملية التكامل
أما الوسائل المتبعة لتحقيق مجتمع الأمن المنمدج فبعضها مفيد في عملية التكامل وبعضها يضر بالتكامل ويدمره ومن الوسائل الناجحة تطوير مؤسسات سياسية محددة واستخدام الرموز وبسط النفوذ في تعيين بعض الأفراد المختارين عمداً في بعض الوظائف السياسية والإدارية وضم كل الاقتراحات و البدائل المتنافسة و توجيهها نجو القضية الكبرى الواحدة وهي الدمج.
اما الوسائل التي قد تدمر العملية التكاملية فهي الإصرار المبكر على الدمج الكامل أو الجهود المبكرة لإقامة احتكار العنف والغزو العسكري المباشر.
أما عملية إقامة مجتمع الأمن المتعدد فتعتبر أسهل وتتطلب عمليات أبسط وأهم هذه العمليات هي عدم الاجتذاب المتزايد وقلة احتمال الحرب بين الوحدات السياسية في مجتمع الأمن الناشئ وذلك من وجهة نظر حكوماته ومجموعات الصفة وأخيراً السكان.
والعملية الثانية هي نشر الحركات الفكرية والعادات المحبذة للتكامل وتهيئة المناخ السياسي لها .
والعملية الثالثة قد تكون ممارسة وتنمية ممارسة عادات ومهارات الاهتمام المتبادل والاتصال والاستجابة المتبادلة لكي ممكناً الحفاظ على استقلال وسيادة الوحدات المشتركة والمحافظة على التوقعات الثابتة للسلام والتبادل السلمي بينها.
نقد نظريات التكامل
تنبع أهمية نظريات التكامل من حيث تركيزها على شق هام من التفاعلات الدولية وهو التعاون والتبادل السلمي في حين يركز معظم منظري العلاقات الدولية والسياسة بوجه عام على عوامل التفكك والثصراع والفوضى في العلاقات الدولية والظواهر السياسية مما يعطي انطباعاً متشائماً عن السياسة وعلومها فتأتي نظريات التكامل الدولي لتكشف بأضوائها تلك الجوانب التعاونية والسلمية من هذه الظاهرة وتدفع الباحثين إلى المزيد من الاهتمام بهذه الجوانب والمساهمة في تكريسها وتعظيمها ولو على المستوى التنظيري.
ومع ذلك يوجه غلى نظريات التكامل العديد من الانتقادات السلبية وأهم هذه النظريات يقدح في طبيعتها النظرية ذلك أنها اتجهت بالأساس لتفسير متغير تابع غامض ولم تحدد هذا المتغير تحديداص دقيقاً فضلاً عن اختلافها في توضيح ما هو المتغير المستقل الذي يتوقف عليه التكامل واختلفت في ذلك ما بين منظرين يؤكدون على الرشادة والقرار الحكومي (الدستوريون) وآخرين يركزون على المصلحة الجماهيرية (الوظيفيون) وآخرون يركزون على الحاجة إلى الأمن (لاتصاليون) وهي كلها متغيرات غامضة شان متغير التكامل نفسه.
ولذلك تعتبر نظريات التكامل مجرد وصفات للتكامل لا ترقى إلى مستوى النظرية إلا مجازاً .
