فى بناء المفاهيم : مقتضيات العلم وضرورات التواصل والحوار
- Alkasd my other blog
فى بناء المفاهيم :
مقتضيات العلم وضرورات التواصل والحوار
عملية بناء المفاهيم من أهم عمليات تأسيس المعرفة العلمية، فالمفاهيم هى اللبنات التى نبنى بها صروحنا النظرية والفكرية؛ فإن لم تستوف هذه المفاهيم شروط تحديدها وصياغتها هوت النظريات المؤسسة عليها هشيما تذروه الرياح، واذا كان لنا أن نستعير من علم الاقتصاد فإن موقع المفاهيم فى عالم الفكر أقرب ما يكون الى النقود فى النظام الاقتصادى، فالمفاهيم مستودع للقيمة ووسيط للتبادل الفكرى فإذا لم تنضبط هذه المفاهيم ساد التشوش عالم الفكر وتقطعت قنوات الاتصال، وكما تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة، فإن المفاهيم المغشوشة قد تنازع المفاهيم السليمة فى التداول والاستعمال لتصبح المفاهيم الحضارية أحيانأ مفاهيم مخذولة بتعبير مالك بن بنى، وتظل حاملة عناصر قوتها فى انتظار من يبعثها من عالم الإمكان إلى عالم الفعل.
ومبحث المفاهيم مبحث قديم توافرت عليه حقول معرفية عدة على رأسها الفلسفة والمنطق وعلم والنفس حتى إن البعض يشير إلى هذا المبحث باسم علم المفاهيم Concepto1ogy ومع ذلك لم يول هذا المبحث – فى حدود ما نعلم – ما يليق به من اهتمام فى الفكر العربى المعاصر، ولم تتعد الدراسات فيه تقرير أصوله النظرية دون أن تتطرق إلى عملية بناء المفاهيم كعملية حركية (دينامية ) ترتبط بحركة الأفكار والتدافع حولها ومن ثم جاء هذا الكتاب الذى بين أيدينا ليحاول أن يسد ثلمة فى هذا الباب، وأن يقدم رؤية تسعى لأن تكون متكاملة لعملية بناء المفاهيم، وأحد أوجه هذا السعى تنوع تخصصات واهتمامات أفراد الفريق البحثى الذى أعد الكتاب، وفى الوقت نفسه كان الكتاب ثمرة عملية شورى بحثية مستمرة بين الباحثين المساهمين فيه تلاقحت فيها الأفكار وتكاملت الرؤى.
يقع الكتاب فى جزئين: يتناول الجزء الأول قضية بناء المفاهيم وأطرها النظرية والخطوات العملية لتطبيقها كما يتناول بعض المفاهيم المركزية فى هذا الإطار النظرى ويقوم بتحريرها وفق مقتضيات قيامها بوظيفتها كمفاهيم منظومة أو مفاهيم تستدعى وترتبط بشبكة من المفاهيم الفرعية التى تلقى عليها بعضا من دلالاتها ومن هذه المفاهيم المركزية: المعرفة، والعلم، والفكر، والتجديد والحضارة،أما الجزء الثانى فيعرض نماذج تطبيقية لبناء المفاهيم وفق هذا الإطار النظرى.
ويضع د. طه العلوانى مشكلة المفاهيم فى سياقها الحضارى العام باعتبار أن حال المفاهيم تعبير عن طبيعة المرحلة الحضارية التى تمر بها الأمة حيث تظهر أعراض الانحطاط أول ما تظهر على مفاهيم الأمة فتعتريها الميوعة والغموض فتقع فى الإجمال والإبهام وتتأثر بذلك سائر العمليات المعرفية الأخرى، ومن ثم تغيب إمكانات الحوار المشترك بين عقول الأمة وتضعف قدرات التقويم والنقد ( ص 8 ) وعليه تضعف مناعة الأمة الفكرية وتصبح المفاهيم حمى مستباحًا من المفاهيم الوافدة.
ولما كانت مشكلة المفاهيم على هذا النحو من الأهمية فقد تضافرت البحوث الستة التالية لتحديد أبعاد المشكلة والتركيز على معالجة جانب أو آخر من جوانبها فيقوم د. على جمعة فى بحثه " مدخل لقضية المفاهيم والمصطلحات" ببيان ارتباط المفاهيم بالمرجعية عمومًا وبالمرجعية الإسلامية خصوصًا من حيث رؤية الإنسان ووظيفته فى الكون وتداعيات ذلك على تحصيله للمعرفة، سواء عن طريق قراءته للواقع أو الوحى وضوابط هاتين القراءتين والجمع بينهما.
وفى هذا السياق يعرض د. سيف الدين عبد الفتاح فى بحثه " بناء المفاهيم ضرورة منهجية" محددات العلاقة بين المفاهيم ومرجعيتها الإسلامية ويوجزها فى ثلاث محددات أولها أن العقيدة هى قاعدة بناء المفاهيم فمنها تنبثق وإليها تعود أخذا فى الاعتبار أن العقيدة تجمع الى البناء الفكرى أبعادا حركية متعددة بما يؤكد ارتباط العمل الصالح بالكلمة الطيبة. وثانى هذه المحددات أن اللغة أداة البيان فهى تعبير عن حقيقة حضارية بما يوجبه ذلك من ضرورة حفاظ الأمة على خصوصيتها المعرفية، أما المحدد الثالث فهو أن الوحى – قرآنا وسنة – هو المصدر الأساسى لبناء المفاهيم وعلى ضوء هذا الارتباط بين المفاهيم ومرجعيتها الحضارية يعود د . يوسف عبد الفتاح فى بحث " مقدمات أساسية حول عملية بناء المفاهيم " لبيان أهمية تحديد هوية المفهوم من حيث مرجعيته ومصدريته ومقاصد بنائه ومن ثم تحديد موقعة من منظومة المفاهيم الوسائل والمفاهيم المشتقة والمفاهيم الفرعية ... وبناء على هذا التحديد يمكن اتخاذ موقف من المفهوم من خلال عملية النقد والمراجعة وإعادة البناء وفق أولويات ومقاصد متعددة حسب طبيعة المفهوم.
ويقدم الكاتب رؤية لثلاث محاولات لتبديد المفاهيم سواء بدعوى التجديد اللغوى عند حسن حنفى، أو استغلال منطقة العفو على أنها دائرة فراغ مفاهيمى تمهيدًا لإقصاء الدين ومفاهيم عن الحياة أو اختزال المفاهيم الى مؤشرات إجرائية .
واذا كان د . على جمعة قد تطرق إلى مسألة الوضع أو عملية جعل اللفظ إزاء المعنى وأنواع الوضع ومستوياته فان بحث د. صلاح اسماعيل " توضيح المفاهيم ضرورة معرفية " يقدم تأصيلا نظريا لقضية المفاهيم فيحدد معنى المفهوم ووظائفه متوقفا عند مشكلة المعنى وما يرتبط بها من إشكالات توضيح المفاهيم وعوائق هذا التوضيح سواء بتحريف المعنى وتشوية دلالات المفهوم فى منظومته الحضارية بما يعبر عنه بالحراك المفاهيمى حيث يجرى تهميش المفاهيم المركزية وإبدال مفاهيم فرعية بها ويطرح البحث تحليل بنية المفهوم كآلية لتجلية المفهوم من خلال تحديد عناصره الأساسية والفرعية، وتمييز المعانى الجوهرية للمفهوم من معانيه الإضافية وتحديد العلاقة بين المفهوم كما هو فى الذهن وبنية المفهوم فى اللغة واللسان ومن ثم تظهر الدلالات الأصلية والمكتسبة للمفهوم وتنازع هذه الدلالات وأثرة على المفهوم.
ويتناول بحث د. يوسف عبد الفتاح " بناء المفاهيم الإسلامية ضرورة من منهاجية " وبحث د. إبراهيم البيومى غانم "السياق التاريخى و المفاهيم " العلاقة بين الخبرة والمفهوم. والمقصود بالخبرة هنا الخبرة فى مفهومها الشامل الذى يشمل زمنيًا الخبرة التاريخية وخبرة الواقع المعاش وحضاريًا الخبرة الاسلامية والخبرة الغربية وبها المعنى ارتبطت الخبرة بعدة تحيزات أثرت على بناء المفاهيم فبالنسبة للخبرة التاريخية اتخذ التشويه المفاهيمى آليتين تتمثلان فى تحكيم المارسات التاريخية المنحرفة فى النموذج الإسلامى والاستدلال بطول أمد هذه الممارسات قياسا إلى فترة الخلافة الراشدة على فاعلية الفكرة فى الواقع (ص 92) وإسقاط الخبرة التاريخية على المفهوم مما يجعلها جزءا منه الأمر الذى يبدو بوضوح فى مفهوم البيعة ومفهوم الطاعة. أما فيما يتصل بالخبرة الغربية فإن التعامل غير القويم مع هذه الخبرة خارج إطار الحوار والاعتبار الحضارى أدى لتحكيم الخبرة الغربية بما لها من خصوصية فى المفاهيم الإسلامية، ووصل الأمر الى استخدام مفاهيم متجذرة فى الخبرة الغربية بالغة الخصوصية للدلالة على المعانى الإسلامية فى حين أدى اعتبار الواقع أساسا لبناء المفاهيم وتطويرها أو حتى اختفاءها إلى إعلاء جانب الواقع برغم ما قد يكون عليه من انحراف .
وعليه يحاول د. ابراهيم البيومى رصد العلاقة الجدلية بين المفاهيم وسياقها التاريخى من خلال تتبع مفاهيم معينة كالعروبة والأمة والوطن والقومية محددا بعض قنوات العلاقة بين المفاهيم والسياق التاريخى كالبعثات الدراسية والنظام التعليمى والصحافة والنشر والترجمة التى يعرض لها د. أسامة القفاش فى بحث مستقبل مميزا بين الترجمة فى طور الإيناع الحضارى أو الترجمة من منطلق إعادة الانتاج فى اطار اللحظة الحضارية المحققة، والترجمة إبان المواجهة بين المسلمين وقوى البغى ( الاستعمار) موضحا كيف قام الأجداد باشتقاق اللفظ دفاعا عن الأصل وأهمية المشروع الحضارى بشكل عام لترجمات جميلة وسائغة، ثم الترجمة بعد تراكم الهزائم والتسليم بها حتى أصبحت الترجمة تعبيرا أمثل عن عقلية الوهن وذهنية التبعية وفى هذه المراحل اهتم الباحث ببيان آليات الترجمة والنقل والتعريب وكيفية انتقال الكلمات والمفاهيم عبر اللغات ومدى تأثرقيمتها الدلالية بهذا الانتقال وكيف تم البحث عن المقابل فى لغتنا وينتهى الباحث الى تأيد ما لا حظه د. نصر عارف من أن عملية الترجمة ونقل المفاهيم أفرزت عددا من الظواهر الخطرة منها:
1- استبدال المفهوم الاسلامى بمفهوم آخر غريب فى المبنى والمعنى.
2- تلبيس المفاهيم الاسلامية باخراجها عن معانيها واعطائها مضامين ومعان نابعة من الخبرة الاوروبية ليس لها جذور فى التراث الاسلامى.
3- استبعاد المفاهيم الإسلامية على أساس أنها مفاهيم لا علمية برغم أنها مفاهيم محورية فى البناء المعرفى الإسلامى.
