قراءة في مفهوم العقل في الفكر الإسلامي
- Alkasd my other blog
"... فإن قلت: فما بال أقوام يذمّون العقل والمعقول؟ فاعلم أن السبب فيه أن الناس نقلوا اسم العقل والمعقول إلى المجادلة والمناظرة بالمناقضات والإلزامات وهو صنعة الكلام، فلم يقدروا على أن يقرروا عندهم أنكم أخطأتم في التسمية إذا كان لا ينمحي عن قلوبهم بعد تداول الألسنة به ورسوخه في القلوب، فذموا العقل والمعقول وهو المسمى به عندهم... فأما نور البصيرة التي بها يعرف الله تعالى ويعرف صدق رسله فكيف يُتصور ذمه وقد أثنى الله تعالى عليه؟ وإن ذُم فما الذي بعده يحمد؟ فإن كان المحمود هو الشرع، فبما علم صحة الشرع؟ فإن علم بالعقل المذموم الذي لا يوثق به فيكون الشرع أيضاً مذموماً ولا يلتفت إلى من يقول: أنه
يُدرَكُ بعين اليقين ونور الإيمان لا بالعقل. فإنا نريد بالعقل: ما يريده بعين اليقين ونور الإيمان، وهي الصفة الباطنة التي يتميز بها الآدمي عن البهائم حتى أدرك بها حقائق الأمور. وأكثر هذه التخبيطات إنما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ."
حجة الإسلام الغزالي
الباحث في مفهوم العقل والنزعة العقلية في الفكر الإسلامي يتنازعه اقتناع وهاجس اقتناع بأهمية استعادة العقل لتجاوز أزمة المسلمين الحضارية وهاجس الانزلاق لاجترار الثنائيات المتكررة في الفكر الإسلامي من قبيل العقل والنقل وأهل الرأي وأهل الحديث وعقل أم عقلانية لكن عمق الأزمة التي تكتنف وجود المسلمين في العالم المعاصر يوجب إعادة اكتشاف المفهوم في سياقه الحضاري الإسلامي.
اللغة وعاء الفكر وأداة التوصل الحضاري، لذلك يصبح التحديد اللغوي للمفهوم أول خطوة في تبين موقعه من منظومة الفكر، ولغويا أصل العقل من "عقل": العين والقاف واللام أصلٌ واحد منقاس مطرد ، يدلُّ عُظْمُهُ على حُبْسة في الشيء أو ما يقارب الحبسة. من ذلك العقل، وهو الحابس عن ذميم القول والفعل. والعقل: الحِجْرُ والنُّهَى، ضدُّ الحُمْقِ. رجلٌ عاقلٌ وهو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عَقَلْت البعيرَ إذا جمعت قوائمه. والعقلُ: التثبُّت في الأمور. والعقل: القلبُ، والقلبُ العقلُ، وسُمِّيَ العقلُ عقلاً لأنه يَعقِلُ صاحبَهُ من التورط في المهالك، أيْ يحبسه. وقيل: العقل هو التمييز الذي يميز الإنسان من سائر الحيوان. ويقال: لفلان قلبٌ عقولٌ، ولسان سئول. وقلبٌ عقول: فَهِمٌ؛ وعَقَلَ الشيءَ يَعقِلُهُ عَقلاً: فهِمَهُ. والعقلُ مطلَقٌ لِقوَّةٍ بها يكون التمييز بين القُبح والحُسْن، ولمعانٍ مجتمعة في الذهن.
ومما سبق يمكن الخلوص إلى أن المعنى اللغوي لكلمة «عقل» يدور المعنى اللغوي لكلمة «عقل» في أغلب المعاجم العربية ـ وأيضاً غير العربية ـ حول معان، هي: الربط، والضبط والإمساك، والحفظ وهذا هو المعنى الحسي المادي للكلمة وكثير من جزئياته تتوفر في العقل البشري، فهو يحفظ صاحبه، ويمنعه مما يضره، وبه يضبط أموره ويفهمها، ويميز بين السقيم والسليم وقد اختلف الناس في تحديد مكان العقل في الجسم، أهو في الرأس ؟ أم في القلب ؟ أم في سائر الجسد ؟. ومن مترادفات العقل: الحِجر، ويسمى العقل حِجْرًا لكونه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته. وأيضا من أسماء العقل: النُهية، والجمع نهى.
وعند ابن منظور: النهى: العقل- يكون واحدا وجمعا، والنُّهية: العقل بالضم، سميت بذلك لأنها تنهى عن القبيح. وفلان ذو نهية أي ذو عقل ينتهي به عن القبائح ويدخل في المحاسن.
وقال بعض أهل اللغة: ذو النهية الذي ينتهي إلى رأيه وعقله. ومن مترادفات العقل في مختار الصحاح: القلب، وهو كذلك في الاستخدام القرآني. ومن أسماء العقل الفؤاد. وقد يعبر عن القلب بالفؤاد. ويسمى العقل لبا؛ لأنه الذي يعلم الحق فيتبعه، فلا يكون للرجل لب حتى يستجيب للحق ويتبعه.
أما كتاب الله العزيز فقد اهتمّ اهتماماً بالغاً بالعقل، فالكثير من الآيات الكريمة تحضُّ المسلم على اكتشاف حقائق الوجود، والتفاعل معه، والإفادة منه بإعمال العقل: (أفَلا يَنْظرونَ إلى الإبلِ كَيفَ خُلِقَتْ وإلى السَّماءِ كَيفَ رُفِعَتْ وإلى الجِبالُ كَيْفَ نُصِبَتْ وإلى الأرضِ كَيفَ سُطِحَتْ ). (أفَلَم يَسِيرُوا فِي الأرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلُونَ بِها ). (أَلمْ يَنْظُروا في مَلَكُوتِ السَّمواتِ والأَرضِ وَما خَلَقَ اللهُ من شَيء ) .(أَوَلَمْ يَنْظُروا إلى الأَرض كَم أنبَتنا فيها من كلِّ زَوج كَريم ). كما وجه القرآن النظر إلى استخدام العقل في الوصول إلى " الحقيقة " فقد دعا بطريق مباشر وغير مباشر إلى تعظيم العقل والرجوع إليه. ويحرص القرآن على تأكيد هذا المعنى حتى إنه ليكرر هذه الدعوة بشكل يلفت النظر ويثير الاهتمام، ويشير القرآن إلى العقل ومعانيه المختلفة ومشتقاته ومرادفاته في نحو ثلاثمائة وخمسين آية مستخدماً لذلك كل الألفاظ التي تدل عليه أو تشير إليه من قريب أو بعيد من " التفكير" و " القلب" و "الفؤاد" و " اللب" و"النظر" و "العلم " و " التذكر" و "الرشد " و " الحكمة " و " الرأي " و "الفقه" إلى غير ذلك من الألفاظ التي تدور حول الوظائف العقلية على اختلاف معانيها وخصائصها وظلالها مما يعتبر إيحاءات قوية بدور العقل وأهميته بالنسبة للإنسان. ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل في القرآن الكريم بمعنى واحد من معانيه بل بكل المعاني التي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها وتتعمد التفرقة في الآيات الكريمة بين هذه الوظائف والخصائص مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع ولا في العقل المدرك ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة، على كثرتها إذ هي جميعاً مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع والعقل المدرك والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء.
ويلاحظ أن كلمة العقل ترد دائما في القرآن الكريم بصيغة الفعل( أفلا يعقلون ) بما تنطوي عليه من معاني النشاط أو العملية. فالعقل في القرآن الكريم لم يذكر كاسم ، أو كشئ مجرد أو معرف بالألف واللام ،) وكأن الخالق ينبه إلى أن هذا الأمر تقوم عليه أمور ثلاثة : عقل مجرد ولكنه قوة يعقل بها فلا بد لها من شخص يحملها ، فكأنها عرض باصطلاح الفلاسفة والمناطقة يحتاج إلى جوهر وهو الذات وتحتاج إلى وعاء زمني فيعبر عنها بعقل ويعقل إلى غير ذلك . وهذا الأمر لا ينظر إليه على أنه غاية في ذاته بقدر ما ينظر إليه على أنه حركي وربما كان في ذلك إشارة لعدم إثبات ذاتية ثابتة ومطلقة للعقل أو اعتباره مرجعية مكتفية بذاتها.
كما ربط القرآن الكريم قضية الانفتاح على الرسالة وأهدافها بالقوى العقلية التي حباها الله تعالى للإنسان فجعل العقل مناط التكليف: قال الآمدي: "اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلاً فاهماً للتكليف، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة، ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب دون تفاصيله من كونه أمراً ونهياً ومقتضياً للثواب والعقاب، ومن كون الآمر به هو الله تعالى وأنه واجب الطاعة، وكون المأمور به على صفة كذا وكذا كالمجنون والصبي الذي لا يميز، فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب، ويتعذر تكليفه أيضاً".
لقد صادق القرآن من جهات مختلفة على حجية العقل. و أشير إلى مورد واحد فقط من ستين إلى سبعين آية من القرآن إلى هذه المسألة وهي: إننا عرضنا هذا الموضوع لتعقلوا (ويتدبروا) فيه.وعلى سبيل المثال من إحدى التعابير العجيبة للقرآن،قوله تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ)) (الأنفال/22)، فغرض القرآن من الصم والبكم بطبيعة الحال ليس الصمم والبكم العضوي، بل، يقصد الأشخاص الذين لا يريدون أن يستمعوا الحقيقة، أو أنهم يسمعونها ولا يعترفون بألسنتهم. فالأذن التي تعجز عن سماع الحقائق وتستعد فقط لسماع والأراجيف أن هذه الأذن صماء من وجهة نظر القرآن. واللسان الذي يستخدم فقط في بث الأراجيف، يعتبر لسانا أبكما القرآن وهم "لا يعقلون" هم الذين لا ينتفعون من أفكارهم، يعتبر القرآن مثل هؤلاء الأشخاص - الذين لا يحق أن يطلق عليهم اسم "الإنسان" بالحيوانات ويخاطبهم بالبهائم. وفي آية أخرى ،وفي سياق عرض مسألة توحيدية،يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) (يونس/100)، ويعقب القرآن على هذه المسألة التي تهز الإنسان حقيقة، بقوله: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) ففي هاتين الآيتين يدعو القرآن إلى التعقل بالدلالة المطابقية كما في اصطلاح المنطقيين أي أن يدل اللفظ على تماما معناه كما يدعو القرآن إلى التعقل بالدلالة الإلتزامية: حيث يدل اللفظ فيها على موضوع غير معناه (الظاهري)مثلا يطلب من الخصم إستدلالا عقليا: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ... ) (البقرة/111) يريد أن يوضح بالدلالة الالتزامية هذه الحقيقة، وهي أن العقل حجة وسند، أو أنه يرتب قياسا منطقيا لإثبات وحدة واجب الوجود، بقوله: ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)) (الأنبياء/22) هنا يرتب القرآن قضية شرطية، يستثني فيها المقدم ولا يذكر التالي.
وقد أقر القرآن الكريم نظام العلة والمعلول فذكر المسائل في علاقاتها العلية. يعتقد بأصالة العقل أنه إن علاقة العلة والمعلول وأصل العلية أساس للتفكرات العقلية برغم من أن القرآن هو من عند الله تعالى خالق نظام العلة
فعلى سبيل المثال يقرر القرآن الكريم: ((...إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) (الرعد/11). فلا شك أن كل المصائر بإرادة الله، ولكن الله لم يفرض المصير على البشر بل إن للمصائر نظاما أيضا، وأن الله لا يغير مصير أي مجتمع عبثا، ، إلا أن يغيروا بأنفسهم ما يرتبط بهم من أنظمة أخلاقية واجتماعية وكل ما يتعلق بواجباتهم الفردية. ومن طرف آخر يرغب القرآن المسلمين بمطالعة أحوال وأخبار الأمم السالفة، لكي يعتبروا منها تذكيراً، بأن هناك أنظمة موحدة، تحكم مصائر الأمم، وبهذا الترتيب لو تشابهت ظروف مجتمع ما مع ظروف مجتمع آخر، فإن مصير ذلك المجتمع ينتظر المجتمع الآخر.