وفي هذا الصدد تعتبر النظرية الاتصالية أقرب هذه النظريات إلى معنى النظرية خاصة وقد اعتمدت على استقراء حالات واقعية محددة للتكامل وأوضحت من خلالها أهداف التكامل وشروطه وانواعه وعوامل استقراره أو انهياره ومراحل تكوينه فانفردت بذلك عن بقية نظريات التكامل بطابع واقعي شمولي أكثر قدرة على التفسير والتعميم والتنبوء وهي وظائف هامة للمنظرين
ويبدو ان كلاً من النظريات السابق عرضها تقصر عن الإلمام بكل أبعاد ظاهرة التكامل وخاصة النظريات الثلاث الأولى مما يقلل كثيراً من قابليتها للتعميم وتبدو فيها بوضوح آثار الخبرات التي أنتجتها والظروف التاريخية التي أحاطت بمفكريها وحاجات مجتماعاتهم آنذاك فمثلاً النظرية الوظيفية لميتراني جاءت لتواكب بتطلعاها المثالية دعوات الحكومة العالمية والمنظمات الدولية الكبرى كما انتقدت التكامل الإقليمي بعتباره مدخلا لنقل الصراع من مستوى الدول إلى مستوى الأقاليم وهو تخوف مفهوم في ظل الخبرة الأوربية عن الأحلاف التي كانت مرتبطة بتفجر الحروب لأكثر من قرن ومنها الحربان العالميتان الأولى والثانية كطما ترتبط الوظيفية الجديدة بالمجتمع الغربي الذي تتضح فيه التمايزات الاجتماعية والسياسية ونضجت فيه جماعات المصالح والجماعات الوسيطة والرأي العام بحيث تشكل ضابطاً وموجهاً للسياسات الخارجية للدول الغربية يدفعها نحو التكامل والتعاون عبر القومي وهو ما لا يتضح في دول الجنوب بنفس الدرجة.
وثمة انتقاد عام يوجه إلى نظريات التكامل السابقة وهو تعويلها الدائم على عنصر المصلحة القومية اتو مصلحة النخب كدافع للتكامل وهو فضلاً عن غموض الممفهوم وعدم تحديد مصلحة من بالتحديد وفي أي مجال وفي أي ظرف يرتبط بالتسليم الضمني برشادة صانع القرار وهو أمر أصبح محل شك ونقد خاصة من نظريات صنع القرار والإدراك وينطبق هذا الانتقاد بدرجة اكبر على النظرية الدستورية في التكامل.
وبالنسبة إلى النظرية الدستورية الاتحادية خاصة فإنه فضلاً عن نقد مفهوم المصلحة ومفهوم الرشادة المرتبط به ضمنياً كما سبق يمكن القول إن القرارات الوحدوية لا تحقق بذاتها التكامل المنشود والأمن بين الوحدات المتكاملة وقد أثبت ذلك العديد من الحروب الأهلية وانهيارات الوحدات السياسية التي نشأت بقرارات فوقية كما أوضح ذلك أنصار نظرية الاتصال.
وبالنسبة للنظرية الوظيفية فقد انتقدها كل من الوظيفيين الجدد والاتصاليين وخاصة ما يتعلق بالفصل بين السياسة الدنيا والعليا وافتراض الانتقال من التكامل على المستوى الوظيفي غلى المستوى السياسي تلقائياً كما انتقدت من حيث افتراضها بإمكانية اقتطاع أنشطة معينة من أنشطة الدول المتكاملة دون أن يتأثر ذلك بالقرارات السياسية التي قد تعوق التكامل الوظيفي نفسه أو أن يؤثر ذلك التكامل الوظيفي في السياسة العليا مما قد يهدد بإيقافه من جانب القيادات
وأخيرا؟ً بالنسبة إلى النظرية الوظيفية الجديدة كان من أهم الانتقادات الموجهة إليها فضلاً عن ارتباطها بخبرة معينة هي الخبرة الليبرالية الديمقراطية افتراضها إمكانية انتقال الولاء من الدولة إلى المنظمة الإقليمية وهذا إن كان قد حدث في الجماعة الأوربية لدى أفراد فهو لم يحدث بعد على مستوى اجتماعي واسع ولا زالت القوميات الأوربية المختلفة داخل الجماعة الأوربية تتمسك بهويتها المستقلة بل وتتفجر فيها حركات تؤكد هذا الاستقلال وتعارض الانصهار.