ويعالج أ. هشام جعفر فى بحثه " بناء المفاهيم بين التقويض والتشغيل" عمليتين من أهم عمليات بناء المفاهيم وهى التفكيك بمعنى التعامل النقدى مع المفاهيم وبالأخص المفاهيم الوافدة من خلال تحديد منهج تلقيها وبيان تحيزاتها والتواصل الفعال معها، ثم يأتى منهج التقويض وهو بالأساس عملية استخلاص المفاهيم وتنقيتها مما تعرضت له من عمليات التلبيس والتشويه وطمس الدلالات ويجرى تقويض المفاهيم سواء من جهة الإطار المرجعى والمصدر المعرفى أو التقويض من جهة الدلالة أو التقويض من خلال الإسقاطات التاريخية والمعاصرة على المفاهيم ولكل جانب من هذه الجوانب آلياته الخاصة. أما فى المجال تشغيل المفاهيم فيناقش البحث محددات هذا التشغيل التى يجملها فى خمس محددات هى: الواقع بمستوياته المختلفة، والسلطة فى أوسع معانيها لتشمل السلطة السياسية والسلطة المعرفية وسلطة النص، ورؤية المفاهيم فى إطار المفاهيم الحاكمة ونوعية المفهوم بمعنى هل هو مفهوم تنظير أم مفهوم تحليل أم مفهوم تصنيف؟ وعلاقة المفهوم بالجمهور المتلقى له. ويتم هذا التشغيل من خلال العديد من الأدوات والقنوات من أهمها التعليم ومراكز لبحث العلمى والفنون والترجمة ووسائل الإعلام والاتصال وبنوك المفاهيم ودورياتها .
وكان من الطبيعى أن يأتى مفهوم المعرفة فى مقدمة المفاهيم المحورية التى تناولها الكتاب كنماذج تطبيقية لما له من طبيعة تأسيسية بحيث تنعكس دلالاته وآثاره على مجمل منظومة المفاهيم فى المنظور المعرفى أو الباردايم الذى يقع فى إطاره. ومن ثم حدد الباحث د.صلاح اسماعيل مفهوم المعرفة لغة واصطلاحا كمقدمة لرصد دقيق وموضوعى - وإن كان موجزا - لبنية مفهوم المعرفة فى الفكرين الغربى والاسلامى من خلال قضايا من قبيل: إمكان المعرفة ومصادرها والتحليل المنطقى لها ومع أهمية البحث وما انطوى عليه من نظرة مقارنة بين المعرفة فى التصور الغربى والتصور الاسلامى فإن فائدته كانت ستكتمل لو أضيف إليه أثر مفهوم المعرفة فى بنيته الحالية على منظومة المفاهيم الأخرى وكيف يمكن أن تفيد منه في عملية اعادة بنائها.
ويرتبط بمفهوم المعرفة مفهوم "الفكر" الذى تناوله د.على جمعة فى بحثه مبينا مفهوم الفكر عند المسلمين وبدأ به فى اللغة أولا ثم فى استعمال المسلمين له والذى جاء متفقًا مع المقصود القرآنى له ثم قارن مفهوم الفكر هذا مع معناه فى اللغات الاخرى إضافة إلى مقارنة مفهومه فيها مع مفهومه عند المسلمين وأتبع ذلك ببيان مفهوم الفكر فى حياتنا الثقافية وكيف أدى الاتصال بالحضارة الغربية وما صحبه من ترجمة الى تغير فى مدلول هذا المفهوم من جهة اتساعه في جانب وتخصيصه في جانب آخر.
و ولكا كان مفهوم "العلم" يشكل مع مفهوم المعرفة والفكر ثلاثية المفاهيم المحورية فى عملية بناء المفاهيم فإن د.على جمعة يعرض بالطريقة نفسها مفهوم العلم عند المسلمين وعلاقته بالمعرفة مقارنا بينه وبين مفهوم العلم عند المحدثين الغربيين من خلال التعريفات المعجمية له وتتبع تطور دلالات المفهوم تاريخيا ليخلص الباحث الى تأثر أكثر مثقفينا بالمفهوم الغربى للعلم حتى إن البعض يقصر كلمة العلماء على المشتغلين بعلوم التجريب فقط وحتى أصبح الخارج عن نطاق الحس خارجا عن نطاق العلم في منظوره الإسلامى، بالإضافة إلى بيان طرق التعليم كما وردت فى الأصول المنزلة، ومن ثم أدى اختلاف مفهوم العلم ومصادره وطرقه إلى تصنيف متميز ومختلف للعلوم فى الفكر الاسلامى عنه فى الفكر الغربى.
وعلى الرغم من أن مفهوم التجديد يعد أحد المفاهيم الكلية فى المنظومة الاسلامية فإنه كان من أكثر المفاهيم التى تنازعتها التيارات الفكرية وانعكس هذا على المفهوم ذاته من حيث معناه ودلالته، ومن هنا تاتى أهمية الدراسة التى قدمها د. سيف عبد الفتاح لهذا المفهوم حيث قام بمراجعة منظومة المفاهيم النظرية والحركية المتعلقة بالتجديد مثل الأصالة والجديد والقديم والمعاصرة والعصرية والتقليدية والتقدم والرجعية والتغريب والتقليد والاجتهاد والإصلاح والتحديث والنهضة ..............الخ وهذه المفاهيم تعبر عن أحد جوانب التجديد أو أحد أدواته أو يختلط بعضها بهذا المفهوم خاصة تلك المفاهيم النابعة من الحضارة الغربية، ثم يشرع البحث فى إعادة بناء المفهوم من خلال محاولة تحديده فى اللغة والأصول المنرلة ( القرآن والسنة ) التى تقدم رؤية متكملة لعملية التجديد لها أسسها وقواعدها المنهجية، وإدركًا لأهمية الربط بين فكرة التحديد والنسق المعرفى وما يضيفه هذا الربط من أبعاد جديدة فى التناول والتحليل تثرى الرؤية المقارنة فإن الباحث يقوم بدراسة هذه العلاقة فى الخبرتين الغربية والإسلامية ليخلص إلى أن النسق المعرفى الاسلامى بعتباره محصلة تفاعل بين كتاب الوحى وكتاب الكون كمصدرين للمعرفة أدى الى تميز مفهوم التجديد بينما عانى النسق المعرفى الغربى من أثر خبرة الصراع الحاد بين الكنيسة من جانب وسلطة المعرفة والعلم من جانب آخر .
ويدعو د . نصر عارف فى بحثه " الحضارة " ....الثقافة ... المدينة .. دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم " لإنهاء فوضي المفاهيم التي نعيشها، من خلال تقديم نماذج لبناء المفاهيم تخلص البناء المفاهيمى العربى المعاصر مما أصابه من تشويه وعدم تحديد وخلط للدلالات والمعانى، بما أفقد الكلمات ما هيتها ودورها كوسيلة للتواصل الفكرى والحوار، إذ لم تعد الألفاظ بإزاء معان محددة، وإنما يختلف المعني والدلالة من ذهن لأخر، فأدي ذلك الي ما نعانيه في واقعنا الثقافي من اهدار للطاقات الفكرية في تكرار مناقشة القضايا ذاتها بعض مضي عقود من الزمان علي إثارتها مثل : قضية المرأة، وأهل الذمة، والعلاقة بين الدين والسياسة، أو بين العلم والدين، أو الأصالة والمعاصرة ..الخ
ويرصد الباحث نصر عارف واقع هذا التشوية من خلال عرضه لمفهوم الحضارة، ثم يقوم بمحاولة لتأصيل المفهوم من خلال عدد من الخطوات التي تمثل نموذجا لبناء هذه النوعية من المفاهيم داعيا الي تقديم نماذج اخري لاعادة بحث وتنقية المنظومة المفاهيمية الحالية تتنوع حسب تنوع مستويات المفاهيم ومدي ما أصابها من خلط وتشويه.
فعلي الرغم من أهمية مفهوم الحضارة سواء من حيث محوريته في الحركة الإنسانية: توصفها وتكييفا وبيانا لمقصدها ووجهتها، أو من حيث كونه المفهوم الأساس لكثير من العلوم الاجتماعية مثل: الأنثربولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس و التربية فإنه تعرض لعملية تشويه متواصلة ادت لتحولة لمجرد صفة ذات أبعاد قيمية تفتقد الماهيات والماصدقات بما اقترب به من مفاهيم مثل الحداثة والتقدم والرقي.
وإذا كان المفهوم علي هذا النحو من الأهمية والتشويه معاً يستنهض قيام دراسة جادة تجلي غموضه وتكشف عن جوهره وتستقصي دلالاته فإن الدراسات التي تعرضت لهذا المفهوم قدمت معاني متنافرة ومتعارضة للمفهوم صانعة بذلك ركاما علميا يخفي الدلالات الحقيقية للمفهوم، فلم يرجع أي من هذه الدراسات بصورة منهجية إلي أصوله اللغوية في المعاجم العربية لتحديد دلالته إنما اعتمدت علي واحد أو اثنين من هذه المصادر الثلاثة:
1- مفهوم الحضارة كما قدمه ابن خلدون باعتباره أول من أعطاه دلالات متكاملة كمفهوم مقابل للبداوة.
2- مفهومculture في اللغات الأوروبية .
3- مفهوم civilization في اللغات الأوروبية
ومن ثم توزعت دلالات المفهوم وطمس أغلبها التي ارتبطت بأصله ومصدره بما أدى إلي تشويه المفهوم تشويها أدي إلي إخراجه عن دلالاته الأصلية وتلبيسه بدلالات أخري لا يستوعبها جذره اللغوي، ولا يتسق مع أصوله ومصادره وبصورة أصبحنا لا نجد معها تعريفا واحدا للمفهوم لدي من تناولوه .
وفى سبيل تأصيل المفهوم قام الباحث بعدد من الخطوات :
أولا – تأصيل مفهوم culture فى دلالته الأصلية.
ثانيا : سيرة مفهوم culture بعد ترجمته الى اللغة العربية.
ثالثا : الدلالة العربية لمفهوم الثقافة
رابعا : تأصيل مفهوم civilization فى دلالته الأصلية.
خامسا : سيرة مفهوم civilization بعد ترجمته إلى اللغة العربية .
سادسا : الدلالة العربية لمفهوم " المدنية "
سابعا : حول إعادة تعريف مفهوم الحضارة.