ويذكر القرآن فلسفة للأحكام والقوانين، بمعنى أن الحكم الصادر معلول لهذه المصلحة. يقول علماء الأصول: بأن المصالح والمفاسد، تقع في مجموعة علل الأحكام، مثلا يقول القرآن في آية: (أَقِيمُوا الصَّلاَةَ...)، وفي آية أخرى يذكر فلسفتها: (الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ...) (العنكبوت/45). يذكر الأثر الروحي للصلاة، وأنها كيف ترفع الإنسان ويسبب هذا الاعتلاء ينزجر الإنسان وينصرف عن الفواحش والآثام. وعندما يذكر القرآن الصوم ويأمر به، يتبع ذلك بقوله: ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة/183) وهكذا في سائر الأحكام، مثل الزكاة والجهاد و...، حيث يوضح في كل منها من الناحيتين الفردية والاجتماعية. ويطلب من الإنسان أن يتدبر فيها ليتضح له واقع الأمر، ولا يتصور أن هذه الأحكام مجرد مجموعة من رموز تفوق فكر الإنسان.
وعلى جانب آخر ًناضل القرآن أعداء العقل فهاجم أسرى التقاليد المنحرفة، وعاب على المتحجّرين جمودهم قال تعالى في كتابه العزيز: (قالوا: بَل نتَّبعُ ما ألفَيْنا آباءَنا أوَ لو كانَ آباؤهُم لا يعقِلونَ شيئاً ولا يَهتَدون ) . إنْ يَتَّبِعونَ إلاّ الظَّنَّ، وإنَّ الظَّنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً ). (وَلَقَد أضَلَّ مِنكُم جبِلاًّ كثيراً أفَلَمْ تَكونوا تَعقِلون) وحفظ القرآن الكريم العقل فحرم كل ما من شأنه إفساد العقل وإدخال الخلل عليه، سواء كان مفسدات حسية كالخمور والمخدرات وما شابهها والتي تؤدي إلى الإخلال بالعقل بحيث يصبح الإنسان كالمجنون الذي لا يعرف صديقاً من عدو ولا خيراً من شر، أو مفسدات معنوية: تعطل العقل عن لتفكير السليم سواء كانت تسلط سلطة التقليد أو سلطة الحكم أو سلطة الميول والأهواء أو الانسياق وراء المجموع وتسطيح الإنسان بالاستهلاك والإعلام ليصبح ذي بعد واحد فيصبح عقله كأنه معدوم بالمرة.
أما السنة النبوية الشريفة وهي المصدر المرجعي الثاني للفكر الإسلامي فلم يرد فيها لفظ العقل إلا في حديث النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى النساء عندما قال: «... ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن؟ قلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها » رواه الشيخان، واللفظ للبخاري
ويتداول الناس أحاديث كثيرة مفادها أن العقل أول المخلوقات و«لا أصل لشيء منها، وليس في رواتها ثقة يعتمد» . وقد نص ابن تيمية على أن حديث «أول ما خلق الله العقل» كذب موضوع ، وعلى الرغم من ذلك يصرّ البعض على أن أحاديث العقل كلها صحيحة، لأن علماء الفقه من السنة قد بالغوا في حملتهم على أحاديث العقل، خوفاً من أن ينساق الناس خلف العقل وحده ويرون أن تلك الأحاديث تتفق مع روح الآيات القرآنية، وتشرحها بطريق غير مباشر ويسوقون عدداً من الملاحظات يؤيد ون بها رأيه، ولكنها لا تستقيم في دفع الوضع، أو الضعف على الأقل عن تلك الأحاديث. لكن الراجح أن السنة الشريفة وإن لم يصح فيها أحاديث كثيرة جاءت بلفظ العقل، إلا أنها لا تتجاوز المفهوم القرآني، فهي تجعل العقل الذي هو مناط التكليف أساساً في القيام بالواجبات والانتهاء عن المحرمات، وهذا مستفاد من حديث «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتّى يستيقظ، والمجنون حتّى يفيق، والصغير حتّى يبلغ» فالمجنون الذي فقد عقله، ولم يعد يفرق بين الصواب والخطأ، سقط عنه التكليف، وأقواله وأفعاله لا يتعلق بها حكم شرعي، ولا ثواب ولا عقاب. وهنا تأكيد على العقل النظري، أو المطبوع الذي يتميز الإنسان بوجوده عن سائر المخلوقات أما حديث «ما رأيت من ناقصات عقل ودين.. » فيدل على أن عقل المرأة فيه نقص عن عقل الرجل في بعض الوظائف كالتذكر ـ مثلاً ـ فالحديث يشير إلى أن شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل واحد وقد علل ذلك بأن المرأة سريعة النسيان، فتذكرها الأخرى كما في آية الدين (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى أما العقل من حيث هو مناط التكليف فلا خلاف في أنّه غير مراد في هذا الحديث، وإلا لما خوطبت المرأة بالشرع كما في حديث رفع القلم.
لكن هذا لا يمنع من إيراد طرف من هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة لدلالاتها على مكانة العقل في الثقافة الإسلامية ومن هذه الأحاديث ما ورد عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (ع) قال: لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبِر فأدبَر، ثمّ قال: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبُّ إليَّ منك ولا أكملتك إلاّ فيمن أحبُّ أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى وإيّاك أُعاقب وإيّاك أُثيب». عن أحمد بن إدريس عن محمد بن حسان عن أبي محمد الرازي، عن سيف بن عميرة، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبدالله (ع): من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنّة». وعن أبي جعفر (ع) قال:«إنّما يداقُّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدرما آتاهم من العقول في الدُّنيا».
وبناء على هذا اهتمام الوحي قرآناً وسنة بالعقل كان العقل طريقاً للإيمان فلا يقبل إيمان عن عدم اقتناع أو تقليد وارتفع التفكير ليصبح فريضة إسلامية في أمور الدين وغيرها وهو ما يشار إليه بالاجتهاد أو الاستدلال الفقهي العقل بما يملك من طاقات إدراكية أودعها الله فيه ذات دور مهم في الاجتهاد والتجديد إلى يوم القيامة؛ وذلك بالنظر إلى انقطاع الوحي فالعقل له دور في استـقراء الجزئيات والأدلة التفصيلية التي يجمعها مفهوم معنوي عام باعتباره مبنى من مباني العدل، وهى الأصول الكلية، والقواعد العامة التي تستـشرف مقاصد ومصالح إنسانية مادية ومعنوية يعبر عنها بالحاجات والمطالب، والعقل يرد الفروع والجزئيات التي تنزل في الواقع، وليس لها نص إلى الأصول والكليات المنصوصة من خلال ما عُرف بالقياس وغيره. والعقل يقيم النظم والمؤسسات التي يتذرع بها لتحقيق هذه الكليات والأصول والقواعد العامة في الواقع المتغير، وإلا فإن هذه الكليات والأصول من حيث ذاتها لا تحقق لها في الخارج إلا عن طريق تلك النظم التي يؤسسها النظر العقلي. ومن ثم كان العقل أداة وصل الدين بقضايا الواقع.
إنّ العقل الإسلامي حين يطرح العديد من الصور التطبيقية للشريعة الإسلامية عبر الزمن، أو حين يستنبط الحـلول لمشاكل الإنسان المستجدّة فإنّما يمارس دور المكتشف للأحكام والمفاهيم فحسب، لأ نّه يتعامل مع نصوص شاملة لجميع جوانب الحياة الإنسانية، الأمر الذي يمارسه الفقهاء المجتهدون دون سواهم، حيث أنّ المجتهد في الوعي الإسلامي إنّما يمارس دور المكتشف للحكم الشرعي الموجود بين ثنايا الكتاب العزيز وسنّة المعصوم (ع) وعليه فحسب أن يبذل وسعه ـ وفقاً لأسس وشروط معيّنة ـ لاستحصال الحكم أو المفهوم ذي الطبيعة الشرعية. ومهمة المجتهد حين تأخذ هذه الأبعاد، فإنّ ذلك ناجم عن روح الشمول التي تمتاز بها شريعة الله الخاتمة لكلّ مشاكل الإنسان الحياتية، وإن دور الاجتهاد في الشريعة الإسلامية بما تشمله من أحكام شرعية ومفاهيم ومبادئ العامة والصور التطبيقية للشريعة عبر العصور يشير للأهمية البالغة التي يوليها الإسلام للعقل المسلم ومدى الثقة التي يمنحها إياه بناءً على التزامه بمنهج قويم في وسائله ومتبنّياته ومنطلقاته.
وقد تعددت التعريفات الاصطلاحية للعقل تعدداً كبيراً تبعاً لكثرة المتحدثين في ذلك من الفلاسفة وأهل الفرق المختلفة فجاء كل تعريف حاملاً معتقد قائله، ومن أشهر تعريفات العقل قول البغدادي:
"إن الذي أُشيرَ إليه باسم العقل في اللغة العربية إنما هو العقل العملي من جملة ما قيل. وجاء في لغتهم من المنع والعقال فيقال: عقلت الناقةَ. أي منعتها بما شددتها به عن تصرفها في سعيها. فكذلك العقل العملي يعقل النفس ويمنعها عن التصرف على مقتضى الطباع".
ويقول يعقوب بن إسحاق الكندي (7): "العقل: جوهر بسيط مُدرِكٌ للأشياء بحقائقها".
ويقول أبو النصر الفارابي: "العقل: ليس هو شيئاً غير التجارب. ومهما كانت هذه التجارب أكثر، كانت النفس أتم عقلاً" .
ويقول سيف الدين الآمدي: "قد يُطلق العقل على ما حصَّله الإنسان بالتجارب ــ ويسمى العقل التجريبي ، وعلى صَحَّة الفطرة الأولى، وعلى الهيئة المستحسنة للإنسان في أفعاله وأحواله". ويقول بعض الفلاسفة:
"إن العقل اسم مشترك يقال على معنيين: أحدهما ما تشير به الفلاسفة إلى أنه أول موجود اخترعه الباري عزَّ وجل ، وهو جوهر بسيط روحاني محيط بالأشياء كلها إحاطة روحانية. والمعنى الآخر ما يشير به جمهور الناس إلى أن قوة من قوى النفس الإنسانية التي فِعْلها التفكر والروية والنطق والتمييز والصنائع وما شاكلها".
ويقول الأشعري: "البلوغ هو تكامل العقل، والعقل عندهم هو العلم، وإنما سمي عقلاً لأن الإنسان يمنع به عما لا يمنع المجنون نفسه عنه، وأن ذلك مأخوذ من عقال البعير، وإنما سمي عقاله عقالاً لأنه يُمنَع به".
يقول د. عبد الرحمن بدوي: {العقل: مَلكةُ إدراكِ ما هو كلِّي وضروري سواء أكان ماهية أو قيمة. ويعبَّر عن نفس المعنى تقريباً بطريقة أخرى، فيقال: إن العقل هو ملكةُ الربطِ بين الأفكار وفقاً لمبادئ كلية. لكن، مجرد الربط بين الأفكار لا يكفي لتحديد العقل، إذ الحيوان يربط بين الصور الحسية فيتوقع تعاقب صورة بعد صورة، بحسب ما اعتاد عليه من رؤيتها متعاقبة. أما الإنسان العاقل فيدرك أن هذا التعاقب يتم وفقاً لمبدأ ضروري كلي.