نظريات التكامل وخبرات التكامل العربية كحالة للدراسة
بالنظر إلى الواقع العربي في ضوء مقولات نظريات التكامل السابق عرضها نجد أن أياً من هذه النظريات لم تنطبق على العالم العربي تماماً فلم تقم بعد أية وحدة تكاملية بين الدول العربية على المستوى الإقليمية العام مستقلة عن إرادة قيادات هذه الدول وهو الشرط الذي يميز التكامل عن مجرد التعاون والتنسيق ومع ذلك فقد تمت بالفعل تجارب جزئية بين دولتين أو أكثر بين الدول العربية يمكن اعتبارها متوافقة مع بعض تلك النظريات وفي صدد دراسة خبرات التكامل العربي كحالة دراسية لنظريات التكامل. تثور ثلاثة أسئلة محورية حول : الكيفية التي ربما كان منظروا هذه النظريات سيقومون بها الواقع العربي وفقاً لمقولاتهم وحول مدى قوة تلك النظريات في تفسير الخبرة التكاملية للعالم العربي
ثم خصوصية السياق العربي لعملية التكامنل ودلالتها لنظريات التكامل
وللإجابة عن التساؤل الأول يمكن تصور اكثر من طريقة للتعامل مع الواقع العربي تتنوع بتنوع نظريات التكامل السابق عرضها :
1- فمن وجهة نظر المدرسة الدستورية – وهي من أكثر نظريات التكامل ارتباطاً بالمنظور التقليدي في العلاقات الدولية يتصور أن ينصب تركيز دارسيها على عدة أمور أساسية للحكم على فرص التكامل العربي وهي:
1 – المصلحة القومية لكل من الدول العربية وهي حسب هذا المنظور مصلحة واحدة متفق عليها يمكن إدراكها من خلال قيادات الدول التي يجتمع حولها الجماهير وتعبر عن مصلحتهم العامة تقليديا وتبين ما إذا كانت هذه المصلحة القومية للدول العربية تجتمع على التكامل مع الدول العربية الأخرى وفقاً لمعيار الرشادة وهو يعني حساب العائد في مقابل النفقة في ظل معلومات وافية عن الواقع العربي
2- مدى تشبع النخب السياسية في الدول العربية بقيم الوحدة والتكامل واستعدادهم للتضحية بسيادات دولهم من أجل المصلحة القومية العليا المشتركة في ضوء التقدير العام للمكاسب المترتبة علىالتكامل عقلانياً
3- مدى تغلغل القيم التكاملية / الوحدوية لدى الجماهير العربية
وعن طريق الإلمام بهذه العناصر يمكن الحكم من منظور النظرية الاتحادية على احتمالية قيام تكامل/ وحدة ما بين الدول العربية أو بين بعضها من عدمه
ب-اما من وجهة نظر النظرية الوظيفية فغنها سترشح للدول العربية طريقة للتكامل تتفق مع مقولاتها وهي الفصل يسن مسائل السياسة الدنيا ومسائل السياسة العليا وستنصح شعوب هذه الدول ونخبها الاقتصادية بالتعاون في المجالات الفنية المختلفة لإحاطة سلطات هذه الدول السياسية بشبكة قوية من التفاعلات الوظيفية التي تجعل التعاون أمراً مرغوباً أكثر من الصراع وبقدر ما تنجح هذه العلاققات الوظيفية فإنها من ناحية تتوسع وتطول مجالات أخرى ومن ناحية أخرى تخرج من سلطة النظمة السياسية لصالح النظام الإقليمي وهكذا إلى أن يتحقق التكامل العربي تماماً
وفي هذا المجال يمكن تصور ان يعمل الوظيفيون على قياس حجم التفاعلات الاقتصادية والفنية المتخصصة في العالم العربي عبر الدول العربية سواء فيس شكل علاقات ثنائية بين كل دولتين أو في شكل إقليمي عام كما في المنظمات الوظيفية العربية المنبثقة عن النظام الإقليمي العربي وقياس مدى فاعلية هذه التنظيمات وآثار هذه العلاقات على الجماهير العربية لمعرفة ما إذا كانت مغرية بتكثيف التعاون بين الدول العربية وقابلة لانفصال عن سيطرة النظم السياسية العربية لصالح النظام الإقليمي العربي وترشيح أكثر المجالات وأكثر الدول قابلة للتكامل .