اولا – تأصيل مفهوم culture فى دلالته الأصلية :
يعود الكاتب بالكلمة إلى جذرها اللغوى الذى يعنى " حراثة الأرض وزراعتها " ثم يعرض لعدد من التعريفات المختلفة للمفهوم، مستخلصا من مجملها المحددات العامة والمدلولات الأساسية له والتى تعطيه ماهيته، وتحدد جوهره ، وماصدقاته ، فهذا المفهوم تشعب فى مختلف العلوم الاجتماعية ، وأصبح مكونا أساسيا لعلم الأنثربولوجيا الاجتماعية ، والذى عليه تقوم افتراضات النظرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأوروبية حيث افتقد الإنسان الأوروبى – باعتماده النظرية النسبية ، ورفضه وجود الإله المسيطر – قاعدة يبدأ منها التفكير حول ذاته ، سواء كان هذا الانسان هيجل أو كيريجارد أو ماركس ، بما جعلهم جميعا يبحثون عن نقطة ثبات تقف عندها تطلعاتهم ، وتنطلق منها مقولاتهم، فوجودها فى الأنثربولوجيا التى تتخذ من مفهوم culture جوهرا أساسيا لمقولاتها وتحليلاتها، هذا وينطلق علم الأنثربولوجيا من ثلاث قواعد محورية هى :
التطــــورية : حيث يمكن تصنيف المجتمعات طبقا لمدى اقترابها أو ابتعادها عن culture السائدة فى المجتمع الأوروبى، الذى يمثل المرحلة الراقية فى تطور المجتمعات، ومن ثم ظهرت مفاهيم مثل التحديث واللحاق بالركب ومايسمى " بالانتشار الثقافى" أى انتقال الثقافة من المجتمع الأكثر رقيا إلى المجتمعات الأدنى تطورا ، وتحت هذا المعنى ظهرت مفاهيم مثل رسالة الرجل الأبيض و" التثاقف " أو المثقافة " Acculturation ، أى التغيير الثقافى نتيجة الاتصال بين الثقافات، ويرتبط ذلك بالبغى الأوروبى
( الاستعمار )
وطبقا لهذه القواعد الثلاث ، وانطلاقا منها برز مفهوم culture بنفس المعانى فى مختلف العلوم الاجتماعية، وتم تشكيل محتوياته طبقا لمعطيات الفكر الأوروبى وأيديولوجيتها ، فوجدت مفاهيم مثل Economic Culture Political culture واعتبرت قيم المجتمع الأوروبى ومعتقداته وأنماط سلوكه ومدركاته هى الأرقى دائما، أما المجتمعات الأخرى فهى تقليدية ورجعية، وإذا أرادت التقدم والتحديث فإن عليها أن تنقل نمط Culture الأوروبى وتنبذ موروثها التقليدى.
فهذه الكلمة تعبر عن طبيعة الإنسان الأوروبى من حيث هو إنسان الارض ، وعملية الزراعة لها دورها فى نفسيته وصياغة رموزه، لذا لم يكن غريبا إذا ماتعاظم إنتاج الفكر ، وبدأ غرس القيم الجديدة ، وحصد ثمار النهضة لم يكن غريباً أن يطلق الإنسان الأوروبى لفظه Culture على هذه العملية ، كما تعبر Culture عن مجمل السياسيات التى قام بها الأوروبى تجاه المجتمعات الأخرى، فهو قد حاول أن يزرع نمطه المجتمعى والمعيشى ، تمهيدا لحصاد ثمار هذه المجتمعات من عقول نيرة، وموارد اقتصادية ، ونظم سياسية تحقق مصالحه ، ونظم اجتماعية تتخذه مثالا.
ثانيـــــا : سيرة مفهوم Culture بعد ترجمته إلى اللغة العربية:
وهنا يرصد الكاتب ماأحدثته حركة الترجمة من خلط وتشويه، حيث تم اختيار كلمة عربية نزعت من جذورها وسياقها، لتعبر عن ألفاظ أجنبية، أتت بكل دلالاتها وجذورها وجوانبها المنظورة وغير المنظورة، بحيث لم يعد موجودا من المفهوم العربى غير لفظه، وتم ذلك نتيجة استبعاد المصادر العربية والإسلامية من الأطر المرجعية للباحثين وقد أدى ذلك كله إلى حدوث نوع من الاضطراب فى معانى المفهوم ، فأحيانا تترجم Culture إلى ثقافة ؛ ورائد هذا الاتجاه سلامة موسى ؛ الذى اقتفى اثر المدرسة الألمانية باعتبار Culture تتعلق بالأمور الذهنية ؛ أما civilization التى أسماها حضارة فتتعلق بالأمور المادية.
أما الاتجاه الآخر فيترجم Culture على أنها حضارة ؛ ويلاحظ أن من أخذ بهذا الاتجاه عندما يتعرض للفظ الأوروبى civilization يطلق عليه مدنية، وفى كل الأحوال فإن التعريفات المقدمة والدلالات الراسخة فى الذهن هى نفس مدلولات المفهوم الأوروبى المترجم ؛وليس الجذر العربى لهذه الألفاظ أودلالاتها فى الفكر العربى مما أدى الى ظهور الاتجاهات التى تدعو لنقل وغرس ثقافة الغرب بما يتضمن ذلك من ضرورة الانتشار الثقافى والتثاقف لأن تاريخ البشرية يسير فى خط صاعد متقدم ، متجاوزة بصفة دائمة كل قديم ، والذى يحمل دائما قيمة فجة سلبية .
ثالثــــــا: الدلالة العربية لمفهوم الثقافة
يقوم الباحث بتأصيل المفهوم بالرجوع إلى المعاجم والقواميس القديمة ، تفاديا للإسقاطات الغربية على اللفظ العربى ، كما استخدام فى القرنيين الأخيرين، وهو ماتفتقده معظم المعاجم والدراسات حيث تقدم المعانى المشتقة من الجذر اللغوى للمفهوم ، ثم تقفز للمعانى الأوروبية ، دون أن تعنى بتحليل الدلالات الأصلية ، وما يمكن أن يستنبط منها.
وباستقراء الدلالات الأصلية لمفهوم الثقافة يحدد الباحث ستة أبعاد للمفهوم تدور حول:
أنه مفهوم نابع من الذات الإنسانية، لايغرس من الخارج كما يعنى البحث والظفر بكل القيم التى تصلح - ولاتفسد – الوجود الإنسانى وتهديه، ويركز على مايحتاجه الإنسان طبقا لظروف بيئته ومجتمعه، فهو مرتبط بالنمط المجتمعى الذى يعيش الانسان فى ظله دون اللجوء لمقياس معيارى من ثقافة أخرى ، كما إنه عملية متجددة لا تنتهى بالوصول لدرجة معينة على الآخرين أن يبلغوها. إنه مفهوم لايصنع أحكاما قيمية حول نوعية الثقافة، وكل الثقافات – من منطلق مفهوم التهذيب - طبقا لقيم مجتماعاتنا وظروفها على نفس الدرجة من القيمة الإنسانية وفى النهاية هو مفهوم عام يشتمل على جميع أنواع الممارسة الإنسانية، ومختلف درجاتها ، طالما تحقق مطلق التقويم .
رابعـــــــا: تأصيل مفهوم civilization فى دلالته الأصلية
ويرد الباحث الكلمة إلى جذرها اللاتينى CIVITIS بمعنى مدينة ، أو CIVIS أى " ساكن المدينة " CITIZEN وهو ما يعرف به المواطن الرومانى المتعالى على البربرى ، ومع ذلك لم يستقر استعمال civilization إلا فى أواخر القرن الثامن عشر ، حيث كان يستخدم بدلا منها CIVILTY التى تعبر عن ازدراء الرجل المدنى للحضر "
ولما كان مفهوم المدينة يمثل جوهر مفهوم civilization – فلم تزل دلالات المدينة راسخة ومحددة ولهذا المفهوم برغم أنه تطور وأخذ مدلولات أخرى إضافية- فإن الباحث يعرض لتطور المدينة فى الغرب ، خاصة فى المرحلتين الأخيرتين مرحلة " المدينة الصناعية " التى أصبحت موطن الاقتصاد الرأسمالى بكل توابعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على حساب الريف ومرحلة " المتربوليتان" ففى عصر التوسع الرأسمالى والشركات عابرة القارات والمنظمات الدولية ظهر نمط " المدينة بعد الصناعية " الذى أوجد علاقات تبعية بين المركز (المدينة الأوروبية الكبرى) والهامش ومدن العالم الثالث: المركز هو القيادة والتوجيه معرفيا وعلميا وسياسيا واقتصاديا وسلوكيا، بل وقبلة عقائدية بالمعنى العام للعقيدة ومن ثم تكرر نمط أثينا المدينة المتروبول فى العصر الإغريقى.
ثم يتساءل الكاتب عن العلاقة بين المفهوم وجذره اللغوى وحقيقة مضمونه ويعرض وصولا للإجابة عددا من التعريفات التى تبرز التداخل الكبير فى تناول الفكر الاوروبى لمفهوم civilization فهناك من رآه مقصورا على نواحى التقدم المادى فى حين يراه آخرون شاملا كل أبعاد التقدم وهناك من يرى أنها تشمل الفرد والجماعة لكن فى النهاية يبقى مفهوم civilization فى جوهره يعنى خلاصة تطور نمط الحياة الأوروبى بكل أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاعتقادية الخ باعتباره قمة التطور البشرى على حين ينظر للمجتمعات الاخرى وفقا لهذا التصور على أنها فى مرحلة دنيا للمدينة الحديثة الاوروبية والتى أصبحت تمثل فى أحد أبعادها صفة تعاكس صفة الدينية سواء فى القانون أواجتماع طبقا لتطور المدينة الغربية .
خامسا سيرة مفهوم civilization بعد ترجمته الى اللغة العربية:
انقسم الفكر العربى إلى اتجاهين فى ترجمته إلى حضارة وإن كان لكل اتجاه منهما سند لغوى عربى يستند اليه إلا إن كلا اللفظين أصبح يوضع بإزاء معانى ودلالات المفهوم الأوروبي .
وقد ظهر الاتجاه الأول مع بداية الاتصال بالغرب؛ واستمر لفظ المدينة سائدا حتى أوائل القرن العشرين سواء باعتباره الاجتماع البشرى الذى هو أخص من العمران، أو بربطه بالمرأة وتحررها أو كوصف للدولة المسالمة أو فى سياق ترجمات كتب القانون، وووضع الظواهر المادية فى حياة المجتمع مقابل مفهوم Cultureالذى يدل على الظواهر الثقافية والمعنوية، وفى الفترة الأخيرة ساد اضطراب واضح فى استخدام لفظ المدنية ، وبدأ كل كاتب يحاول اختلاق تعريف أو ترتيب علاقات من نوع معين ، فهناك من يراها نسقا وسيطا بين الثقافات المتعددة ، وهناك من يقصرها على العلوم الطبيعية ، وهناك من يطلقها كلفظ جذاب، أو كصفة جيدة للأشياء دون فهم أبعادها.
أما الاتجاه الآخر فهو يترجم مفهوم civilization إلي حضارة، وقد شاع منذ الثلاثينات، وبرز في كتابات د. محمد حسين هيكل الذي أعطي مفهوم الحضارة معني شموليا، فرأي أن الحضارة العالمية واحدة ، وهي القائمة في أوروبا , وعلي هذا الفهم للحضارة قامت معظم الكتابات في مصر والعالم العربي، ويلاحظ أنها تورد الأصل العربي للكلمة ثم تنتقل للمعني الأوروبي لها مباشرة ، ومن ثم كان الحديث عن عالمية العلم وعالمية المنهج ؛ إذ أن الحضارة عالمية والمدنية عالمية .
ثم يشير الكاتب إلي اضطراب الفكر العربي عند تعامله مع مفهوم culture ،civilization فمن ترجم culture إلي ثقافة ترجم civilization إلي حضارة ومن ترجم culture إلي حضارة ترجم civilization إلى مدنية، وفي كل حالة يختلف تعريف المفهوم العربي عن الآخر.