وقالوا أيضاً أن العقل:
«قوة غريزية للنفس تتمكن به من إدراك الحقائق، والتمييز بين الأمور» .
«جوهر مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله، وهي النفس الناطقة، أو هو جوهر روحاني خلقه الله متعلقاً بالبدن».
«القوة المدركة في الإنسان، وهو مظهر من مظاهر الروح محله المخ، كما أن الإبصار من خصائص الروح آلته البصر»
و قسم فلاسفة العرب العقل إلى نوعين: غريزي، ومكتسب فأما الغريزي فهو العلم بالمدركات الضرورية، واستعداد النفس لتقبل النظريات واكتسابها، وهذا ما يسميه بعضهم «العقل بالملكة» وأما المكتسب أو المسموع، فهو نتيجة اكتساب النظريات واختزانها في العقل الغريزي فالعقل الغريزي، هو الأصل الذي خلقه الله، والمكتسب هو الفرع الذي تم ونما بوجود الأصل، فإذا اجتمعا قوى كل منهما صاحبه والغريزي هو مناط التكليف وسببه، فإن فقد فلا تكليف، وبه سمي الإنسان عاقلاً، وتميز عن سائر المخلوقات، والمكتسب هو مكان المدح والذم، أو إن المدح والذم يقعان على أثره، «فكل موضع ذمّ الله فيه الكفار بعدم العقل فإنه يشير إلى المكتسب دون الغريزي». وهناك تقسيم آخر للعقل وهو: عقل نظري وعقل عملي وهذا اختلاف في التسمية فقط، أم المعنى فيتفق مع التقسيم السابق، فالنظري يساوي الغريزي، والعملي يساوي المكتسب.
وقد وردت تفسيرات وتقسيمات وتعريفات كثيرة عند الفلاسفة امتزجت بالمفهوم اليوناني الوثني، وانحرفت عن المفهوم الإسلامي للعقل، وهو المفهوم النابع من نظرية المعرفة الإسلامية التي تحددت مصادر المعرفة فيها في مصدرين جامعين : أولهما الوجود وهو كتاب الكون المفتوح بكل ما فيه من حياة . والمصدر الثاني هو الوحي كتابًا وسنة ، يندرج أولهما تحت مفهوم عالم الشهادة والآخر تحت مفهوم عالم الغيب. وبهذا الفهم يكون العقل إلى جانب الحس هما وسيلة الوصول إلى معرفة عالم الغيب و الشهادة ، أما عالم الغيب فهو بالتعريف لا يمكن إدراكه بالحواس ، وكل شئ عن أخبار الماضي الذي لم نشهده ويستحيل أن نشهده غيب ، وكذلك عالم الآخرة وبعد الموت والقبر والحشر والجنة والنار كلها من أمور الغيب الذي لا يمكن معرفته بالحواس ولذا يعد الوحي المصدر الوحيد لمعرفته ، لكن تبقى وسيلة الإدراك هي العقل يوصل إليه السمع فيدرك الأمر ويقتنع به بما زوده الله سبحانه وتعالى . وأحياناً يجبر على القناعة من خلال البداهة أو الضرورة ، وأحيانًا يصل إلى القناعة من خلال التأمل والتدبر ،
إن العلاقة بين الوحي والعقل كمصدرين للمعرفة شديدة التداخل، وعلى قدر كبير من التعقيد والتشابك بحيث لا يمكن بحال وضع حدود فاصلة لعمل العقل يتوقف عندها ليبدأ عمل الوحي يقول الله تعالى ( ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورًا ) [ الفرقان : 40 ] فالله تعالى يشير باستغراب شديد إلى أولئك الذين أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ورأوها بأعينهم فهي أمر محسوس لديهم ، وبرغم الرؤية لم يحصل لديهم العلم ( أفلم يكونوا يرونها) نعم كأنوا يرونها لم تحصل المعرفة ولم يحصل العلم لماذا ؟ الجواب ( كانوا لا يرجون نشوراً ) إذن الحس يحول المعرفة إلى العقل ولكن العقل لسبب ما قد لا يكون مستعداً لقبول هذه المعرفة ، ليس لديه رفض لأنه لم يحاكم أصلاً ولكن الباب مغلق فلم تحصل المعرفة .
لذلك حدّد الإسلام الحـنيف مهامّ العقل الأساسية، وأوضح مساحة دائرة الصلاحيات الممنوحة له، والحقول التي يجوز له التحرّك خلالها، وبذلك استطاع الإسلام أن يجنِّب عقل المسلم من ارتياد عوالم ومجالات يضلُّ ويزيغ بارتيادها. فدور العقل في مجال عالم الغيب التأكد من صدق المبلغ.
لقد اتفقت كلمة المؤرخين لعصر لصحابة – سواء منهم من كتب في التاريخ العام، أو في التاريخ السياسي، أو في تاريخ الفكر- على وجود ظاهرة وحدة العقيدة لدى الصدر الأول. كما اتفقوا على تأكيد موقف الصحابة من قضايا الغيب والمتشابه ووحدة ذلك الموقف، وهو تلقي هذه الأمور عن الوحي والإيمان بها على ظواهرها دون تأويل أو تمثيل أو تعطيل، وتفويض حقائق المعاني المرادة منها إلى العليم الخبير، وإطلاق حرية العقل في الواجبات والأعباء الهائلة التي تصلح له، وما أكثرها.
وقد اختلف أولئك المؤرخون في تعليل هذه الظاهرة، وبيان أسبابها8. ومهما يكن ما قالوه فإن أهم الأسباب هو ذلك الإدراك السليم، والفهم الدقيق لعالم العبودية وعالم الألوهية، والمعرفة التامة بالفوارق بين عالمي الغيب والشهادة، والتمييز بين وسائل المعرفة الخاصة بعالم الغيب ووسائل المعرفة في قضايا عالم الشهادة، ثم استعمال كل وسيلة فيما خلقت له، وجعلت سبيلاً لمعرفته. فلا غرابة بعد ذلك أن ترى البشرية لأول مرة الوحي المعجز بجوار العقل المبدع يعملان سوياً متعاضدين لبناء أعظم حضارة عرفها الوجود البشري، وأوسط أمة أقلتها الأرض وأظلتها السماء.
ويظهر هذا من موقف عمر بن الخطاب عندما قدم عليه رجل يدعى الأصبغ بن عسل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وضربه بدرته حتى أدمى رأسه وأسقط عطاءه، ونهى عن مجالسته حتى تاب، وتراجع عن إثارة مثل تلك القضايا فعفى عمر عنه، ولكنه قرر نفيه إلى البصرة رغم ذلك، وكتب إلى عامله عليها أبو موسى الأشعري: "أما بعد فإن الأصبغ تكلف ما كُفى، وضيع ما وُلي، فإذا جاء كتابي فلا تبايعوه، وإن مرض فلا تعودوه، وإن مات فلا تشهدوه". وقول سيدنا عمر: "تكلف ما كُفى وضيع ما وُلي" ظاهر تماماً في إيضاح تصور الصدر الأول لقضايا الغيب والمتشابه، وأنهم قد كفوها من خلال الوحي فلا ينبغي أن يشغلوا عقولهم بها، فالانشغال بها وضع لأهم الطاقات في غير موضعها، واستخدام للعقل في غير مجاله، ولو أن في بيان ذلك وكشف ستره، شيئاً من الفائدة، لكان أولى الناس بهذا البيان رسول الله أما والرسول عليه الصلاة والسلام لم يبين ذلك، ولم يسمح بانشغال أحد به، والكتاب يقول الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: 3)، فإن ذلك دليل قاطع على أن أية فائدة دنيوية أو أخروية لا تتحقق وراء هذا البحث والخلط.إنه لا دين في الوجود إلا وفيه جملة من الحقائق التوقيفية التي لا تؤخذ إلا تلقّيا عن الأنبياء، فحتى الأديان الوضعية المختلفة والمذاهب والفلسفات تضع سياجاً حول جملة من القضايا، لا تسمح لعقول العامة بالخوض فيها، وتلتزم بتلقيها تلقّياً عن المذهب أو النحلة.
لكن بداية الأزمة كانت في أعقاب الفتنة الكبرى التي اشتعلت إثر استشهاد الخليفة الشهيد عثمان ابن عفان وقد تعاظمت هذه المحنة، وبدأت الآثار المفجعة تترتب عليها بعداستشهاد الخليفة الراشد الرابع الإمام الشهيد علي بن أبي طالب حيث ولدت في تلك الفترة الفرق الثلاث مرة واحدة: الشيعة والخوارج والمرجئة.
كما ظهرت حركات مثل حركة المعتزلة وهي فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي ، وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها : المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقصد والوعيدية . اختلفت رؤية العلماء في ظهور الاعتزال ، واتجهت هذه الرؤية وجهين :
- الوجهة الأولى : أن الاعتزال حصل نتيجة النقاش في مسائل عقدية دينية كالحكم على
مرتكب الكبيرة ، والحديث في القدر ، بمعنى هل يقدر العبد على فعله أو لا يقدر ، ومن
رأي أصحاب هذا الاتجاه أن اسم المعتزلة أطلق عليهم لعدة أسباب :
1- أنهم اعتزلوا المسلمين بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين .
2- أنهم عرفوا بالمعتزلة بعد أن اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري وشكل حقله
خاصة به لقوله بالمنزلة بين المنزلتين فقال الحسن : " اعتزلنا واصل " .
3- أو أنهم قالوا بوجوب اعتزال مرتكب الكبيرة ومقاطعته .
- والوجهة الثانية : أن الاعتزال نشأ بسبب سياسي حيث أن المعتزلة من شيعة علي رضي
الله عنه اعتزلوا الحسن عندما تنازل لمعاوية ، أو أنهم وقفوا موقف الحياد بين شيعة علي ومعاوية فاعتزلوا الفريقين .
أما القاضي عبد الجبار الهمذاني - مؤرخ المعتزلة - فيزعم أن الاعتزال ليس مذهباً جديداً أو فرقة طارئة أو طائفة أو أمراً مستحدثاً ، وإنما هو استمرار لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وقد لحقهم هذا الاسم بسبب اعتزالهم الشر لقوله تعالى : (( وأعتزلكم وما تدعون )) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من اعتزل الشر سقط في الخير ) . كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الغزال ( 80هـ - 131هـ ) الذي كان تلميذاً للحسن البصري ، ثم اعتزل حلقة الحسن بعد قوله بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ( أي ليس مؤمنا ولا كافراً ) وأنه مخلد في النار إذا لم يتب قبل الموت ، وقد عاش في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك ، والفرقة المعتزلية التي تنسب إليه تسمى : الواصيلة• ومن أبرز مفكري المعتزلة منذ تأسيسها على يد واصل بن عطاء وحتى اندثارها وتحللها في المذاهب الأخرى كالشيعة والأشعرية والماتريدية ما يلي :
- أبو الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف ( 135 -226 هـ ) مولى عبد القيس وشيخ المعتزلة والمناظر عنها. أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلطه بكلام المعتزلة ، فقد تأثر بأرسطو وأنبادقليس من فلاسفة اليونان ، وقال بأن " الله عالم بعلم وعلمه ذاته ، وقادر بقدرة وقدرته ذاته … " انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 76 . وتسمى طائفة الهذيلية.