ج _ أما الوظيفيون الجدد فسوف يصرفون بحثهم إلى استكشاف القوى المختلفة المؤثرة المختلفة في صنع القرار في الدول العربية واستقراء خبراتهم و توجهاتهم فيما يتعلق بالتكامل العربي ومن ثم فسوف يتناول بحثهم النخب السياسية الحكومية وغيرها والأحزاب وجماعات المصالح ورجال الأعمال وغيرهم ممن يشتركزن في صنع القرار الجمعي العربي ويؤثرون فيه كل ذلك فضلا عن العلاقات والتنظيمات الوظيفية التي تجمع بين الدول العربية على مستوى السياسات الدنيا
وبقدر ما تبدو قيم تلك القوى الفاعلة في الدول العربية متجهة نحو التكامل محققاً للمصلحة القومية المشتركة وبقدر اقتناعهم بأهمية تحويل ولاءتهم الوطنية إلى الولاء الإقليمي العربي و أن مؤسسات التكامل العربي العامة ستشبع مصالحهم بدرجة أعلى من مؤسسات دولهم بقدر ما يتحقق ذلك يعتبر الوظيفيون أن التكامل أقرب إلى التحقيق أي إن الوظيفيين سيركزون على الصراع والخلاف في المصالح بين القوى السياسية المختلفة في الدول العربية ومعرفة ما إذا كان اتجاه هذا الصراع في صالح التكامل أم القطرية مع الاهتمام بالعامل القيمي في تهيئة المناخ السياسي للتكامل عبرالمجالات الوظيفية المختلفة و الذي قد يظهر في استطلاعات الرأي العام وكتابات المثقفين والخطاب السياسي للنخبة .
د – وأخيراً فإن أنصار النظرية الاتصالية سوف يحاولون استكشاف مدى توافر شروط قيام مجتمع تكاملي في العالم العربي ما هي أهمية الوحدات إحداها للأخرى ومدى اتفاق القيم وتشابه أنواع الثواب والتجاوب المتبادل والتطابق أو الولاء المشترك ثم يحاولون تبين مدى فعالية وسائل لإقامة هذا المجتمع وهي توليد القيم وتخصيصها والقمع والتطابق ومن خلال مقارنة هذه الشروط و الوسائل والواقع العربي يمكن للاتصاليين الخلوص إلى نتيجة بارتفاع فرص التكامل العربي أو انخفاضها.
وفي هذا الصدد تبدو النظرية الاتصالية اكثر نظريات التكامل تحديداً في تقييم الواقع وذلك لاستنادها إلى العديد من الشروط الإجرائية في تعريف التكامل وعوامل قيامه وعوامل انهياره.
حدود القوة التفسيرية لنظريات التكامل في الواقع العربي
إن نصيب كل من نظريات التكامل يبدو متفاوتاً في القدرة على تفسير الخبرة التكاملية في الواقع العربي .
فمن ناحية تفترض النظرية الاتحادية / الدستورية أن قيام التكامل يتم وفقاً لقرارات النخبة الحاكمة في كل من الوحدات المتكاملة بناءاً على حسايبات رشيدة للمكاسب والخسائر او التكاليف وفي ظل تيار وحدوي يسود النخبة والجماهير وفي الواقع فقد حدثت مثل تلك الوحدة في العالم العربي ولكن في حالات محدود من حيث من حيث العدد ومن حيث الانتشار الجغرافي وأيضاً من حيث درجة النجاح وكان أبرز هذه الحالات الوحدة المصرية السورية عام 1958 والوحدة اليمنية عام 1990 ولم تحدث مثل هذه الوحدة على مستوى عربي عام برغم وجود مقومات التكامل العربي وأهمها على الإطلاق العوامل الثقافية وكذلك لم تنجح هاتان الوحدتان في التطبيق العملي لهما فقد انفصلت سوريا عن مصر في أواخر الستينات على أثر تغيرات سياسية داخلية ونشبت الحرب الأهلية في اليمن عام 1994 بسبب الخلاف على توزيع مكاسب الوحدة الوليدة وهذا يقدح بقوة في فرضية النظرية الدستورية القائلة بأن هذا النوع من الوحدة يحقق الأمن المتبادل للدول المتكاملة كما يقدح أيضاً في الفرضية الكامنة في هذه المدرسة حول رشادة القادة السياسيين ودقة حساباتهم للمكاسب والتكاليف خاصة في البعد المستقبلي لهذه الحسابات .