سادسا: الدلالة العربية لمفهوم المدنية
يختلف الباحثون حول تحديد الجذر اللغوي لكلمة المدينة فيرجعها البعض إلى مدن بمعنى أقام في المكان ويرجعها آخرون إلى دان بمعنى خضع وأطاع وهي جذر مفهوم الدين وأياً كان مصدر الكلمة فإن الباحث يؤكد أنه
- إذا كانت المدينة في الغرب مصدراً ومنبعاً لقيم التهذيب والنظام والإنتاج تلى ظهورها هذا النمط الحياتي الذي يعتبره الأوربيون نمطاً راقياً للحياة البشرية فإن المدينة في الخبرة الإسلامية هي نتيجة النموذج الإسلامي للحياة الإنسانية النابعة من العقيدة الإسلامية
- كما أن المدينة الإسلامية بدأت بما انتهت إليه المدينة الغربية (مرحلة المتروبوليتان) الذي لم تشهده أوربا الحديثة إلا كمرحلة أخيرة لتطورها إبان مرحلة البغي (الاستعمار) أما الخبرة الإسلامية فقد شهدت مفهوم الحاضرة وليس فقط منذ ظهور المدينة الإسلامية.
إذا كانت المدينة قد قادت التطور الأوربي وقدمت نسقاً يستأهل النسبة إليه باعتباره نموذجاً راقياً فإن الخبرة الإسلامية لم تكن كذلك حيث كل القيم نابعة من العقيدة المنزلة وبرغم ظهور المدينة الإسلامية على أفضل صورها منذ البعثة إلا أن مفهوم " المدنية " لم يظهر وعندما استخدم ابن خلدون لفظ الحضارة – المدنية كان يشير إلى طور غير مفضل لديه، وغير وظيفى فى حياة البشر، طور يمثل مرحلة انهيار العمران البشرى بما فيه من ترف .
سابعا: حول تعريف مفهوم الحضارة:
وهنا يعتمد الكاتب منهجا للتعريف يقوم على الرجوع إلى جذور المفهوم فى لغته ، وتنبع دلالته فى مصادرها الأساسية، ومحاولة تجريد تلك الدلالات من ظلال الزمان والمكان، ثم إعادة دمجها فى الواقع المعاصر، دون الافتئات على ماهية المفهوم وجوهره، بل صقله وتنقيته من الشوائب، وصولا إلى المعنى الحقيقى المجرد من خصوصيات الاستعمال التاريخى .
ويؤكد الكاتب ان ابن خلدون لم يكن يتحدث عن مفهوم الحضارة كمفهوم كلى شامل ، يواطئ الحركة البشرية ، ويلقى عليها بصفات قيمية معينة ، انما استخدمه بصورة تتسق تماما مع بنائه الفكرى فى " المقدمة "، ومن هنا كان قصور من رجع الى استخدام ابن خلدون للمفهوم، واقتصر عليه، فكان رجوعه استظهاريا تسويقيا وليس بحثا عن حقيقة المفهوم، فابن منظور يورد سبعة استخدامات للكلمة، واحد منها فقط بمعنى الحضر بخلاف الاستخدامات الاشتقاقية.
وانطلاقا من الجذر اللغوى " حضر " بمعنى شهد ، ومن الدلالات القرآنية لهذا المفهوم – يعرف الباحث الحضارة بأنها: الحضور والشهادة بجميع معانيها التى ينتج عنها نموذج إنسانى يستطبن قيم التوحيد والربوبية .. ومن ثم فإن دور الإنسان ورسالته هى تحقيق الخلافة عن خالق هذا الكون فى تعمير أرضه .. وكذلك إقامة علاقة مع بنى الإنسان فى كل مكان أساسها الأخوة والألفة وحب الخير، والدعوة الى سعادة الدنيا والآخرة .
ولكن هذا يثير التساؤل حول الخبرات البشرية الأخرى خارج إطار الاسلام: هل ينطبق التعريف عليها وهى لم تؤمن بالإسلام فنخرجها عن دائرة الحضارة – كما يفعل المنظور الأوروبى؟ أم أن هذا التعريف مغلف بالخصوصية، ولايمكن تعديته إلى الخبرات الأخرى ؟ يجيب الباحث بأن المفهوم السابق يشير الى حضارة الإسلام ، أو حضور الإسلام فى الكون دون أن يعنى أنه نموذج حضور جميع الخبرات الأخرى، ومن ثم فإن مفهوم الحضارة بمعناه العام هو مطلق " الحضور ".
ويشير مفهوم الحضارة الى مرحلة متقدمة فى تجربة أى مجتمع ، لا يقف عند مجرد الوجود، أى مجرد قيام العمران فقط، ويتطلب ذلك تحقيق خمسة أبعاد :
1- وجود نسق عقائدى يحدد طبيعة العلاقة مع عالم الغيب .
2- وجود بناء فكرى وسلوكى يشكل نمط القيم السائدة والأخلاقيات العامة والأعراف .
3- وجود نمط مادى يشمل المبتكرات والآلات والمؤسسات والنظم .. وجميع الأبعاد المادية فى الحياة .
4- تحديد نمط العلاقة مع الكون ومسخراته وقواعده، وقيم التعامل مع هذه المسخرات .
5- تحديد نمط العلاقة مع الآخر – أى المجتمعات الأخرى – وأسس وقواعد التعامل معها، وبالتالى لايحمل مفهوم الحضارة بعدا قيميا، فقد تكون الحضارة مدمرة أو سيئة، فالحضارة لفظ محايد يختلف باختلاف نموذج الحضور ومكوناته ، كما أن المفهوم بهذا المعنى يعطى كل تجربة حضارية تميزها وخصوصياتها، ولايعطى مجالا لجعل علوم ومناهج الحضارة الغالبة علوما عالمية، تذرعا بوحدة الحضارة ووحدة الأصل الإنسانى .
ثم يختم الباحث بطرح منهجه الذى استخدمه فى هذا البحث بأعتباره منهجا ملائما لدراسة مثل هذه المفاهيم ذات الطبيعة الخاصة، من حيث كونها لا تعبر عن حقيقة شرعية، والتي لم تكن متداولة بكثرة فى التراث العربى الإسلامى ، ويحدد معالم هذا المنهج فى الخطوات الآتية:
- البحث عن دلالات المفهوم فى لغته الأصلية التى صك منها ، ومن ثم الوصول الى تجريد للمفهوم يعبر عن حقيقته وجوهره ، بعيدا عن التباسه بخبرات أو دلالات لحقت به فى تطوره.
- تتبع تطور المفهوم فى بيئته الأصلية ، وكيف تم سحبه من معانيه اللغوية الى معان اصطلاحية معينة ؟ وهل هناك اتساق بين الاثنين، أم ان المفهوم تجاوز تماما الدلالات اللغوية، وحمل بدلالات أخرى ؟
- التركيز على واقعية التوجيه واختبار مقابل عربى لهذا المفهوم ، وهل تمت ترجمة للمعانى والدلالات أم للفظ فى معناه الظاهر فقط ؟
- تتبع تطور المفهوم فى الفكر العربى التالى لترجمته، ومدى التغيير الذى لحق باللفظ، وهل ظل اللفظ العربى محافظا على دلالات المفهوم الأجنبى، أم الدلالات الأصلية له فى اللغة العربية، أم أحدث مزيجا منها ؟
- العودة للدلالات العربية الأصلية للمفهوم العربى، الذى وضع كمقابل للمفهوم الأجنبى وتوضح المعانى والدلالات الحقيقية له، ومقارنتها بدلالاته المعاصرة التى هى نفس دلالات المفهوم الأجنبى، وصولا الى المعانى والدلالات الأصلية للمفهوم العربى.
ويتوافق هذا الطرح مع رؤية بقية الفريق البحثي لأهمية عملية بناء المفاهيم الاسلامية واتفاقهم على ومنطلقاتها وخطوطها العريضة برغم تنوع خلفيات الباحثين الأكاديمية، فمن حيث الاهداف حددت الأبحاث أهدافها من عملية بناء المفاهيم فى :
_ إبراز هوية وتمايز منظومة المفاهيم الاسلامية أما من حيث المنطلقات فقد انطلقت جميعها من نظرة ترى ان المفاهيم الاسلامية تستمد من مصدر ثابت مستقل يتصف بالعموم والشمول هو الوحى قرآنا وسنة .
_ان المفاهيم الاسلامية بارتكازها على العقيدة تشكل منظومة مفاهيم تتساند وتتكامل فهى منظومة مفاهيم حضارية متمايزة ازاء مفاهيم الحضارات الاخرى.
_ ان المفاهيم الاسلامية على الرغم من ثباتها واستقلالها وتميزها عن الواقع إلا أنها واقعية تعتبر الواقع الذى يشكل عطاءها المستمر والمتجدد وتستجيب نظاميا وحركيا لتحدياته ؛فهذه المفاهيم ان كانت تستقل عن الواقع بناء فهى لا تستقل عنه تعاملا.
وبالنسبة لاطار عملية بناء المفاهيم استقر الفريق البحثى على عشرة خطوات لبناء المفاهيم هى :
1- المفهوم فى اللغة العربية .
2- المفهوم فى اللغة والادبيات غير العربية .
3- سيرة المفهوم تطورا وتاريخيا ومآلا.
4- ترجمة المفهوم ونقله الى العربية متى ترجم؟ وكيف ؟,,
5- البديل الخاص بالمفهوم فى الرؤية الاسلامية.
6- منظومة المفاهيم المرتبطة بالمفهوم وموقع المفهوم فى خريطة المفاهيم.
7- كيفية تشغيل المفهوم فى النسق المعرفى بالضافة الى الواقع العملى.
8- مستويات المفهوم المتعددة وآثارها فى عملية التشغيل.
9- خبرة بناء المفهوم.
10-قائمة ببليوجرافية بأهم المراجع .
عرض : عبدالله جاد محمد
وباعتبار الطبيعة الخاصة لهذه المفاهيم الثلاثة كمافهيم لا تعبر عن حقيقة شرعية ولم تكن مستدولة بكثرة فى التراث العربى الاسلامى فان الباحث يقترح منهجا خاصا لها تتمثل خطواته فى :
السبحث عن دلالات المفهوم فى لغتعه الاصلية التى صك منها وحمل بدلالاتها ومعاينتها ومن ثم الوصول الة تجريد للمفهوم يعبر عن حقيقته وجوهره .
تتبع تطور المفهوم فى بيته الاصلية وكيف تم سحبه من معانيه اللغوية الى معان اصطلاحية معينة وهل ثمة اتساق بين الاثني ؟
التركيز على واقعة الترجمة واختيار مفابل عربى لهذا المفهوم وهل تمت ترجمة المعانى والالات ام ترجمة اللقظ فى معناه الظاهر فقط ؟
تتبع تطور المقهوم فى الفكر العربى التالى لترجمة المقهوم ومدى التغير الذى لحق به وهل كان اثرا لدلالات المفهوم الاجنبى ؟
مقارنة الدلالات الاصلية للمفهوم العربى المقابل للمفهوم الاجنبى بالدلالات المعاصرة لهذا المفهوم تمهيدا لمحاولة اعادة تعريف المفهوم بصورة تحقق له الوضوح والتجديد فيستعيد وظيفته فى التواصل الفكرى ونقل الدلالات والمعانى .