- عمرو بن بحر : أبو عثمان الجاحظ ( توفي سنة 256هـ ) وهو من كبار كتاب المعتزلة ، ومن المطلعين على كتب الفلاسفة ، ونظراً لبلاغته في الكتابة الأدبية استطاع أن يدس أفكاره المعتزلية في كتاباته كما يدس السم في الدسم مثل ، البيان والتبيين ، وتسمى فرقته الجاحظية
كان الاعتزال ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية فكانت حركة الاعتزال نتيجة لتفاعل بعض المفكرين المسلمين في العصور الإسلامية مع الفلسفات السائدة في المجتمعات التي اتصل بها المسلمون . وكانت هذه الحركة نوع من ردة الفعل التي حاولت أن تعرض الإسلام وتصوغ مقولاته العقائدية والفكرية بنفس الأفكار والمناهج الوافدة وذلك دفاعاً ع الإسلام ضد ملاحدة تلك الحضارات بالأسلوب الذي يفهمونه من خلال الفلسفة ولكن هذا التوجه قاد إلى مخالفات كثيرة وتجاوزات مرفوضة أثراُ لتغير وظيفة العقل وبحثه في الغيبيات فقد كان من مبادئ المعتزلة الاعتماد على العقل كلياً في الاستدلال لعقائدهم فجعل المعتزلة العقل معيار كل أحكامهم فقالوا كما جاء في الملل والنحل للشهرستاني : " المعارف كلها معقولة بالفعل ، واجبة بنظر العقل ، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع أي قبل إرسال الرسل ، والحسن والقبيح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح " أي أن المعتزلة رأوا أن العقل قادر على التمييز بين الحسن والقبيح، وجعلوه مصدراً (أو دليلاً) معرفياً مكافئاً للكتاب والسنة ومقدماً عليهما. لذلك أكد القاضي عبد الجبار في فصل عقده لبيان الأدلة الواجب اتباعها أن العقل أول هذه الأدلة، "لأن به يميّز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع. وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم، فيظن أن الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر، وليس الأمر كذلك، لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع، فهو الأصل في هذا الباب. وإن كنا نقول إن الكتاب هو الأصل من حيث أن فيه التنبيه على ما في العقول، كما أن فيه الأدلة على الأحكام."
- ولاعتمادهم على العقل في مجال الغيبيات أنكروا الصفات الإلهية تنزيها لله سبحانه عن مشابهة المخلوقين أو أولوها بما يلائم عقولهم الكلية، كصفات الاستواء واليد والعين وكذلك صفات المحبة والرضى والغضب والسخط ومن المعلوم أن المعتزلة تنفي كل الصفات لا أكثرها .
- ولاعتمادهم على العقل أيضاً ، طعن كبراؤهم في أكابر الصحابة وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب ، فقد زعم واصل بن عطاء : أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة ، إما طائفة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصاري أو طائفة عائشة والزبير ، وردوا شهادة هؤلاء الصحابة فقالوا : لا تقبل شهادتهم.
وجعل المعتزلة أيضاً العقل مصدراً (أو دليلاً) معرفياً مكافئاً للكتاب والسنة ومقدماً عليهما. وكان هدفهم من الاعتماد على العقل بيان أن ما جاء به الإسلام من أصول حق يتفق مع العقل الصريح وأدلته البرهانية، وقد اعتمدوا في مذهبهم على الفلسفة اليونانية والمنطق الارسطي على الرغم من محاولتهم اتخاذ منطق جدلي خاص بهم فحكّموا العقل تحكيماً مطلقاً، ورفعوا من شأنه حتّى قالوا: «خلق العقل ليعرف، وهو قادر على أن يعرف كل شيء.. المنظور وغير المنظور» . وعلى هذا الأساس قدموا الأدلة العقلية على الأدلة الشرعية، فكذبوا الحديث الذي لا يتوافق مع العقل، وأولوا الآيات التي لا تتوافق مع مذهبهم وإن وضحت، لذلك أكد القاضي عبد الجبار في فصل عقده لبيان الأدلة الواجب اتباعها أن العقل أول هذه الأدلة، "لأن به يميّز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع. وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم، فيظن أن الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر، وليس الأمر كذلك، لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع، فهو الأصل في هذا الباب. وإن كنا نقول إن الكتاب هو الأصل من حيث أن فيه التنبيه على ما في العقول، كما أن فيه الأدلة على الأحكام."
لذلك رفض المتكلمون دعوى كفاية العقل وأكدوا ضرورةَ اعتماد الوحي مصدراً (أو دليلاً) معرفياً إلى جانب العقل. فنجد مثلاً أن الجويـني يقسم الأدلة إلى سمعـي وعقلي: "الأدلة التي يتوصل بصحيح النظر فيها إلى ما لا يعلم في مستقر العادة اضطراراً، وهي تنقسم إلى قسمين: العقلي والسمعي. فأما العقلي من الأدلة، فما دل بصفة لازمة هو في نفسه عليه، والسمعي هو الذي يستند إلى خبر صدق أو أمر يجب اتباعه." وتخلّص المتكلمون من مفهوم العقل الفعّال وما تبعه من عقول لواحق. فالعقل قسمان: غريزي ومكتسب. ويتألف القسم الغريزي -الذي هو العقل الحقيقي المتقدم على النظر- من "جملة العلوم الضرورية."
وهذه العلوم الضرورية إما أن تكون من مدركات الحواس التي تنطبع في النفوس ابتداءً، أو من الاوليّات التي فطرت عليها النفوس. "فأما ما كان واقعاً عن دَرْك الحواس فمثل المرئيات المدركة بالنظر، والأصوات المدركة بالسمع، والطعوم المدركة بالذوق، والروائح المدركة بالشم، والأجسام المدركة باللمس […] وأما ما كان مبتدئاً في النفوس فكالعلم بأن الشيء لا يخلو من وجود أو عدم، وأن الموجود لا يخلو من حدوث أو قدم، وأن من المحال اجتماع الضدين، وأن الواحد أقل من الاثنين. وهذا النوع من العلم لا يجوز أن ينتفي على العاقل مع سلامة حاله وكمال عقله."24 ومن العقل الفطري الضروري تتولد المعارف والعلوم وتتنامى بازدياد الخبرة ودقة الملاحظة والفطنة: "وأما العقل المكتسب فهو نتيجة العقل الغريزي وهو نهاية المعرفة، وصحة السياسة، وإصابة الفكر. وليس لهذا حدٌّ لأنه ينمو إذا استعمل وينقص إذا أهمل. ونماؤه يكون بأحد وجهين: إما بكثرة الاستعمال إذا لم يعارضه مانع من هوى ولا صَادٌّ من شهوة، كالذي يحصل لذوي الأسنان من آراء الشيوخ […] وإما […] بفرط الذكاء وحسن الفطنة، وذلك جودة الحدس في زمان غير مهمل للحدس. فإذا امتزج بالعقل الغريزي صارت نتيجتهما نمو العقل المكتسب، كالذي يكون في الأحداث من وفور العقل وجودة الرأي."
وفي مواجهة الموقف المعتزلي الذي يعطي العقل القدرة على التحسين والتقبيح، ويجعل حكمه مكافئاً لحكم الوحي، نفى الأشاعرة أن يكون العقل قادراً على تمييز الحسن من القبيح. فنرى الجويني يصر على أن "العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه في حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. وأصل القول في ذلك أن الشيء لا يحسن لنفسه وجنسه وصفة لازمة له. وكذلك القول فيما يقبح، وقد يحسن في الشرع ما يقبح مثله المساوي له في جملة أحكام صفات النفس."
لكن وظيفة العقل تغيرت عند الفقهاء أيضاً، وأدخلوا في أصول الفقه جملة من المباحث الكلامية حول حكم الأشياء قبل الشرع، وشكر المنعم أيجب بالعقل أم بالشرع؟ وتكليف المعدوم، وخطاب من لم يخلقوا، والتحسين والتقبيح العقليين، وإن كان الدليل العقلي يوصل منفرداً إلى حكم شرعي قطعي أم لا؟ وغيرها من أبحاث لا طائل تحتها، تدل على أن القوم عادوا إلى لعبة التفريط بالمطلوب وتكلف طلب ما لم يطلب.
وفتح في هذا المجال باب خلط الوظائف، وإضاعة المصالح، واضطراب الرؤية، وانتشار الاختلافات حتى برز علم جديد عرف بعلم الخلافيات. ووظيفة الخلافي هدم ما يبني غيره من مذاهب، والدفاع عن مذهبه وموقفه بكل وسائل الجدل والمنطق. فتشيع الفتن، وتتحول المذاهب الفقهية إلى ما يشبه الأحزاب الكلامية، ويفشو التقليد، وينتشر التعصب للمذاهب وينتشر الضعف الفكري لدى الناس، ويدب الرعب في نفوسهم، ويشتد خوف الناس على دينهم من فقهاء السوء الذين احترفوا إصدار الفتاوى للحكام ومداهنتهم ومجاراتهم بالحق والباطل.
أما الفلاسفة فقد خاضوا في العقل معتمدين على تأثير الفلسفة اليونانية، وخاصة تأثير أرسطو في حديثه عن العقل، ونقلوا تعريفات وتقسيمات اليونان للعقل إلى الثقافة الإسلاميّة، فاهمين تشجيع القرآن الكريم للعقل فهماً قاصراً، اذ انهم فكروا في قضايا يونانية واسلامية بواسطة الثقافة اليونانية ذاتها، بواسطة «العقل اليوناني»، فاختلفوا في تقسيم العقول، وعددها، ووظيفة كل عقل، وحاولوا تفسير معنى «العقل الفعال» الذي هو عند الفلاسفة اليونان فوق العقل الإنساني، تفيض منه الصور على عالم الكون والفساد، فتكون موجودة فيه من حيث هي فاعلة. أما في عالم الكون فلا توجد إلا من حيث الانفعال. وقد وصفه أرسطو بصفات تسمو به عن عالم الإنسان، وعن العالم الطبيعي، فجعله الخالد وغيره من العقول قابل للفساد .
ولا يخفى أن هؤلاء الفلاسفة قد ساروا خلف المفهوم اليوناني للعقل، وهو بالطبع مختلف عن المفهوم الإسلامي، ومشوب بعناصر وثنية مختلطة بعبادة للعقل، لذا جاءت نظرية العقل عندهم بعيدة عن التصور الإسلامي، وامتزجت بشيء من التصوف، والتعبير بالمصطلحات الدينية عن معان فلسفية، فأدى ذلك كله إلى اختلال المنهج الذي أفضى إلى اختلال التصور العقيدي، وخاصة شرح عملية الخلق وعملية المعرفة،المفهوم السابق للعقل على أنه قدرة فطر الله الناس عليها تمكنهم من تمييز الصدق من الكذب والحق من الباطل، على بساطتها، لم تلبث أن اضطربت مع انتشار الفلسفات الإغريقية، وما حملته من مفاهيم ما ورائية مرتبطة بالتصور الإغريقي للوجود.
كما حاول الفلاسفة إيجاد منهج توفيقي بين الإسلام والفلسفة في الاعتراف بالنبوة والوحي وإخضاعها لسلطان العقل، لكنهم ضلوا وانحرفوا، حيث جعلوا العقل المصدر الأول للحكم على كل شيء فهم يرون:
1 ـ أن الأصل الذي يصدر عنه العقل والوحي واحد هو الله أو العقل الفعال، ومن ثم ما يأتيان به واحد، فلا يمكن حصول تضاد بينهما فيما جاءا به من حقائق.