ومن ناحية أخرى تعتبر المدرسة الوظيفية أضعف نظريات التكامل عند تطبيقها على الواقع العربي للعديد من الأسباب التي اهمها الطبيعة الشخصية للأنظمة السياسية العربية والتي تجعل الفصل بين السيسة العليا والسياسة الدنيا شبه مستحيل في العالم العربي وتدني مستوى الوعي السياسي والاقتصادي والثقافة لدى الجماهير العربية وتفشي الأمية والسلبية في أغلب الدول العربية بما فيها الدول العربية الأكثر قدماً ونمواً كمصر وسوريا و العراق مما ينعكس بدوره على مستوى المشاركة السياسية للجماهير العربية بالسلب يضاف إلى ذلك العوامل الخارجية التي تجعل التكامل الوظيفي بين كل دولة عربية والدول الكبرى في النظام الدولي أقرب من التكامل بين الدول العربية ذاتها ولا سيما أن الدول العربية جميعها دول متخلفة اقتصادياً وتكنولوجياص مما يجعلها في وضع لا تستفيد فيه إحداها من الأخرى في تلك المجالات الوظيفية بالمقارنة بما يمكن الاستفادة به من التعاون مع العالم الخارجي غير العربي.
ومن ناحية ثالثة فإن النظرية الوظيفية الجديدة تعاني في تطبيقها على العالم العربي ما تعاني منه الوظيفية في هذا المجال و لا نستطيع أن نفسر لماذا لا يتحقق التكامل العربي بالرغم من وجود مؤسسات التكامل وقراراته الهائلة في العالم العربي متجسدة في جامعة الدول العربية والتي بلغ عددها نحو ستة وتسعين اتحاداً في مطلع الثمانينات وتغطي المجالات المهنية والثقافية والعلمية والتربوية والعمالية والنقابية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية و الإعلامية والاتصالية والسياحية فضلاً عن خبرات اللجان المشتركة التي تعمل على التنسيق بين كل دولتين أو أكثر في مجالات وظيفية وأخيراً تجربة التجمعات الإقليمية التي يصعب العثور على أي أثر للمنحى الوظيفي في التحول إليها ويظهر فحص دوافع قيام التجمعات الإقليمية العربية وآليات العمل بها أن التحول في مسار النظام العربي نحو هذه التجمعهات لا علاقة له بالمنهج الوظيفي
فقد اختلفت دوافع قيام التجمعات الثلاث ودوافع الدولا الأعضاء فيها فمجلس التعاون الخليجي نشأ لمواجهة القضايا الأمنية التي أثارها اندلاع الثورة الإيرانية ثم نشوب الحرب العراقية الإيرانية وتحمست السعودية لقيامه لأنها وجدت في الظروف القائمة آنذاك مناخاً مواتياً لدعم نفوذها الإقليمي بعد انشغال كل من العراق وإيران في الحرب وشجعت الولايات المتحدة على قيامه لدعم مكانة القوى المحافظة في العالم العربي وخلق شروط أفضل للتحركات الاستراتيجية والأمنية للولايات المتحدة في المنظقة أما اتحاد المغرب العربي فقد نشأ أساساً لدعم المركز التفاوضي للشمال الأفريقي في مواجهة مشروع السوق الأوربية الواحدة عام 1992 ووجدت فيه ليبيا فرصة للخروج من عزلتها النسبية على الصعيدين الإقليمي والعالمي أما مجلس التعاون العربي فقد نشأ كرد فعل لتكوين المجلسين الآخرين وتفاوتت دوافع أطرافه وإن التقت كلها على طريق التكتل والتجمع فهو بالنسبة للعراق يعني مزيداً من العزلة للنظام السوري واحتياطياً استراتيجياً في حالة تجدد القتال مع إيران اوربما تصور إمكانية دعمه لدى غزوه للكويت وهو بالنسبة إلى مصر وسيلة لإنهاء العزلة العربية وفرصة لاختبار قدرتها على التحرك عربياً دون التخلي عن اتفاقات كامب ديفيد أما الأردن فقد كانت أكبر المستفيدين بعد تآكل دورها في النظام العربي .