دعوةلبناء المفاهيم لتحقيق التواصل وتعزيز الحوار :
مقتضيات العلم وضرورات التواصل والحوار
عملية بناء المفاهيم من أهم عمليات تأسيس المعرفة العلمية، فالمفاهيم هى اللبنات التى نبنى بها صروحنا النظرية والفكرية؛ فإن لم تستوف هذه المفاهيم شروط تحديدها وصياغتها هوت النظريات المؤسسة عليها هشيما تذروه الرياح، واذا كان لنا أن نستعير من علم الاقتصاد فإن موقع المفاهيم فى عالم الفكر أقرب ما يكون الى النقود فى النظام الاقتصادى، فالمفاهيم مستودع للقيمة ووسيط للتبادل الفكرى فإذا لم تنضبط هذه المفاهيم ساد التشوش عالم الفكر وتقطعت قنوات الاتصال، وكما تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة، فإن المفاهيم المغشوشة قد تنازع المفاهيم السليمة فى التداول والاستعمال لتصبح المفاهيم الحضارية أحيانأ مفاهيم مخذولة بتعبير مالك بن بنى، وتظل حاملة عناصر قوتها فى انتظار من يبعثها من عالم الإمكان إلى عالم الفعل.
ومبحث المفاهيم مبحث قديم توافرت عليه حقول معرفية عدة على رأسها الفلسفة والمنطق وعلم والنفس حتى إن البعض يشير إلى هذا المبحث باسم علم المفاهيم Concepto1ogy ومع ذلك لم يول هذا المبحث – فى حدود ما نعلم – ما يليق به من اهتمام فى الفكر العربى المعاصر، ولم تتعد الدراسات فيه تقرير أصوله النظرية دون أن تتطرق إلى عملية بناء المفاهيم كعملية حركية (دينامية ) ترتبط بحركة الأفكار والتدافع حولها ومن ثم جاء هذا الكتاب الذى بين أيدينا ليحاول أن يسد ثلمة فى هذا الباب، وأن يقدم رؤية تسعى لأن تكون متكاملة لعملية بناء المفاهيم، وأحد أوجه هذا السعى تنوع تخصصات واهتمامات أفراد الفريق البحثى الذى أعد الكتاب، وفى الوقت نفسه كان الكتاب ثمرة عملية شورى بحثية مستمرة بين الباحثين المساهمين فيه تلاقحت فيها الأفكار وتكاملت الرؤى.
يقع الكتاب فى جزئين: يتناول الجزء الأول قضية بناء المفاهيم وأطرها النظرية والخطوات العملية لتطبيقها كما يتناول بعض المفاهيم المركزية فى هذا الإطار النظرى ويقوم بتحريرها وفق مقتضيات قيامها بوظيفتها كمفاهيم منظومة أو مفاهيم تستدعى وترتبط بشبكة من المفاهيم الفرعية التى تلقى عليها بعضا من دلالاتها ومن هذه المفاهيم المركزية: المعرفة، والعلم، والفكر، والتجديد والحضارة،أما الجزء الثانى فيعرض نماذج تطبيقية لبناء المفاهيم وفق هذا الإطار النظرى.
ويضع د. طه العلوانى مشكلة المفاهيم فى سياقها الحضارى العام باعتبار أن حال المفاهيم تعبير عن طبيعة المرحلة الحضارية التى تمر بها الأمة حيث تظهر أعراض الانحطاط أول ما تظهر على مفاهيم الأمة فتعتريها الميوعة والغموض فتقع فى الإجمال والإبهام وتتأثر بذلك سائر العمليات المعرفية الأخرى، ومن ثم تغيب إمكانات الحوار المشترك بين عقول الأمة وتضعف قدرات التقويم والنقد ( ص 8 ) وعليه تضعف مناعة الأمة الفكرية وتصبح المفاهيم حمى مستباحًا من المفاهيم الوافدة.
ولما كانت مشكلة المفاهيم على هذا النحو من الأهمية فقد تضافرت البحوث الستة التالية لتحديد أبعاد المشكلة والتركيز على معالجة جانب أو آخر من جوانبها فيقوم د. على جمعة فى بحثه " مدخل لقضية المفاهيم والمصطلحات" ببيان ارتباط المفاهيم بالمرجعية عمومًا وبالمرجعية الإسلامية خصوصًا من حيث رؤية الإنسان ووظيفته فى الكون وتداعيات ذلك على تحصيله للمعرفة، سواء عن طريق قراءته للواقع أو الوحى وضوابط هاتين القراءتين والجمع بينهما.
وفى هذا السياق يعرض د. سيف الدين عبد الفتاح فى بحثه " بناء المفاهيم ضرورة منهجية" محددات العلاقة بين المفاهيم ومرجعيتها الإسلامية ويوجزها فى ثلاث محددات أولها أن العقيدة هى قاعدة بناء المفاهيم فمنها تنبثق وإليها تعود أخذا فى الاعتبار أن العقيدة تجمع الى البناء الفكرى أبعادا حركية متعددة بما يؤكد ارتباط العمل الصالح بالكلمة الطيبة. وثانى هذه المحددات أن اللغة أداة البيان فهى تعبير عن حقيقة حضارية بما يوجبه ذلك من ضرورة حفاظ الأمة على خصوصيتها المعرفية، أما المحدد الثالث فهو أن الوحى – قرآنا وسنة – هو المصدر الأساسى لبناء المفاهيم وعلى ضوء هذا الارتباط بين المفاهيم ومرجعيتها الحضارية يعود د . يوسف عبد الفتاح فى بحث " مقدمات أساسية حول عملية بناء المفاهيم " لبيان أهمية تحديد هوية المفهوم من حيث مرجعيته ومصدريته ومقاصد بنائه ومن ثم تحديد موقعة من منظومة المفاهيم الوسائل والمفاهيم المشتقة والمفاهيم الفرعية ... وبناء على هذا التحديد يمكن اتخاذ موقف من المفهوم من خلال عملية النقد والمراجعة وإعادة البناء وفق أولويات ومقاصد متعددة حسب طبيعة المفهوم.
ويقدم الكاتب رؤية لثلاث محاولات لتبديد المفاهيم سواء بدعوى التجديد اللغوى عند حسن حنفى، أو استغلال منطقة العفو على أنها دائرة فراغ مفاهيمى تمهيدًا لإقصاء الدين ومفاهيم عن الحياة أو اختزال المفاهيم الى مؤشرات إجرائية .
واذا كان د . على جمعة قد تطرق إلى مسألة الوضع أو عملية جعل اللفظ إزاء المعنى وأنواع الوضع ومستوياته فان بحث د. صلاح اسماعيل " توضيح المفاهيم ضرورة معرفية " يقدم تأصيلا نظريا لقضية المفاهيم فيحدد معنى المفهوم ووظائفه متوقفا عند مشكلة المعنى وما يرتبط بها من إشكالات توضيح المفاهيم وعوائق هذا التوضيح سواء بتحريف المعنى وتشوية دلالات المفهوم فى منظومته الحضارية بما يعبر عنه بالحراك المفاهيمى حيث يجرى تهميش المفاهيم المركزية وإبدال مفاهيم فرعية بها ويطرح البحث تحليل بنية المفهوم كآلية لتجلية المفهوم من خلال تحديد عناصره الأساسية والفرعية، وتمييز المعانى الجوهرية للمفهوم من معانيه الإضافية وتحديد العلاقة بين المفهوم كما هو فى الذهن وبنية المفهوم فى اللغة واللسان ومن ثم تظهر الدلالات الأصلية والمكتسبة للمفهوم وتنازع هذه الدلالات وأثرة على المفهوم.
ويتناول بحث د. يوسف عبد الفتاح " بناء المفاهيم الإسلامية ضرورة من منهاجية " وبحث د. إبراهيم البيومى غانم "السياق التاريخى و المفاهيم " العلاقة بين الخبرة والمفهوم. والمقصود بالخبرة هنا الخبرة فى مفهومها الشامل الذى يشمل زمنيًا الخبرة التاريخية وخبرة الواقع المعاش وحضاريًا الخبرة الاسلامية والخبرة الغربية وبها المعنى ارتبطت الخبرة بعدة تحيزات أثرت على بناء المفاهيم فبالنسبة للخبرة التاريخية اتخذ التشويه المفاهيمى آليتين تتمثلان فى تحكيم المارسات التاريخية المنحرفة فى النموذج الإسلامى والاستدلال بطول أمد هذه الممارسات قياسا إلى فترة الخلافة الراشدة على فاعلية الفكرة فى الواقع (ص 92) وإسقاط الخبرة التاريخية على المفهوم مما يجعلها جزءا منه الأمر الذى يبدو بوضوح فى مفهوم البيعة ومفهوم الطاعة. أما فيما يتصل بالخبرة الغربية فإن التعامل غير القويم مع هذه الخبرة خارج إطار الحوار والاعتبار الحضارى أدى لتحكيم الخبرة الغربية بما لها من خصوصية فى المفاهيم الإسلامية، ووصل الأمر الى استخدام مفاهيم متجذرة فى الخبرة الغربية بالغة الخصوصية للدلالة على المعانى الإسلامية فى حين أدى اعتبار الواقع أساسا لبناء المفاهيم وتطويرها أو حتى اختفاءها إلى إعلاء جانب الواقع برغم ما قد يكون عليه من انحراف .
وعليه يحاول د. ابراهيم البيومى رصد العلاقة الجدلية بين المفاهيم وسياقها التاريخى من خلال تتبع مفاهيم معينة كالعروبة والأمة والوطن والقومية محددا بعض قنوات العلاقة بين المفاهيم والسياق التاريخى كالبعثات الدراسية والنظام التعليمى والصحافة والنشر والترجمة التى يعرض لها د. أسامة القفاش فى بحث مستقبل مميزا بين الترجمة فى طور الإيناع الحضارى أو الترجمة من منطلق إعادة الانتاج فى اطار اللحظة الحضارية المحققة، والترجمة إبان المواجهة بين المسلمين وقوى البغى ( الاستعمار) موضحا كيف قام الأجداد باشتقاق اللفظ دفاعا عن الأصل وأهمية المشروع الحضارى بشكل عام لترجمات جميلة وسائغة، ثم الترجمة بعد تراكم الهزائم والتسليم بها حتى أصبحت الترجمة تعبيرا أمثل عن عقلية الوهن وذهنية التبعية وفى هذه المراحل اهتم الباحث ببيان آليات الترجمة والنقل والتعريب وكيفية انتقال الكلمات والمفاهيم عبر اللغات ومدى تأثرقيمتها الدلالية بهذا الانتقال وكيف تم البحث عن المقابل فى لغتنا وينتهى الباحث الى تأيد ما لا حظه د. نصر عارف من أن عملية الترجمة ونقل المفاهيم أفرزت عددا من الظواهر الخطرة منها:
1- استبدال المفهوم الاسلامى بمفهوم آخر غريب فى المبنى والمعنى.
2- تلبيس المفاهيم الاسلامية باخراجها عن معانيها واعطائها مضامين ومعان نابعة من الخبرة الاوروبية ليس لها جذور فى التراث الاسلامى.
3- استبعاد المفاهيم الإسلامية على أساس أنها مفاهيم لا علمية برغم أنها مفاهيم محورية فى البناء المعرفى الإسلامى.