2 ـ أن مصدر الحقائق في الفلسفة هو عقل الفيلسوف، وفي الدين هو مخيلة النبي.
3 ـ أن ما يأتي عن طريق التخيل يكون على شكل رموز تغلف بها الحقيقة، من أجل عامة الناس الّذين لا يدركون الحقائق بشكلها المجرد كما يفهمها الفلاسفة فالاتفاق بين الفلسفة والشريعة إنّما هو اتفاق في الباطن المتخفي وراء الظواهر، ونتيجة لما سبق يتضح في منهجهم أن الفيلسوف لم يعد بحاجة إلى النبي لأنه يعرف حقائق الأمور بعقله في حين أن النبي يتخيلها بل إن النبي في زعمهم محتاج إلى الفيلسوف الباحث بعقله الحرّ ، ليعينه على تفسير بعض الحقائق).
هذا جانب من التخطيط الفلسفي الذي اعتمد على تقديس العقل، وجعله الأساس في كل شيء، إلى درجة أن هؤلاء قالوا إن الله هو العقل الفعال أو العقل المحض، وهذا اعتداء على مقام الألوهية. وهكذا نرى أن الفلاسفة قد انزلقوا في متاهات العقل وبراهينه القاصرة عندما حاولوا تفسير أمور الغيب وما وراء الطبيعة التي لا مجال للعقل فيها إلا بهدي من الوحي السماوي، وبقيت أدلتهم مجرد تصورات عجزوا عن تطبيقها في عالم الوجود الواقعي.
وهكذا نجد أن الفلاسفة المسلمين الأوائل تبنوا النظرية الإغريقية للوجود، واعتمدوها في كتاباتهم. فالفارابي (ت 339) يستعير التصور الإغريقي لبنية الوجود، فيقول:
"المبادئ التي بها قوام الأجسام والأعراض التي له ستة أصناف، لها ست مراتب عظمى، كل مرتبة منها تحوز صنفاً منها؛ السبب الأول في المرتبة الأولى، الأسباب الثواني في المرتبة الثانية، العقل الفعّال في المرتبة الثالثة، النفس في المرتبة الرابعة، الصورة في المرتبة الخامسة، المادة في المرتبة السادسة." تتولد عن نظرية الوجود هذه نظرية معرفة للعقل الفعال فيها أثر رئيسي في توليد معارف جديدة. فالعقل الفعّال هو الذي يمكن الإنسان من تعقل الأجسام التي ليست بذواتها معقولات، لأن "المعقولات بذواتها هي الأشياء المفارقة للأجسام، والتي ليس قوامها في مادة أصلاً." ومن خلال تحويل صور الأجسام إلى معقولات ثم تلقينها للعقل الإنساني، يتحول هذا الأخير من عقل بالقوة إلى عقل بالفعل.
لذلك يؤكد الفارابي أن "القوة الناطقة التي بها الإنسان إنسان ليست هي في جوهرها عقلاً بالفعل، ولم تعط بالطبع أن تكون عقلا بالفعل، ولكن العقل الفعال يصيرها عقلاً بالفعل، ويجعل سائر الأشياء معقولة بالفعل للقوة الناطقة." وهكذا يقوم الفارابي بإعادة تفسير الحقل المعرفي الإنساني انطلاقاً من فرضية العقل الفعّال والمعقولات المفارقة الناجمة عن فعله وبإعادة تفسير ظواهر الوجود، بما فيها ظاهرة الوحي والألوهية. فالموجودات التي تحتل رتبة أعلى من العقل الفعّال لا تعقل إلا ذواتها. بينما يتفرد العقل البشري من بين الأنفس العاقلة بتعقل المادة، بهدي من العقل الفعّال. والعقل الفعّال الذي يمثل الفيض الإلهي هو الوحي الذي يهدي الإنسان إلى معرفة الحق. "فهذه الإفاضة الكائنة من العقل الفعّال إلى العقل المنفعل بأن يتوسط بينهما العقل المستفاد هو الوحي."
إن الفارابي الذي كان طبيبا ورياضيا أيضا ويعتبر أذكى من فسر أرسطو وأكثرهم علماً وثقافة، وتمتع بحماية سيف الدولة الحمداني أمير حلب. قد تناول عدداً من المسائل السّياسيّة بروحٍ فلسفيّة تأمليّةٍ تنتهي إلى مطابقة ما بالأعيان للتصوّرات الفلسفيّة للكون والعالم الاجتمـاع المدني الّذي ينبغي أن يخضع للمبادئ والنّواميس الّتي يخضع لها العالم الطّبيعيِّ ذاته ، تلك المبادئ الّتي تنطلق من التّسليم بوجود اللّه بوصفه رأس الموجودات وكمالها المطلق وواجب الوجود الّذي يعقل ذاته بذاته وتصدر عنه سائر الموجودات باعتبار أن وجوده هو المصدر الّذي تصدر عنه الأشياء كلّها ، من هنا جاء ترتيبه للعقول ابتداءً بالعقل الأوّل الّذي تصدر عنه العقول العشرة الباقية ، متأثّراً بنظريّة الفيض الأفلاطونيّة .فرأس مجتمـعالمدينة ينبغـي أن يكون الرّئيس ، الّذي يعتبر السّبب الأوّل في وجودها ، فالرّئيس أوّل العناصر ، وأكثرها أهمّيّة في الاجتمـاع المدني ، وهو بمنزلة الموجود واجب الوجود بالنّسبة للموجودات الصّادرة عنه ، في علاقته بالاجتمـاع المدني ، بمعنى أنّهُ لاوجود للاجتماع المدني المبني على أسسٍ أخلاقيّة فضائليّة من غير الرّئيس الّذي بواسطته يتمّ تنظيم
المجتمـع تنظيمـاً مثالياً مماثلاً للتّنظيم الكـوني الّذي يربط جميع الموجودات بالله ، وعليه فالرئيس هو علّة وجود المدينة الفاضلة ، و وجوده سابقٌ على وجود المدينة الفاضلة ذاتها ، باعتبارها تأتي في سلسلة المراتب التّالية لوجود الرّئيس ، من هنا تسعى إلى التّشبّه به بوصفـه المثال الأعلى للفضيلة وقيمها الأخلاقيّة والنّظام . المثال الأعلى للفضيلة وقيمها الأخلاقيّة والنّظام .
وعليهِ فثمّة رابط بين الأخلاق والسّياسة في فلسفـة الفارابي السّياسيّة انطلاقاً من نظرته لأخلاق الإنسان بوصفه كائناً مدنيّاً، آخذين بنظر الاعتبار هيمنة الأفكـار السّياسية على فلسفته ، والدليل على ذلك أننا نقع على مجموعـة من المؤلّفات السّياسيّة لديه أبرزها: "السّياسة المدنيّة " ، " آراء أهل المدينة الفاضلة " و" تحصيل السّعادة " ، والفارابي كما نظر البعض إليه من " أشدّ الفلاسفة المسلمين عنايةً بالسّياسة رغـم أنّه لم يشارك فيها أدنى مشاركة "
والعقل الفعّال عند الفارابي َيَهِب الإنسان قوّةً ومبدأً به يسعى ، أو به يقدر على أن يسعى من تلقاء نفسه إلى سائر الكمالات .. فيعطيه المعارف والمعقولات بعد أن يتقدّم في الإنسان ويحصل فيه الجـزء الحاس من النّفس ، والجزء النّزوعي الّذي به يكون الشّوق والكراهة التّابعان للحاس.. فبهذين تحصل الإرادة إذ يعزو إليها كلّ أفعال الإنسان من المحمود والمذموم والجميل والقبيح . فالإرادة أوّلاً هي : شوق عن إحساس، والشّوق يكون بالجزء النّزوعي والإحساس بالجزء الحاس . وهي ثانياً : شوقٌ عن تخيّل ، وبعد أن يحصل هذان يمكن أن تحصل المعارف الأُوَّل الّتي تحصل من العقل الفعّال في الجزء النّاطق . وهي ثالثا: شوقٌ عن نطق ، وهذا هو المخصوص باسم الاختيار ، وهو الّذي يفرّق الإنسان عن سائر الحيوان طبقاً للتّعريف الشّائع بأنَّ "الإنسان حيوان ناطق " ولعل هذا النّوع من الإرادة هو الأهمّ بين الإرادات المذكورة " بهذا _[النّوع ] _ يقدر الإنسان أن يفعـل المحمود والمذموم ، والجميل والقبيح ، ولأجل هذا يكون الثّواب والعقاب" أمّا الإرادتان الأوّليان فإنّهما قد يكونان في الحيوان غير النّاطق،وبذلك فهما مشتركتان بين الإنسان والحيوان ، بينما إذا حصلـت الإرادة الثّالثة في الإنسان ،يكون بوسعه أن يسعى نحو السّعادة أو أن لا يسعى ، وأن يفعل الخير أو أن يفعل الشّر ، وأن يفعل الجميل أو القبيح أيضاً.
إن الاستعداد والموهبة للرّياسة موجودة بشكل فطري في الرّئيس. ومن ناحية أخرى هنالك رئاسات يكون فيها الرّئيس مرؤوساً لرئيس آخر وفـق تسلسل تراتبي ، باستثناء الرّئيس الأوّل الّذي لا يحتاج ولا في شيء أن يرأسه إنسان ، الأمـر الّذي يستدعي أن تكون العلوم والمعارف لديه حاصلةً بالفعل ولا حاجة به أن يرشده غيره في شيء ، وتكـون له قدرة عل جـودة إدراك شيء ممّا ينبغي أن يعمـل من الجزئيّات ، وقوّة على جودة إرشاد لكلّ من سواه إلى كلّ ما يعلّمه ويكون لديه قدرة على تقدير الأعمال وتحديدها وتسديدها نحو السّعادة وهذا لا يكون على حدّ قوله إلاّ : " في أهل الطّبائع العظيمة الفائقة إذا اتّصلت نفسه بالعقل الفعّال "( المصدر نفسه ، ص 9 ).ويتمّ بلوغ ذلك بأن يحصل له أوّلاً العقل المنفعل ثمّ أن يحصل له بعد ذلك العقل المستفاد : " فبحصول المستفاد يكون الاتّصال بالعقل الفعّال " بمعنى أنَّ العقل المستفـاد هو الصلـة الّتي تصل بين العقل المنفعل والعقل الفعّـال، والشّخص الّذي يحصل له ذلك _ كما هو الحال عند القدماء _ هو الملك الّذي يوحى إليه كونه بلغ هذه الرّتبة ، فتفيض من العقل الفعّال إلى العقل المنفعل القوّة الّتي بها يمكن أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال وتسديدها نحو السّعادة:"ويتمّ ذلك على اعتبار أنَّ العقل المنفعل هو شبه المادّة والموضوع للعقل المستفاد، والعقل المستفاد شبه المادّة والموضوع للعقل الفعّال ، وبما أنَّ العقل الفعّال فائضٌ عن وجود السّبب الأوّل ، يمكن القول بأنَّ السّبب الأوّل هو الموحي إلى هذا الإنسان بتوسّط العقل الفعّال.