وهكذا فإن هذه التجمعات الإقليمية برغم أنها كما أعلن نشأت لتعالج أغراضاً وظيفية مختلفة فإنها تجمعات كان دافع السياسة العليا كامناً فيها بدرجة أو بأخرى سواء الدافع الأمني بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي أو السياسي بالنسبة للمجلسين الآخرين .
ومع ذلك فلم يؤت أي من هذه التجمعات ثمارها الأمنية و لا الاقتصادية و لا الاستراتيجية فقد احتل العراق الكويت عام 1990 ولم تستطع دول مجلس التعاون الخليجي الدفاع عن الكويت وطرد المحتل وتزايد الوجود الغربي على أراضيها على أثر ذلك اما اتحاد المغرب العربي فلم يستطع دعم قدرات دوله الاقتصادية والتكنولوجية في مواجهة الجماعة الأوربية وذلك لأسباب هيكلية تتمثل في تدني المستوى الاقتصادي والتكنولوجي في هذه الدول واعتمادها على تصدير المواد الخام فضلاً عن العوامل السياسية الداخلية والخارجية مثل الحرب الأهلية الجزائرية أما مجلس التعاون العربي فقد انهار بعد أشهر قليلة من إنشائه بسبب الغزو العراقي للكويت
ويلاحظ ان أياً من هذه التكتلات لم يبدأ بانتهاج سياسة تكاملية على أسس وظيفية فلم يتم اختيار قطاع محدد من قطاعات النشاط الإنتاجي أو الخدمي لاستخدامه كقاعدة للعمل المشترك باتجاه التكامل.
أما الأبنية المؤسسية لهذه التجمعات فلا يمثل أي منها تطويراً يذكر للبناء المؤسسي لجامعة الدول العربية فالإطار المؤسسي لصنع القرار واحد بما يتضمنه من غياب دورالمنظمات غير الحكومية وغياب سلطة فعلية لمؤسساتها تمكنها من فرض إرادتها على الدول الأعضاء ,
وهكذا فإن التكامل العربي لم يتحقق لأسباب عديدة لم تعالجها الوظيفية الجديدة لأنها بالأساس استقت مقولاتها من واقع مختلف عن الواقع العربي وهو الخبرة الأوربية في التكامل وأهم هذه الأسباب الطبيعة الشخصية للنظم السياسية العربية والعوائق الخارجية وتدني مستوى الوعي الجماهيري .
واخيراً وفيما يتعلق بالنظرية الاتصالية فلا يدل استقراء الواقع العربي على وجود مجتمع أمن عربي مندمج أو تعددي ونظرة واحدة إلى الحدود العربية توضح أنه لا توجد دولتين عربيتين إلا وبينها نزاع حدودي تختلف درجة حدته .
اما شروط قيام مجتمع تكاملي بين الدول العربية فتختلف في درجة تحققها وإن كانت أكبر على المستوى القيمي .
المراجع
كارل دويتش ، تحليل العلاقات الدولية ، ترجمة شعبان محمد محمود شعبان ، القاهرة الهيئة العامة للكتاب ، 1983.
فيليب حتي ، النظرية في العلاقات الدولية بيروت 1993
Michael Hodges, Integration theory, in
Trevor Taylor, Approach and theory in international relations, London : Longman , 1980.
J. S. Nye , Pece in parts: integration and conflict un regional organization, Boston : Little Brown Co., 1971.
جميل مطر و علي الدين هلال ، النظام الإقليمي العربي، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية ، 1983.
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home