ويعالج أ. هشام جعفر فى بحثه " بناء المفاهيم بين التقويض والتشغيل" عمليتين من أهم عمليات بناء المفاهيم وهى التفكيك بمعنى التعامل النقدى مع المفاهيم وبالأخص المفاهيم الوافدة من خلال تحديد منهج تلقيها وبيان تحيزاتها والتواصل الفعال معها، ثم يأتى منهج التقويض وهو بالأساس عملية استخلاص المفاهيم وتنقيتها مما تعرضت له من عمليات التلبيس والتشويه وطمس الدلالات ويجرى تقويض المفاهيم سواء من جهة الإطار المرجعى والمصدر المعرفى أو التقويض من جهة الدلالة أو التقويض من خلال الإسقاطات التاريخية والمعاصرة على المفاهيم ولكل جانب من هذه الجوانب آلياته الخاصة. أما فى المجال تشغيل المفاهيم فيناقش البحث محددات هذا التشغيل التى يجملها فى خمس محددات هى: الواقع بمستوياته المختلفة، والسلطة فى أوسع معانيها لتشمل السلطة السياسية والسلطة المعرفية وسلطة النص، ورؤية المفاهيم فى إطار المفاهيم الحاكمة ونوعية المفهوم بمعنى هل هو مفهوم تنظير أم مفهوم تحليل أم مفهوم تصنيف؟ وعلاقة المفهوم بالجمهور المتلقى له. ويتم هذا التشغيل من خلال العديد من الأدوات والقنوات من أهمها التعليم ومراكز لبحث العلمى والفنون والترجمة ووسائل الإعلام والاتصال وبنوك المفاهيم ودورياتها .
وكان من الطبيعى أن يأتى مفهوم المعرفة فى مقدمة المفاهيم المحورية التى تناولها الكتاب كنماذج تطبيقية لما له من طبيعة تأسيسية بحيث تنعكس دلالاته وآثاره على مجمل منظومة المفاهيم فى المنظور المعرفى أو الباردايم الذى يقع فى إطاره. ومن ثم حدد الباحث د.صلاح اسماعيل مفهوم المعرفة لغة واصطلاحا كمقدمة لرصد دقيق وموضوعى - وإن كان موجزا - لبنية مفهوم المعرفة فى الفكرين الغربى والاسلامى من خلال قضايا من قبيل: إمكان المعرفة ومصادرها والتحليل المنطقى لها ومع أهمية البحث وما انطوى عليه من نظرة مقارنة بين المعرفة فى التصور الغربى والتصور الاسلامى فإن فائدته كانت ستكتمل لو أضيف إليه أثر مفهوم المعرفة فى بنيته الحالية على منظومة المفاهيم الأخرى وكيف يمكن أن تفيد منه في عملية اعادة بنائها.
ويرتبط بمفهوم المعرفة مفهوم "الفكر" الذى تناوله د.على جمعة فى بحثه مبينا مفهوم الفكر عند المسلمين وبدأ به فى اللغة أولا ثم فى استعمال المسلمين له والذى جاء متفقًا مع المقصود القرآنى له ثم قارن مفهوم الفكر هذا مع معناه فى اللغات الاخرى إضافة إلى مقارنة مفهومه فيها مع مفهومه عند المسلمين وأتبع ذلك ببيان مفهوم الفكر فى حياتنا الثقافية وكيف أدى الاتصال بالحضارة الغربية وما صحبه من ترجمة الى تغير فى مدلول هذا المفهوم من جهة اتساعه في جانب وتخصيصه في جانب آخر.
و ولكا كان مفهوم "العلم" يشكل مع مفهوم المعرفة والفكر ثلاثية المفاهيم المحورية فى عملية بناء المفاهيم فإن د.على جمعة يعرض بالطريقة نفسها مفهوم العلم عند المسلمين وعلاقته بالمعرفة مقارنا بينه وبين مفهوم العلم عند المحدثين الغربيين من خلال التعريفات المعجمية له وتتبع تطور دلالات المفهوم تاريخيا ليخلص الباحث الى تأثر أكثر مثقفينا بالمفهوم الغربى للعلم حتى إن البعض يقصر كلمة العلماء على المشتغلين بعلوم التجريب فقط وحتى أصبح الخارج عن نطاق الحس خارجا عن نطاق العلم في منظوره الإسلامى، بالإضافة إلى بيان طرق التعليم كما وردت فى الأصول المنزلة، ومن ثم أدى اختلاف مفهوم العلم ومصادره وطرقه إلى تصنيف متميز ومختلف للعلوم فى الفكر الاسلامى عنه فى الفكر الغربى.
وعلى الرغم من أن مفهوم التجديد يعد أحد المفاهيم الكلية فى المنظومة الاسلامية فإنه كان من أكثر المفاهيم التى تنازعتها التيارات الفكرية وانعكس هذا على المفهوم ذاته من حيث معناه ودلالته، ومن هنا تاتى أهمية الدراسة التى قدمها د. سيف عبد الفتاح لهذا المفهوم حيث قام بمراجعة منظومة المفاهيم النظرية والحركية المتعلقة بالتجديد مثل الأصالة والجديد والقديم والمعاصرة والعصرية والتقليدية والتقدم والرجعية والتغريب والتقليد والاجتهاد والإصلاح والتحديث والنهضة ..............الخ وهذه المفاهيم تعبر عن أحد جوانب التجديد أو أحد أدواته أو يختلط بعضها بهذا المفهوم خاصة تلك المفاهيم النابعة من الحضارة الغربية، ثم يشرع البحث فى إعادة بناء المفهوم من خلال محاولة تحديده فى اللغة والأصول المنرلة ( القرآن والسنة ) التى تقدم رؤية متكملة لعملية التجديد لها أسسها وقواعدها المنهجية، وإدركًا لأهمية الربط بين فكرة التحديد والنسق المعرفى وما يضيفه هذا الربط من أبعاد جديدة فى التناول والتحليل تثرى الرؤية المقارنة فإن الباحث يقوم بدراسة هذه العلاقة فى الخبرتين الغربية والإسلامية ليخلص إلى أن النسق المعرفى الاسلامى بعتباره محصلة تفاعل بين كتاب الوحى وكتاب الكون كمصدرين للمعرفة أدى الى تميز مفهوم التجديد بينما عانى النسق المعرفى الغربى من أثر خبرة الصراع الحاد بين الكنيسة من جانب وسلطة المعرفة والعلم من جانب آخر .
ويدعو د . نصر عارف فى بحثه " الحضارة " ....الثقافة ... المدينة .. دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم " لإنهاء فوضي المفاهيم التي نعيشها، من خلال تقديم نماذج لبناء المفاهيم تخلص البناء المفاهيمى العربى المعاصر مما أصابه من تشويه وعدم تحديد وخلط للدلالات والمعانى، بما أفقد الكلمات ما هيتها ودورها كوسيلة للتواصل الفكرى والحوار، إذ لم تعد الألفاظ بإزاء معان محددة، وإنما يختلف المعني والدلالة من ذهن لأخر، فأدي ذلك الي ما نعانيه في واقعنا الثقافي من اهدار للطاقات الفكرية في تكرار مناقشة القضايا ذاتها بعض مضي عقود من الزمان علي إثارتها مثل : قضية المرأة، وأهل الذمة، والعلاقة بين الدين والسياسة، أو بين العلم والدين، أو الأصالة والمعاصرة ..الخ
ويرصد الباحث نصر عارف واقع هذا التشوية من خلال عرضه لمفهوم الحضارة، ثم يقوم بمحاولة لتأصيل المفهوم من خلال عدد من الخطوات التي تمثل نموذجا لبناء هذه النوعية من المفاهيم داعيا الي تقديم نماذج اخري لاعادة بحث وتنقية المنظومة المفاهيمية الحالية تتنوع حسب تنوع مستويات المفاهيم ومدي ما أصابها من خلط وتشويه.
فعلي الرغم من أهمية مفهوم الحضارة سواء من حيث محوريته في الحركة الإنسانية: توصفها وتكييفا وبيانا لمقصدها ووجهتها، أو من حيث كونه المفهوم الأساس لكثير من العلوم الاجتماعية مثل: الأنثربولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس و التربية فإنه تعرض لعملية تشويه متواصلة ادت لتحولة لمجرد صفة ذات أبعاد قيمية تفتقد الماهيات والماصدقات بما اقترب به من مفاهيم مثل الحداثة والتقدم والرقي.
وإذا كان المفهوم علي هذا النحو من الأهمية والتشويه معاً يستنهض قيام دراسة جادة تجلي غموضه وتكشف عن جوهره وتستقصي دلالاته فإن الدراسات التي تعرضت لهذا المفهوم قدمت معاني متنافرة ومتعارضة للمفهوم صانعة بذلك ركاما علميا يخفي الدلالات الحقيقية للمفهوم، فلم يرجع أي من هذه الدراسات بصورة منهجية إلي أصوله اللغوية في المعاجم العربية لتحديد دلالته إنما اعتمدت علي واحد أو اثنين من هذه المصادر الثلاثة:
1- مفهوم الحضارة كما قدمه ابن خلدون باعتباره أول من أعطاه دلالات متكاملة كمفهوم مقابل للبداوة.
2- مفهومculture في اللغات الأوروبية .
3- مفهوم civilization في اللغات الأوروبية
ومن ثم توزعت دلالات المفهوم وطمس أغلبها التي ارتبطت بأصله ومصدره بما أدى إلي تشويه المفهوم تشويها أدي إلي إخراجه عن دلالاته الأصلية وتلبيسه بدلالات أخري لا يستوعبها جذره اللغوي، ولا يتسق مع أصوله ومصادره وبصورة أصبحنا لا نجد معها تعريفا واحدا للمفهوم لدي من تناولوه .
وفى سبيل تأصيل المفهوم قام الباحث بعدد من الخطوات :
أولا – تأصيل مفهوم culture فى دلالته الأصلية.
ثانيا : سيرة مفهوم culture بعد ترجمته الى اللغة العربية.
ثالثا : الدلالة العربية لمفهوم الثقافة
رابعا : تأصيل مفهوم civilization فى دلالته الأصلية.
خامسا : سيرة مفهوم civilization بعد ترجمته إلى اللغة العربية .
سادسا : الدلالة العربية لمفهوم " المدنية "
سابعا : حول إعادة تعريف مفهوم الحضارة.