"بناءً على ذلك يستنتج الفارابي بأنَّ رئاسة هذا الإنسان الموحى إليه من السّبب الأوّل بتوسّط من العقل الفعّال هي الرّئاسة الأولى في حين أنَّ سائر الرّئاسات متأخّرة عن هذه وكائنة عنها .. وينتج من ذلك أنَّ النّاس الّذين يُدَبَّرون برئاسة هذا الرّئيس هم النّاس الفاضلون والأخيار السّعداء ، فإن كانوا أمّةً فتلك هي "الأمّة الفاضلة"،وإن كانوا أُناساً مجتمعين في مسكنٍ واحـد يجمـع جميع من تحت هذه الرّئاسة فهي "المدينة الفاضلة" أمّا من كانوا في مساكن متفرّقة يُدَيَّر أهلها برئاساتٍ أُخر غير هذه كانوا أناساً أفاضل يعرض تفرّقهم لأسبابٍ متعدّدة، إمّا أنّه لم تتّفق لهم بعد مدينة يجتمعون فيها ، أو أنّهم كانوا في مدينةٍ عرضت لها آفات من عدوٍ أو وباء أو جدبٍ أو غير ذلك فاضطرّوا إلى التّفرّق،بعد ذلك ينتقل الفارابي للحديث عن طبيعة المدينة أو الأمّة الواحدة أو الأمم الكثيرة الّتي يتواجد فيها جماعة من الملوك في وقتٍ واحد، بأنّها تكـون موحّدةً كملك واحد نظراً لاتّفاق هممهم وأغراضهم وسِيَرِهم ، فتصبح القيادة الجماعيّة أمـراً يسيراً فيما بينهـم لعلّة تجانسهم ووحـدة مقاصدهم وأهدافهم ، وعليه يكون بالإمكـان تشكيل مجلس رئاسة منهم، فتكون نفوسهم كنفسٍ واحدة حتّى إذا توالوا في الأزمان واحداً بعد آخر، بحيث يكون الثّاني على سيرة الأوّل والغابر على سيرة الماضي، وهذا التّواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل لا يعني الجمود والتّقليد الخصال الواجب توفرها في رئيس المدينة الفاضلة:
ينبغي لرئيس المدينة الفاضلة حيازة اثنتي عشرة خصلة تكون قد اجتمعت فيه بالطّبع ويكون قد فُطِرَ عليها ، بالإضافة إلى توفّر ستة شروطٍ أخرى مكتسبة لكنّها لازمة (، آراء أهل المدينة الفاضلة) .
وأكثر النّاس يؤمّون السّعادة بالتّخيّل لابالتّصوّر ، لأنَّ التّخيّل أيسر لدى العقول من التصوّر إليها ، ناهيك أنَّ الأكثريّة من النّاس هم من ذوي الرّتب الخادمة والعاديّة : " وأكثر النّاس الّذين يؤمّون السّعادة إنّما يؤمّونها مُتخيّلةٍ لا متصوّرة ، والذّين يؤمّون السّعـادة متصوّرة ً ويتقبّلونها ، ويؤمّونها عل أنّها كذلك هم المؤمنون". . والأمور الّتي تُحاكى بالتّخيّل تتفاضل في الدّرجة، فمنها ما هو أزيد ومنها ما هو أنقص: " فيكون بعضها أحكم وأتمّ تخيّلاً، وبعضها أنقص تخيّلاً ، وبعضها أقرب إلى الحقيقة ، وبعضها أبعد عنها .. "
ثمّة مدن مضادّة للمدينة الفاضلة: المدينة الجاهليّة ، المدينة الفاسقة ، المدينة المتبدّلة، والمدينة الضّالة، ونوائب المدن. أمّا الجاهليّة : فهي تلك الّتي لم يعرف أهلها السّعادة ، ولا خطرت ببالهم ، وإن أُرشِدوا إليها لم يفهموها ولم يعتقدوها .. والسّعادة هي عندهم هي ما عرفوه من الخيرات تُظَنّ أنّها الغايات في الحياة وهي سلامـة الأبدان، واليسار والتّمتّع باللّذات وأن يكون مُخلى هواه ، وأن يكون مكرماً معظّماً ، فكل واحدة من هذه سعادة عند أهل الجاهليّة أنَّ فلسفة الفارابي السّياسيّة لم تكن معزولة عن منظومة أفكاره الفلسفيّة ، بمعنى أنَّ ما هو سياسيّ في فكر الفارابي يرتكز على ما هو فلسفيّ فيه ، فالسّياسي مرتبطٌ بالفلسفي ارتباطاً جوهريّاً يستحيل الفصل بينهما .
النّقطة الأخـرى في تصوّر الفارابي لرئيس المدينة الفاضلة أن يكون قادراً على الولوج في العالم الرّوحي والاندماج معه، للوصول بأهل المدينة إلى السّعادة الكاملة الّتي لا تدوم إلاَّ بدوام الاتّصال بالعقل الفعّال سواءٌ بطريق التّصـوّر العقلي أو بطريق التّخيّل ، القائمين علـى التّأمّل والإلهام ،وهذا يستدعي الجمـع بين النّبوّة والفلسفة في شخص رئيس المدينة الفاضلة
أما الكندي وهو مفكر لمع في عهد المأمون والمعتصم واشتهر بأصالة عبقريته وعمق معارفه، وأجاد لغات الإغريق والفرس والهنود، وكتب في الفلسفة والرياضة والفلك والطب والسياسة والموسيقى، وتولى ترجمة مؤلفات أرسطو إلى العربيةبتكليف من المأمون. فيرى أن العقل الفعال هو العلة الحقيقية لكل معقول في الوجود، على حين رأى الفارابي، وهو مؤسس نظرية الفيض والإشراق، أن العقل الفعال شيء خارج النفس، وأنه آخر العقول السماوية، ويسميه الروح الأمين، أو روح القدس، أو واهب الصور.
وحاول ابن سينا أن يطور التصور الإغريقي لسيرورة التعقل، فأدخل مفاهيم جديدة، مثل "العقل الهيولي" و"العقل القدسي"، لكنه احتفظ بفرضية العقل الفعّال. لذلك أطلق ابن سينا على قدرة النفس الفطرية على توليد التصورات والمفاهيم اسم العقل الهيولي، بينما أطلق اسم "العقل بالملكة" على المقدمات الأولية البديهية، "مثل اعتقادنا بأن الكل أعظم من الجزء، وأن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية." شدد ابن سينا على أن العقلين الهيولي وبالملكة عقلان بالقوة لا بالفعل، وزعم أن تحولهما من القوة إلى الفعل يتم بتأثير العقل الفعّال. وينتج عن عملية التحول هذه ظهور "العقل المستفاد"، وهو مجموعة المعارف والعلوم المكتسبة بالنظر والتعلم.
ورأى ابن سينا أن العقل الفعال قوة قدسية، وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية، وهي تفيض على العقول البشرية فتحاكيها، وهذا ضرب من النبوة أو الوحي، في حين يجعل ابن رشد العقل الفعال مظهراً من مظاهر النفس ليس خارجاً عنها، فما هو إلا انتزاع المعاني وتجريدها، يقابله العقل المادي أو الهيولاني الذي هو استعداد لقبول المعاني، الذي جعله خالداً أزلياً ليمكنه الاتصال بالعقل الفعال الخالد.
تأثر الفلاسفة المسلمون تأثروا أيضاً بقدرة العقل الذاتية على تحديد بنية الوجود بشقيه المحسوس والمغيب. لذلك كتب أبو حامد الغزالي كتابه الشهير تهافت الفلاسفة ليظهر أن الفلاسفة يسيرون في أصقاع المعارف الغيبية بلا دليل، "وأنهم يحكمون بظن وتخمين، ومن غير تحقيق ويقين." فاختلف معهم حول مسائل دينية تتعلق بأصل من أصول الدين كالقول في حدوث العالم وصفات الصانع ويبيان حشر الأجساد والأبدان"وقد أنكروا جميع ذلك فهذا الفن ونظائره هو الذي ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه".
إن النص الإلهي لا يمكن أن يتعارض مع الحقائق العلمية الغزالي إذن يرى أن العقل أساس يعتمد عليه في معرفة سنن الله في الطبيعة ومعرفة الظواهر الطبيعية وهذا يدحض لعمري "شائعات" الحداثية العربية المستلبة عن عداء أبي حامد للعقل الغزالي فهو خطأ الفلاسفة في قولهم إن العالم قديم لا أول له ومن المعلوم أن هذا ما يخطئه العلم المعاصر أيضاً الذي يحدد عمر الكون ويقرر أن الزمن بالذات بدأ مع خلق الكون!وهذا ما قرره أبو حامد بألمعية منقطعة النظير حين قال إن العجز عن تصور بدء وجود الزمان عائد "لعجز الوهم عن فهم وجود مبتدأ إلا مع تقدير قبل له" واعترض أبو حامد على قياسهم للخالق على المخلوق واستنتاجهم صفات الخالق من المخلوق واعتراضهم على وجود وقائع غيبية كالجنة والنار وعلى قدرة الله على بعث الأجساد وعلى قلب العادات المألوفة.
في كل هذا كان أبو حامد يرى أن العقل لا يكفي لوحده لتقرير حقائق العالم الآخر الذي لا يعرفه فبين الغزالي بطلان كثير من البراهين التي قدّمها الفلاسفة لإثبات مواقفهم. فعند الحديث عن الأطروحة التي نافح عنها الفلاسفة المشّاؤون القائلة بقدم العالم يثبت الغزالي أن البرهان على قدم العالم يقوم على مقدمة فحواها "استحالة صدور حادث عن إرادة قديمة، " وأن هذه المقدمة ظنية لا يمكن التيقن من صدقها. فهي ليست معرفة ضرورية يلزم قبولها دون دليل من ناحية، كما أن إثباتها برهانياً غير ممكن لفقدان الحد الأوسط الذي يمكن من خلاله الانتقال من المقدمات إلى النتيجة. وهكذا أظهر الغزالي عجز العقل البشري عن تحديد الحقائق الغيبية من خلال مقدمات نظرية، وحاجته بالتالي إلى مقدمات مستمدة من الخبرة الحسية أو معرفة منبثقة من عبارات الوحي المنـزّل.
لذلك يدعو ابن رشد في كتابه "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال" إلى منهج بديل يقوم على اعتماد المقدمات القرآنية عند النظر في الغيبيات. ويبين ابن رشد منهجه هذا بقوله: "فإن قيل فإذا لم تكن هذه الطرق التي سلكها الأشعرية وغيرهم من أهل النظر هي الطرق المشتركة التي قصد الشارع لتعليم الجمهور بها، وهي التي لا يمكن تعليمهم بغيرها، فأي الطرق هي هذه الطرق في شريعتنا هذه؟
قلنا هي الطرق التي تثبت في الكتاب فقط. فيجب على من أراد أن يرفع هذه البدعة عن الشريعة، أن يعمد إلى الكتاب العزيز، فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء مما كلفنا اعتقاده، ويجتهد في نظره إلى ظاهرها ما أمكنه من غير أن يتأول من ذلك شيئاً، إلا إذا كان التأول ظاهراً بنفسه، أعني ظهوراً مشتركاً للجميع."
لكن دعوة ابن رشد إلى استبدال مقدمات نظرية بمقدمات مستمدة من القرآن في الغيبيات لا يؤدي إلى حل إشكالية التعارض أوتجاوزها، بل يبقى قيام تعارض ظاهري بين الأحكام المستنبطة من الشريعة والأحكام المستنتجة بالبرهان محتملاً. وبالتالي تبقى الحاجة إلى إعمال التأويل بإخراج دلالة الألفاظ من الحقيقة إلى المجاز قائمة. يقول ابن رشد: "وإذا كانت هذه الشرائع حقاً وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا –معشر المسلمين- نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له. وإذا كان هذا هكذا، فإن أدّى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود [إمّا] أن يكون قد سكت عنه في الشرع، أو عرف به. فإن كان مما سكت عنه، فلا تعارض هنالك، وهو بمنـزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق [إمّا] أنْ يكون موافقاً لما أدّى إليه البرهان فيه أو مخالفاً. فإن كان موافقاً فلا قول هنالك وأن كان مخالفاً طلب هنالك تأويله.
وقد تنبه أهل السنة لمدى مخالفة فهم الفلاسفة اليونان لفهم الإسلام للعقل، ولا سيما ابن تيمية، حيث بيّن فساد آرائهم وفساد منطقهم، وقام بتفنيد هذا المنطق. والملفت للنظر أن المناطقة الغربيين المحدثين ساروا على طريق ابن تيمية نفسه في رفض المنطق الأرسطي. وقد بيّن ابن تيمية أنهم يصيبون في الحساب والطبيعة وكثير من علم الفلك، لكن فلاسفة المسلمين كما وصفهم "خير وأدق، وقلوبهم أعرف، وألسنتهم أنطق، وذلك لما عندهم من نور الإسلام".
ومع هذا الموقف الناقد بشدة للعقلانية اليونانية، فإن ابن تيمية بيّن أن الفلسفة ليست كلها ضلالا؛ فالفلاسفة الذين استناروا بنور النبوات، واستقلوا بالنظر العقلي دون تقليد أعمى للفلسفة اليونانية، أصوب رأيا وأدق قيلا، مثل أبي البركات البغدادي في كتابه "المعتبر في الحكمة"؛ حيث إنه كما وصف ابن تيمية: "أثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه ردا جيدا، وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله".
إن الحديث عن التعارض بين الوحي والعقل يفترض قيام علاقة تشابه أو تماثل في المحتوى والمضمون. فنحن مثلاً لا نتحدث عن تعارض بين مفاهيم وقضايا الجغرافيا والكيمياء، نظراً لاختلاف طرائق النظر وموضوعه في كل من الدائرتين المعرفيتين السابقتين. فالحكم الجغرافي بأن "جبال الهملايا أعلى جبال في العالم" لا يتعارض مع الحكم الكيميائي بأن "المعادن تذوب في الحوامض". فهل يتماثل مضمون الوحي ومضمون العقل؟
فإذا نظرنا في محتوى العقل المكتسب وجدنا أنه ينطوي على تصورات وتصديقات (أو مفاهيم
وأحكام) تنقسم إلى أنواع ثلاثة متمايزة:
1- أحكام متعالية عن الوجود الحسي ومرتبطة بالوجود المغيّب، كالحكم بأن النفوس تبعث من جديد بعد موتها لتثاب على أعمالها.
2- أحكام قيمية توجه العقل البشري في دائرة الحياة الاجتماعية، كالحكم بأن الصدق حسن والكذب قبيح.
3- أحكام تجريبية مستمدة من ملاحظات الإنسان الطبيعية والتاريخية، كالحكم بسقوط الأجسام التي تزيد كثافتها عن كثافة الهواء نحو مركز الأرض، أو الحكم باقتضاء الفساد الإداري في مجتمع ما تراجع اقتصاده وانهيار حضارته وعمرانه.
إن التأمل في بينة العقل يظهر لنا أن التعارض بين أحكام الوحي وأحكام العقل الفطري غير ممكن، نظراً لخلو العقل الفطري من الأحكام المضمونية واقتصاره على الأحكام الإجرائية.
وحديثاً اهتمت بعض الكتابات بالعقل وألّف الدكتور الجوزو مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة. وكُتبت دراسات جامعية في "العقل عند الأشاعرة" و"العقل عند الشيعة الإمامية"، وحُققت بعض كتب المتقدمين ومقالاتهم مثل "العقل وفهم القرآن" للحارث المحاسبي (توفي 243/857م) و"العقل عند ابن رشد" وغير ذلك. ومنذ بداية السبعينات، وعقيب هزيمة 1967 تزايدت تلك الدراسات والكتب التي تتحدث عن العقل العربي، ماضيه المنصرم، وحاضره المشهود ، ومستقبله المنشود وقد كتب الدكتور برهان غليون اغتيال العقل العربي، وكتب الدكتور محمد عابد الجابري تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي، وألّف الدكتور الجوزو مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة. وكذلك كتب الدكتور حسن حنفي والدكتور محمد أركون، من تلك الدراسات كتب ثلاث (بنية العقل العربي) : د. محمد عابد الجابري (خطاب إلى العقل العربي) : د. فؤاد زكريا. (قصة عقل) : د. زكي نجيب محمود .
ويلاحظ إن هذه الكتب وقعت في نفس الثغرة الأساسية الموجودة في موقف كثير من العقلانيين وهي الاعتقاد في ثبات العقل وواحديته أيضاً. وقد وقع أفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وليبنتز وكانط في هذه الثغرة بإضفائهم الثبات المطلق على صورة العقل ومقولاته ومبادئه. وهذا التصور أثبتت نظرية المعرفة الحديثة قصوره؛ لأن العقل كأي ظاهرة تاريخية قابل للتغير والتطور وفى كل مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز ذاته حيث يعيد بناءها بشكل جديد
فبادىء ذي بدء يرى الجابري ان اداة المعرفة العربية التي يطلق عليها بـ «العقل العربي» هي نتاج الثقافة العربية حتى في مظهرها الفاعل. فهي عبارة عما خلفته وتخلفه الثقافة العربية في الإنسان العربي بعد ان ينسى ما يتعلمه في هذه الثقافة من الآراء والمعتقدات والايديولوجيات. فما يبقى هو «الثابت»، وما ينسى هو «المتغير».. فما يبقى هو ذات العقل أو الاداة بعد نسيان ما افرزته من آراء ومذاهب، مستلهماً ذلك من التعريف المشهور للثقافة بأنها عبارة عن «ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء». واستناداً إلى بعض الغربيين اعتقد الجابري ان التعريف العلمي المعاصر للعقل هو انّه عبارة عن «القدرة على القيام باجراءات حسب مبادىء»، أو هو «لعب حسب قواعد». مؤكداً ان «العلم لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع»، وبالتالي فان العقل هو جملة قواعد مستخلصة من موضوع ما، اي من الموضوع الذي يتعامل معه الإنسان، فتعدد انواع المنطق والقواعد العقلية يأتي من تعدد انماط الحياة.
لقد جاء الفيلسوف المستشرق ارنست رينان «1832 - 1892» ليوظف نظرية الجنس في النظام المعرفي والعقلي، بل وأقام التفاضل العرقي بين الجنسين، حيث جعل من الجنس الآري متفوقاً على الجنس السامي. وقد توجت هذه النظرية اخيراً لدى بعض اتباع رينان من المستشرقين، كما هو الحال مع «ليون غوتييه» في اوائل هذا القرن، حيث ميز العقل السامي عن العقل الآري، معتبرا ان العقل الاول عاجز عن ان يرى الاشياء مترابطة، فرؤيته تجزيئية انفصالية ينقصها الانسجام والارتباط، بخلاف ما هو الحال في العقل الآري الذي له القدرة على الربط بين الاشياء والعقد فيما بينها بعقدة الاتصال والانسجام بوسائط تدريجية. لهذا فهو يرى ان الفلسفة اليونانية على على خلاف تام مع الدين العربي الاسلامي، فالاولى ترجع إلى الجنس الآري وهي لهذا قائمة على الوصل والارتباط، بينما يرجع الثاني إلى الجنس السامي، وهو لهذا يقوم على الفصل والتجزئة.
تكاد تكون النتائج الرئيسية التي توصل اليها الجابري في اعتبار تفاوت العقول المعرفية وتفاضلها واعتبار العقلية العربية البيانية هي عقلية فصلية تجريئية، تتشابه تماماً مع النظرية العرقية التي نظّر لها رينان واتباعه. لكن الملاحظ ان من الخطأ اتهام نظرية الجابري بالعرقية استناداً إلى وحدة النتائج، ذلك ان طرحه لا يتعالى على الحقيقة الإنسانيّة، فلا يذهب إلى صياغة العقل بالارتداد إلى الجنس كجنس، بل انّه يربط بنية العقل وتكوينه بالجغرافية اساساً، ومن ثم باللغة كجهاز استلام وارسال يضمر في داخله حقائق البيئة ذاتها. لهذا كانت مفاهيم اللفظ والاعرافي والصحراء والنحو والبلاغة وغيرها هي من اهم المفاهيم الموظفة في مشروعه للتعرف على كنه العقل العربي. فالجغرافية واللغة هي اهم ما في المشروع من اساس لتحليل تكوين العقل وبنيته، منهجاً ورؤية.
ومن ناحية أخرى فإن الجابري في تحديديه للعلاقة بين الفلاسفة الاسلاميين والثقافة العربية، جعل من هؤلاء الفلاسفة يقرأون الثقافة اليونانية بواسطة الثقافة العربية. وهو يضع قاعدة «عرفية» تتحدد بموجبها «الجنسية الثقافية» لكل مفكر، من حيث ان التفكير داخل ثقافة معينة لا يعني التفكير في قضاياها، بل التفكير بواسطتها، لذا اعتبر «الفارابي مثلاً الذي فكر في قضايا الثقافة اليونانية هو مفكر عربي لانه فكر فيها بواسطة الثقافة العربية من خلالها». وفي نفس الوقت ان «التفكير بواسطة ثقافة ما، معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل احداثياتها الاساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل، بل والنظرة إلى العالم، إلى الكون والإنسان كما تحددها مكونات تلك الثقافة».
والواقع ان المشروع حاول ان يعكس علاقة الفلاسفة والمتصوفة الاسلاميين بالثقافة العربية الإسلامية كي يجد مجالاً لادخالهم ضمن بنية «العقل العربي» ولو افضى ذلك بالتناقض. فهو يجعل الفلاسفة الاسلاميين وكأنهم يفكرون في قضايا يونانية بواسطة الثقافة العربية، مع ان العكس هو الصحيح، اذ انهم يفكرون في قضايا يونانية واسلامية بواسطة الثقافة اليونانية ذاتها، بواسطة «العقل اليوناني»، فهو الاساس، وإلاّ فكيف يعترف المشروع ان اساس ما يقوم عليه الفلاسفة الاسلاميون هو البرهان والعقل الكوني الذي هو اداة «العقل اليوناني» كما نظمه أرسطو.
وأخيراً قدم المؤلف للعقلية العربية حلاً مبنيًا على ضرورة القضاء على سلطة السلف في حياة الأمة ، والخروج من قيد اللفظ والنص ، وإسقاط القياس كمسلك عقلي للاستنباط واعتماد "العقل" وحده بديلاً ، من خلال عصر تدوين جديد يقوم على فكر الرباعي "المغربي" الأندلسي (ابن حزم - ابن رشد - ابن خلدون - الشاطبي) .
الكتاب الثاني: خطاب إلى العقل العربي
أما الكتاب الثاني ، فهو عبارة عن عدة مقالات مجموعة ، صدرت في مجلة العربي للكاتب د. فؤاد زكريا ، في الفترة ما بين 1976-1987 تحت عنوان "خطاب إلى العقل العربي". وتناول هذه المجموعة من المقالات عدة موضوعات ، قسمها صاحبها إلى ثلاثة أقسام:
1- دافع الثقافة العربية .
2- الفكر والممارسة في الوطن العربي .
3- أضواء على العالم المعاصر .
والكاتب - كغيره من أصحاب الاتجاه اليساري المادي - يتوهم صراعًا دائرًا بين العلم والدين (ص 64) في المجتمع الإسلامي ، على غرار الصراع بين الكنيسة والعلم في أوربا القرون الوسطى ، ويعزو لتلك المشكلة الموهومة أسباب التخلف والانحطاط!.