اولا – تأصيل مفهوم culture فى دلالته الأصلية :
يعود الكاتب بالكلمة إلى جذرها اللغوى الذى يعنى " حراثة الأرض وزراعتها " ثم يعرض لعدد من التعريفات المختلفة للمفهوم، مستخلصا من مجملها المحددات العامة والمدلولات الأساسية له والتى تعطيه ماهيته، وتحدد جوهره ، وماصدقاته ، فهذا المفهوم تشعب فى مختلف العلوم الاجتماعية ، وأصبح مكونا أساسيا لعلم الأنثربولوجيا الاجتماعية ، والذى عليه تقوم افتراضات النظرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأوروبية حيث افتقد الإنسان الأوروبى – باعتماده النظرية النسبية ، ورفضه وجود الإله المسيطر – قاعدة يبدأ منها التفكير حول ذاته ، سواء كان هذا الانسان هيجل أو كيريجارد أو ماركس ، بما جعلهم جميعا يبحثون عن نقطة ثبات تقف عندها تطلعاتهم ، وتنطلق منها مقولاتهم، فوجودها فى الأنثربولوجيا التى تتخذ من مفهوم culture جوهرا أساسيا لمقولاتها وتحليلاتها، هذا وينطلق علم الأنثربولوجيا من ثلاث قواعد محورية هى :
التطــــورية : حيث يمكن تصنيف المجتمعات طبقا لمدى اقترابها أو ابتعادها عن culture السائدة فى المجتمع الأوروبى، الذى يمثل المرحلة الراقية فى تطور المجتمعات، ومن ثم ظهرت مفاهيم مثل التحديث واللحاق بالركب ومايسمى " بالانتشار الثقافى" أى انتقال الثقافة من المجتمع الأكثر رقيا إلى المجتمعات الأدنى تطورا ، وتحت هذا المعنى ظهرت مفاهيم مثل رسالة الرجل الأبيض و" التثاقف " أو المثقافة " Acculturation ، أى التغيير الثقافى نتيجة الاتصال بين الثقافات، ويرتبط ذلك بالبغى الأوروبى
( الاستعمار )
وطبقا لهذه القواعد الثلاث ، وانطلاقا منها برز مفهوم culture بنفس المعانى فى مختلف العلوم الاجتماعية، وتم تشكيل محتوياته طبقا لمعطيات الفكر الأوروبى وأيديولوجيتها ، فوجدت مفاهيم مثل Economic Culture Political culture واعتبرت قيم المجتمع الأوروبى ومعتقداته وأنماط سلوكه ومدركاته هى الأرقى دائما، أما المجتمعات الأخرى فهى تقليدية ورجعية، وإذا أرادت التقدم والتحديث فإن عليها أن تنقل نمط Culture الأوروبى وتنبذ موروثها التقليدى.
فهذه الكلمة تعبر عن طبيعة الإنسان الأوروبى من حيث هو إنسان الارض ، وعملية الزراعة لها دورها فى نفسيته وصياغة رموزه، لذا لم يكن غريبا إذا ماتعاظم إنتاج الفكر ، وبدأ غرس القيم الجديدة ، وحصد ثمار النهضة لم يكن غريباً أن يطلق الإنسان الأوروبى لفظه Culture على هذه العملية ، كما تعبر Culture عن مجمل السياسيات التى قام بها الأوروبى تجاه المجتمعات الأخرى، فهو قد حاول أن يزرع نمطه المجتمعى والمعيشى ، تمهيدا لحصاد ثمار هذه المجتمعات من عقول نيرة، وموارد اقتصادية ، ونظم سياسية تحقق مصالحه ، ونظم اجتماعية تتخذه مثالا.
ثانيـــــا : سيرة مفهوم Culture بعد ترجمته إلى اللغة العربية:
وهنا يرصد الكاتب ماأحدثته حركة الترجمة من خلط وتشويه، حيث تم اختيار كلمة عربية نزعت من جذورها وسياقها، لتعبر عن ألفاظ أجنبية، أتت بكل دلالاتها وجذورها وجوانبها المنظورة وغير المنظورة، بحيث لم يعد موجودا من المفهوم العربى غير لفظه، وتم ذلك نتيجة استبعاد المصادر العربية والإسلامية من الأطر المرجعية للباحثين وقد أدى ذلك كله إلى حدوث نوع من الاضطراب فى معانى المفهوم ، فأحيانا تترجم Culture إلى ثقافة ؛ ورائد هذا الاتجاه سلامة موسى ؛ الذى اقتفى اثر المدرسة الألمانية باعتبار Culture تتعلق بالأمور الذهنية ؛ أما civilization التى أسماها حضارة فتتعلق بالأمور المادية.
أما الاتجاه الآخر فيترجم Culture على أنها حضارة ؛ ويلاحظ أن من أخذ بهذا الاتجاه عندما يتعرض للفظ الأوروبى civilization يطلق عليه مدنية، وفى كل الأحوال فإن التعريفات المقدمة والدلالات الراسخة فى الذهن هى نفس مدلولات المفهوم الأوروبى المترجم ؛وليس الجذر العربى لهذه الألفاظ أودلالاتها فى الفكر العربى مما أدى الى ظهور الاتجاهات التى تدعو لنقل وغرس ثقافة الغرب بما يتضمن ذلك من ضرورة الانتشار الثقافى والتثاقف لأن تاريخ البشرية يسير فى خط صاعد متقدم ، متجاوزة بصفة دائمة كل قديم ، والذى يحمل دائما قيمة فجة سلبية .
ثالثــــــا: الدلالة العربية لمفهوم الثقافة
يقوم الباحث بتأصيل المفهوم بالرجوع إلى المعاجم والقواميس القديمة ، تفاديا للإسقاطات الغربية على اللفظ العربى ، كما استخدام فى القرنيين الأخيرين، وهو ماتفتقده معظم المعاجم والدراسات حيث تقدم المعانى المشتقة من الجذر اللغوى للمفهوم ، ثم تقفز للمعانى الأوروبية ، دون أن تعنى بتحليل الدلالات الأصلية ، وما يمكن أن يستنبط منها.
وباستقراء الدلالات الأصلية لمفهوم الثقافة يحدد الباحث ستة أبعاد للمفهوم تدور حول:
أنه مفهوم نابع من الذات الإنسانية، لايغرس من الخارج كما يعنى البحث والظفر بكل القيم التى تصلح - ولاتفسد – الوجود الإنسانى وتهديه، ويركز على مايحتاجه الإنسان طبقا لظروف بيئته ومجتمعه، فهو مرتبط بالنمط المجتمعى الذى يعيش الانسان فى ظله دون اللجوء لمقياس معيارى من ثقافة أخرى ، كما إنه عملية متجددة لا تنتهى بالوصول لدرجة معينة على الآخرين أن يبلغوها. إنه مفهوم لايصنع أحكاما قيمية حول نوعية الثقافة، وكل الثقافات – من منطلق مفهوم التهذيب - طبقا لقيم مجتماعاتنا وظروفها على نفس الدرجة من القيمة الإنسانية وفى النهاية هو مفهوم عام يشتمل على جميع أنواع الممارسة الإنسانية، ومختلف درجاتها ، طالما تحقق مطلق التقويم .
رابعـــــــا: تأصيل مفهوم civilization فى دلالته الأصلية
ويرد الباحث الكلمة إلى جذرها اللاتينى CIVITIS بمعنى مدينة ، أو CIVIS أى " ساكن المدينة " CITIZEN وهو ما يعرف به المواطن الرومانى المتعالى على البربرى ، ومع ذلك لم يستقر استعمال civilization إلا فى أواخر القرن الثامن عشر ، حيث كان يستخدم بدلا منها CIVILTY التى تعبر عن ازدراء الرجل المدنى للحضر "
ولما كان مفهوم المدينة يمثل جوهر مفهوم civilization – فلم تزل دلالات المدينة راسخة ومحددة ولهذا المفهوم برغم أنه تطور وأخذ مدلولات أخرى إضافية- فإن الباحث يعرض لتطور المدينة فى الغرب ، خاصة فى المرحلتين الأخيرتين مرحلة " المدينة الصناعية " التى أصبحت موطن الاقتصاد الرأسمالى بكل توابعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على حساب الريف ومرحلة " المتربوليتان" ففى عصر التوسع الرأسمالى والشركات عابرة القارات والمنظمات الدولية ظهر نمط " المدينة بعد الصناعية " الذى أوجد علاقات تبعية بين المركز (المدينة الأوروبية الكبرى) والهامش ومدن العالم الثالث: المركز هو القيادة والتوجيه معرفيا وعلميا وسياسيا واقتصاديا وسلوكيا، بل وقبلة عقائدية بالمعنى العام للعقيدة ومن ثم تكرر نمط أثينا المدينة المتروبول فى العصر الإغريقى.
ثم يتساءل الكاتب عن العلاقة بين المفهوم وجذره اللغوى وحقيقة مضمونه ويعرض وصولا للإجابة عددا من التعريفات التى تبرز التداخل الكبير فى تناول الفكر الاوروبى لمفهوم civilization فهناك من رآه مقصورا على نواحى التقدم المادى فى حين يراه آخرون شاملا كل أبعاد التقدم وهناك من يرى أنها تشمل الفرد والجماعة لكن فى النهاية يبقى مفهوم civilization فى جوهره يعنى خلاصة تطور نمط الحياة الأوروبى بكل أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاعتقادية الخ باعتباره قمة التطور البشرى على حين ينظر للمجتمعات الاخرى وفقا لهذا التصور على أنها فى مرحلة دنيا للمدينة الحديثة الاوروبية والتى أصبحت تمثل فى أحد أبعادها صفة تعاكس صفة الدينية سواء فى القانون أواجتماع طبقا لتطور المدينة الغربية .
خامسا سيرة مفهوم civilization بعد ترجمته الى اللغة العربية:
انقسم الفكر العربى إلى اتجاهين فى ترجمته إلى حضارة وإن كان لكل اتجاه منهما سند لغوى عربى يستند اليه إلا إن كلا اللفظين أصبح يوضع بإزاء معانى ودلالات المفهوم الأوروبي .
وقد ظهر الاتجاه الأول مع بداية الاتصال بالغرب؛ واستمر لفظ المدينة سائدا حتى أوائل القرن العشرين سواء باعتباره الاجتماع البشرى الذى هو أخص من العمران، أو بربطه بالمرأة وتحررها أو كوصف للدولة المسالمة أو فى سياق ترجمات كتب القانون، وووضع الظواهر المادية فى حياة المجتمع مقابل مفهوم Cultureالذى يدل على الظواهر الثقافية والمعنوية، وفى الفترة الأخيرة ساد اضطراب واضح فى استخدام لفظ المدنية ، وبدأ كل كاتب يحاول اختلاق تعريف أو ترتيب علاقات من نوع معين ، فهناك من يراها نسقا وسيطا بين الثقافات المتعددة ، وهناك من يقصرها على العلوم الطبيعية ، وهناك من يطلقها كلفظ جذاب، أو كصفة جيدة للأشياء دون فهم أبعادها.
أما الاتجاه الآخر فهو يترجم مفهوم civilization إلي حضارة، وقد شاع منذ الثلاثينات، وبرز في كتابات د. محمد حسين هيكل الذي أعطي مفهوم الحضارة معني شموليا، فرأي أن الحضارة العالمية واحدة ، وهي القائمة في أوروبا , وعلي هذا الفهم للحضارة قامت معظم الكتابات في مصر والعالم العربي، ويلاحظ أنها تورد الأصل العربي للكلمة ثم تنتقل للمعني الأوروبي لها مباشرة ، ومن ثم كان الحديث عن عالمية العلم وعالمية المنهج ؛ إذ أن الحضارة عالمية والمدنية عالمية .
ثم يشير الكاتب إلي اضطراب الفكر العربي عند تعامله مع مفهوم culture ،civilization فمن ترجم culture إلي ثقافة ترجم civilization إلي حضارة ومن ترجم culture إلي حضارة ترجم civilization إلى مدنية، وفي كل حالة يختلف تعريف المفهوم العربي عن الآخر.
سادسا: الدلالة العربية لمفهوم المدنية
يختلف الباحثون حول تحديد الجذر اللغوي لكلمة المدينة فيرجعها البعض إلى مدن بمعنى أقام في المكان ويرجعها آخرون إلى دان بمعنى خضع وأطاع وهي جذر مفهوم الدين وأياً كان مصدر الكلمة فإن الباحث يؤكد أنه
- إذا كانت المدينة في الغرب مصدراً ومنبعاً لقيم التهذيب والنظام والإنتاج تلى ظهورها هذا النمط الحياتي الذي يعتبره الأوربيون نمطاً راقياً للحياة البشرية فإن المدينة في الخبرة الإسلامية هي نتيجة النموذج الإسلامي للحياة الإنسانية النابعة من العقيدة الإسلامية
- كما أن المدينة الإسلامية بدأت بما انتهت إليه المدينة الغربية (مرحلة المتروبوليتان) الذي لم تشهده أوربا الحديثة إلا كمرحلة أخيرة لتطورها إبان مرحلة البغي (الاستعمار) أما الخبرة الإسلامية فقد شهدت مفهوم الحاضرة وليس فقط منذ ظهور المدينة الإسلامية.
إذا كانت المدينة قد قادت التطور الأوربي وقدمت نسقاً يستأهل النسبة إليه باعتباره نموذجاً راقياً فإن الخبرة الإسلامية لم تكن كذلك حيث كل القيم نابعة من العقيدة المنزلة وبرغم ظهور المدينة الإسلامية على أفضل صورها منذ البعثة إلا أن مفهوم " المدنية " لم يظهر وعندما استخدم ابن خلدون لفظ الحضارة – المدنية كان يشير إلى طور غير مفضل لديه، وغير وظيفى فى حياة البشر، طور يمثل مرحلة انهيار العمران البشرى بما فيه من ترف .
سابعا: حول تعريف مفهوم الحضارة:
وهنا يعتمد الكاتب منهجا للتعريف يقوم على الرجوع إلى جذور المفهوم فى لغته ، وتنبع دلالته فى مصادرها الأساسية، ومحاولة تجريد تلك الدلالات من ظلال الزمان والمكان، ثم إعادة دمجها فى الواقع المعاصر، دون الافتئات على ماهية المفهوم وجوهره، بل صقله وتنقيته من الشوائب، وصولا إلى المعنى الحقيقى المجرد من خصوصيات الاستعمال التاريخى .
ويؤكد الكاتب ان ابن خلدون لم يكن يتحدث عن مفهوم الحضارة كمفهوم كلى شامل ، يواطئ الحركة البشرية ، ويلقى عليها بصفات قيمية معينة ، انما استخدمه بصورة تتسق تماما مع بنائه الفكرى فى " المقدمة "، ومن هنا كان قصور من رجع الى استخدام ابن خلدون للمفهوم، واقتصر عليه، فكان رجوعه استظهاريا تسويقيا وليس بحثا عن حقيقة المفهوم، فابن منظور يورد سبعة استخدامات للكلمة، واحد منها فقط بمعنى الحضر بخلاف الاستخدامات الاشتقاقية.
وانطلاقا من الجذر اللغوى " حضر " بمعنى شهد ، ومن الدلالات القرآنية لهذا المفهوم – يعرف الباحث الحضارة بأنها: الحضور والشهادة بجميع معانيها التى ينتج عنها نموذج إنسانى يستطبن قيم التوحيد والربوبية .. ومن ثم فإن دور الإنسان ورسالته هى تحقيق الخلافة عن خالق هذا الكون فى تعمير أرضه .. وكذلك إقامة علاقة مع بنى الإنسان فى كل مكان أساسها الأخوة والألفة وحب الخير، والدعوة الى سعادة الدنيا والآخرة .
ولكن هذا يثير التساؤل حول الخبرات البشرية الأخرى خارج إطار الاسلام: هل ينطبق التعريف عليها وهى لم تؤمن بالإسلام فنخرجها عن دائرة الحضارة – كما يفعل المنظور الأوروبى؟ أم أن هذا التعريف مغلف بالخصوصية، ولايمكن تعديته إلى الخبرات الأخرى ؟ يجيب الباحث بأن المفهوم السابق يشير الى حضارة الإسلام ، أو حضور الإسلام فى الكون دون أن يعنى أنه نموذج حضور جميع الخبرات الأخرى، ومن ثم فإن مفهوم الحضارة بمعناه العام هو مطلق " الحضور ".
ويشير مفهوم الحضارة الى مرحلة متقدمة فى تجربة أى مجتمع ، لا يقف عند مجرد الوجود، أى مجرد قيام العمران فقط، ويتطلب ذلك تحقيق خمسة أبعاد :
1- وجود نسق عقائدى يحدد طبيعة العلاقة مع عالم الغيب .
2- وجود بناء فكرى وسلوكى يشكل نمط القيم السائدة والأخلاقيات العامة والأعراف .
3- وجود نمط مادى يشمل المبتكرات والآلات والمؤسسات والنظم .. وجميع الأبعاد المادية فى الحياة .
4- تحديد نمط العلاقة مع الكون ومسخراته وقواعده، وقيم التعامل مع هذه المسخرات .
5- تحديد نمط العلاقة مع الآخر – أى المجتمعات الأخرى – وأسس وقواعد التعامل معها، وبالتالى لايحمل مفهوم الحضارة بعدا قيميا، فقد تكون الحضارة مدمرة أو سيئة، فالحضارة لفظ محايد يختلف باختلاف نموذج الحضور ومكوناته ، كما أن المفهوم بهذا المعنى يعطى كل تجربة حضارية تميزها وخصوصياتها، ولايعطى مجالا لجعل علوم ومناهج الحضارة الغالبة علوما عالمية، تذرعا بوحدة الحضارة ووحدة الأصل الإنسانى .
ثم يختم الباحث بطرح منهجه الذى استخدمه فى هذا البحث بأعتباره منهجا ملائما لدراسة مثل هذه المفاهيم ذات الطبيعة الخاصة، من حيث كونها لا تعبر عن حقيقة شرعية، والتي لم تكن متداولة بكثرة فى التراث العربى الإسلامى ، ويحدد معالم هذا المنهج فى الخطوات الآتية:
- البحث عن دلالات المفهوم فى لغته الأصلية التى صك منها ، ومن ثم الوصول الى تجريد للمفهوم يعبر عن حقيقته وجوهره ، بعيدا عن التباسه بخبرات أو دلالات لحقت به فى تطوره.
- تتبع تطور المفهوم فى بيئته الأصلية ، وكيف تم سحبه من معانيه اللغوية الى معان اصطلاحية معينة ؟ وهل هناك اتساق بين الاثنين، أم ان المفهوم تجاوز تماما الدلالات اللغوية، وحمل بدلالات أخرى ؟
- التركيز على واقعية التوجيه واختبار مقابل عربى لهذا المفهوم ، وهل تمت ترجمة للمعانى والدلالات أم للفظ فى معناه الظاهر فقط ؟
- تتبع تطور المفهوم فى الفكر العربى التالى لترجمته، ومدى التغيير الذى لحق باللفظ، وهل ظل اللفظ العربى محافظا على دلالات المفهوم الأجنبى، أم الدلالات الأصلية له فى اللغة العربية، أم أحدث مزيجا منها ؟
- العودة للدلالات العربية الأصلية للمفهوم العربى، الذى وضع كمقابل للمفهوم الأجنبى وتوضح المعانى والدلالات الحقيقية له، ومقارنتها بدلالاته المعاصرة التى هى نفس دلالات المفهوم الأجنبى، وصولا الى المعانى والدلالات الأصلية للمفهوم العربى.
ويتوافق هذا الطرح مع رؤية بقية الفريق البحثي لأهمية عملية بناء المفاهيم الاسلامية واتفاقهم على ومنطلقاتها وخطوطها العريضة برغم تنوع خلفيات الباحثين الأكاديمية، فمن حيث الاهداف حددت الأبحاث أهدافها من عملية بناء المفاهيم فى :
_ إبراز هوية وتمايز منظومة المفاهيم الاسلامية أما من حيث المنطلقات فقد انطلقت جميعها من نظرة ترى ان المفاهيم الاسلامية تستمد من مصدر ثابت مستقل يتصف بالعموم والشمول هو الوحى قرآنا وسنة .
_ان المفاهيم الاسلامية بارتكازها على العقيدة تشكل منظومة مفاهيم تتساند وتتكامل فهى منظومة مفاهيم حضارية متمايزة ازاء مفاهيم الحضارات الاخرى.
_ ان المفاهيم الاسلامية على الرغم من ثباتها واستقلالها وتميزها عن الواقع إلا أنها واقعية تعتبر الواقع الذى يشكل عطاءها المستمر والمتجدد وتستجيب نظاميا وحركيا لتحدياته ؛فهذه المفاهيم ان كانت تستقل عن الواقع بناء فهى لا تستقل عنه تعاملا.
وبالنسبة لاطار عملية بناء المفاهيم استقر الفريق البحثى على عشرة خطوات لبناء المفاهيم هى :
1- المفهوم فى اللغة العربية .
2- المفهوم فى اللغة والادبيات غير العربية .
3- سيرة المفهوم تطورا وتاريخيا ومآلا.
4- ترجمة المفهوم ونقله الى العربية متى ترجم؟ وكيف ؟,,
5- البديل الخاص بالمفهوم فى الرؤية الاسلامية.
6- منظومة المفاهيم المرتبطة بالمفهوم وموقع المفهوم فى خريطة المفاهيم.
7- كيفية تشغيل المفهوم فى النسق المعرفى بالضافة الى الواقع العملى.
8- مستويات المفهوم المتعددة وآثارها فى عملية التشغيل.
9- خبرة بناء المفهوم.
10-قائمة ببليوجرافية بأهم المراجع .
عرض : عبدالله جاد محمد
وباعتبار الطبيعة الخاصة لهذه المفاهيم الثلاثة كمافهيم لا تعبر عن حقيقة شرعية ولم تكن مستدولة بكثرة فى التراث العربى الاسلامى فان الباحث يقترح منهجا خاصا لها تتمثل خطواته فى :
السبحث عن دلالات المفهوم فى لغتعه الاصلية التى صك منها وحمل بدلالاتها ومعاينتها ومن ثم الوصول الة تجريد للمفهوم يعبر عن حقيقته وجوهره .
تتبع تطور المفهوم فى بيته الاصلية وكيف تم سحبه من معانيه اللغوية الى معان اصطلاحية معينة وهل ثمة اتساق بين الاثني ؟
التركيز على واقعة الترجمة واختيار مفابل عربى لهذا المفهوم وهل تمت ترجمة المعانى والالات ام ترجمة اللقظ فى معناه الظاهر فقط ؟
تتبع تطور المقهوم فى الفكر العربى التالى لترجمة المقهوم ومدى التغير الذى لحق به وهل كان اثرا لدلالات المفهوم الاجنبى ؟
مقارنة الدلالات الاصلية للمفهوم العربى المقابل للمفهوم الاجنبى بالدلالات المعاصرة لهذا المفهوم تمهيدا لمحاولة اعادة تعريف المفهوم بصورة تحقق له الوضوح والتجديد فيستعيد وظيفته فى التواصل الفكرى ونقل الدلالات والمعانى .
دعوةلبناء المفاهيم لتحقيق التواصل وتعزيز الحوار :
1 Comments:
At ٢:٤٥ ص, Ossama said…
السلام عليكم يا استاذ عبد الله مجهود عظيم بحق
الف شكر انك ذكرتني
واتمنى ان تتذكرني
اخوك
اسامة القفاش
إرسال تعليق
<< Home