كذلك فهو يرى أن أسس الدين الإسلامي ، التي تقوم على أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأن "كلمة الله الحرفية التي لا يتناولها التغيير ولا التبديل" ، يجعل من الصعب على المسلمين أن يتقبلوا تغييرًا في طبيعة العلاقة بين الله - عز وجل - وبين الناس على غرار ما تقبلته أوربا حين قدمت إلهًا يحكم العالم بالرياضيات ، في فكر ديكارت ، أو غير ذلك من صور العلاقة بين الخالق والمخلوق ، التي تنحى فيها سلطة الخالق وسيطرته الفعلية على البشر بشكل تام وحاسم . والحق أن إثارة مثل تلك المشاكل المفتعلة ، وتقديم مثل تلك التحليلات الواهية إنما يعكس ضحالة المعرفة وقصور الفهم بطيعة الدين الإسلامي.
الكتاب الثالث: قصة العقل
وفي سلسلة الحديث عن العقل العربي ، قدم الدكتور: زكي نجيب محمود كتابه "قصة عقل (1983) الذي نحا فيه منحى السيرة الذاتية العقلية ، مؤرخًا لرحلته الثقافية منذ اشتراكه في مجلة لسلامة موسى ، بمقالات عن وحدة الوجود إلى أن اتجه إلى الثقافة الغربية اتجاهًا تاماً ، يصوغ من خلالها اتجاهه الفكري ، وليتخير منها مذهبًا فلسفيًا يجعله له "هاديًا ونبراسًا" (ص 93) هو مذهب "الوضعية المنطقية" لفتجنشتين ولما كان الإيمان من قبيل الوجدانيات كما يراه المؤلف متبعاً مذهب الوضعية المنطقية ولما كانت ألفاظه تعبر عن معان ذاتية لذلك فهو "تصديق بغير برهان ، وأما منطق العقل فطريقه البراهين"!. لذلك فالتعبيرات التي تتناول موضوعات كالإيمان أو غيره "هي تعبير ذاتي عما يخالج المتكلم من مشاعر، وهاهنا لا منطق ولا قضايا تقاس بمقاييس موضوعية لتفرقة بين حق وباطل"(ص 175) .
وبناء على ذلك فإنه ليس من حق أي جماعة "أن تتهم أنصار فكرة بعينها أنصار فكرة أخرى بالضلال إذا كان كل من الجماعتين مستندًا إلى مبادئ غير المبادئ التي تستند إليها الجماعة الأخرى".
"العروي" من العقل إلى العقلانية
يقول العروي في كتابه «مفهوم العقل» «لا يكون العقل عقلانية، لا يجسّد في السلوك، إلاّ
إذا انطلقنا من الفعل، وخضعنا لمنطقه، ثم بعد عملية تجريد وتوضيح وتعقيل، أَبْدَلْنَا به المنطق
الموروث، منطق القول والكون، منطق العقل بإطلاق» فحتى الذهنية الناظمة لتفكير محمد عبده باتجاهه العقلي هي الذهنية الكلامية ، وهي ذهنية ترى أن العقل عقل للنص، «فالعقل هو ما يعقل العقل ويحده، وما يعقل العقل، ويؤسسه كعقل، هو علم المطلق، الذي هو علم مطلق».وفي سياق سعيه للبرهنة على استحالة منطق الإحياء والبعث والتجديد من الداخل، وكذا استحالة الحلول الوسطى التوفيقية، التي تخلط بين الأزمنة والعصور والمفاهيم، خصص الأستاذ العروي، القسم الثاني من الكتاب، لإبراز حدود ومحدودية العقل الإسلامي في تجلياته ذات الطابع العملي.
إن العقل في نظام الفكر الإسلامي بالنسبة للمؤلف واحد، والخلافات داخل قلاع الثقافة الإسلامي، بين الفقه والفلسفة والكلام والتصوف، رغم عنفها في بعض اللحظات، ظلت تنشأ بتعبير المؤلف «على الأطراف والتخوم، لا على المعاقل والحصون» ووظيفة العقل في مختلف تجليات ومظاهر العقل الإسلامي، تتجلى في عملية التأويل باعتبارها عملية «تَطَلُّعٍ إلى الأول والأولي، عقل الأمر والإسم»، حيث يكون العلم هو «فقه الأوامر» يدعونا العروي لنعاصر فعلاً، عقلانية الأزمنة الحدثية، ونتحدث لغتها، فتتقلص حدة المفارقات ونتصالح مع التاريخ، حيث نكون قد تخلينا عن العقل الوسيط، وتملكنا معقولية الأزمنة الحديثة.
إن مفهوم العقلانية في الساحة الفكرية يناقش عادة تحت وطأة الجدل السياسي حول العلمانية والدين، حيث يحتكر الطرف العلماني الحديث باسم العقلانية في حين يبدو وكأن الطرف الذي يدافع عن الدور الفعال للدين في المجال العام بدوائره المختلفة يقف موقف التحفظ من العقلانية إن لم يكن العداء لها، فالعقلانية اقتراب فكري يعتبر العقل مركزيًّا في توليد المعرفة الصحيحة. ويتحدد معنى "العقلانية" المقصود بحسب المجال: نظرية المعرفة الدين، علم الأخلاق، المنطق، العلم الطبيعي والرياضي. لكن الاستخدام الأكثر شيوعاً للكلمة يتعلق بنظرية المعرفة واقتراب التعامل مع الدين (وحياً ونبوة) كمصدر للمعرفة والإسلام لا يرفض العقلانية بكل أنواعها ومستوياتها، إنه فقط يرفض العقلانية الجذرية (أو العقلانية الأصولية إذا جاز التعبير) والتي ترفض أي مصدر للمعرفة غير العقل.
يُدرَكُ بعين اليقين ونور الإيمان لا بالعقل. فإنا نريد بالعقل: ما يريده بعين اليقين ونور الإيمان، وهي الصفة الباطنة التي يتميز بها الآدمي عن البهائم حتى أدرك بها حقائق الأمور. وأكثر هذه التخبيطات إنما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ."
حجة الإسلام الغزالي
الباحث في مفهوم العقل والنزعة العقلية في الفكر الإسلامي يتنازعه اقتناع وهاجس اقتناع بأهمية استعادة العقل لتجاوز أزمة المسلمين الحضارية وهاجس الانزلاق لاجترار الثنائيات المتكررة في الفكر الإسلامي من قبيل العقل والنقل وأهل الرأي وأهل الحديث وعقل أم عقلانية لكن عمق الأزمة التي تكتنف وجود المسلمين في العالم المعاصر يوجب إعادة اكتشاف المفهوم في سياقه الحضاري الإسلامي.
اللغة وعاء الفكر وأداة التوصل الحضاري، لذلك يصبح التحديد اللغوي للمفهوم أول خطوة في تبين موقعه من منظومة الفكر، ولغويا أصل العقل من "عقل": العين والقاف واللام أصلٌ واحد منقاس مطرد ، يدلُّ عُظْمُهُ على حُبْسة في الشيء أو ما يقارب الحبسة. من ذلك العقل، وهو الحابس عن ذميم القول والفعل. والعقل: الحِجْرُ والنُّهَى، ضدُّ الحُمْقِ. رجلٌ عاقلٌ وهو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عَقَلْت البعيرَ إذا جمعت قوائمه. والعقلُ: التثبُّت في الأمور. والعقل: القلبُ، والقلبُ العقلُ، وسُمِّيَ العقلُ عقلاً لأنه يَعقِلُ صاحبَهُ من التورط في المهالك، أيْ يحبسه. وقيل: العقل هو التمييز الذي يميز الإنسان من سائر الحيوان. ويقال: لفلان قلبٌ عقولٌ، ولسان سئول. وقلبٌ عقول: فَهِمٌ؛ وعَقَلَ الشيءَ يَعقِلُهُ عَقلاً: فهِمَهُ. والعقلُ مطلَقٌ لِقوَّةٍ بها يكون التمييز بين القُبح والحُسْن، ولمعانٍ مجتمعة في الذهن.
ومما سبق يمكن الخلوص إلى أن المعنى اللغوي لكلمة «عقل» يدور المعنى اللغوي لكلمة «عقل» في أغلب المعاجم العربية ـ وأيضاً غير العربية ـ حول معان، هي: الربط، والضبط والإمساك، والحفظ وهذا هو المعنى الحسي المادي للكلمة وكثير من جزئياته تتوفر في العقل البشري، فهو يحفظ صاحبه، ويمنعه مما يضره، وبه يضبط أموره ويفهمها، ويميز بين السقيم والسليم وقد اختلف الناس في تحديد مكان العقل في الجسم، أهو في الرأس ؟ أم في القلب ؟ أم في سائر الجسد ؟. ومن مترادفات العقل: الحِجر، ويسمى العقل حِجْرًا لكونه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته. وأيضا من أسماء العقل: النُهية، والجمع نهى.
وعند ابن منظور: النهى: العقل- يكون واحدا وجمعا، والنُّهية: العقل بالضم، سميت بذلك لأنها تنهى عن القبيح. وفلان ذو نهية أي ذو عقل ينتهي به عن القبائح ويدخل في المحاسن.
وقال بعض أهل اللغة: ذو النهية الذي ينتهي إلى رأيه وعقله. ومن مترادفات العقل في مختار الصحاح: القلب، وهو كذلك في الاستخدام القرآني. ومن أسماء العقل الفؤاد. وقد يعبر عن القلب بالفؤاد. ويسمى العقل لبا؛ لأنه الذي يعلم الحق فيتبعه، فلا يكون للرجل لب حتى يستجيب للحق ويتبعه.
أما كتاب الله العزيز فقد اهتمّ اهتماماً بالغاً بالعقل، فالكثير من الآيات الكريمة تحضُّ المسلم على اكتشاف حقائق الوجود، والتفاعل معه، والإفادة منه بإعمال العقل: (أفَلا يَنْظرونَ إلى الإبلِ كَيفَ خُلِقَتْ وإلى السَّماءِ كَيفَ رُفِعَتْ وإلى الجِبالُ كَيْفَ نُصِبَتْ وإلى الأرضِ كَيفَ سُطِحَتْ ). (أفَلَم يَسِيرُوا فِي الأرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلُونَ بِها ). (أَلمْ يَنْظُروا في مَلَكُوتِ السَّمواتِ والأَرضِ وَما خَلَقَ اللهُ من شَيء ) .(أَوَلَمْ يَنْظُروا إلى الأَرض كَم أنبَتنا فيها من كلِّ زَوج كَريم ). كما وجه القرآن النظر إلى استخدام العقل في الوصول إلى " الحقيقة " فقد دعا بطريق مباشر وغير مباشر إلى تعظيم العقل والرجوع إليه. ويحرص القرآن على تأكيد هذا المعنى حتى إنه ليكرر هذه الدعوة بشكل يلفت النظر ويثير الاهتمام، ويشير القرآن إلى العقل ومعانيه المختلفة ومشتقاته ومرادفاته في نحو ثلاثمائة وخمسين آية مستخدماً لذلك كل الألفاظ التي تدل عليه أو تشير إليه من قريب أو بعيد من " التفكير" و " القلب" و "الفؤاد" و " اللب" و"النظر" و "العلم " و " التذكر" و "الرشد " و " الحكمة " و " الرأي " و "الفقه" إلى غير ذلك من الألفاظ التي تدور حول الوظائف العقلية على اختلاف معانيها وخصائصها وظلالها مما يعتبر إيحاءات قوية بدور العقل وأهميته بالنسبة للإنسان. ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل في القرآن الكريم بمعنى واحد من معانيه بل بكل المعاني التي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها وتتعمد التفرقة في الآيات الكريمة بين هذه الوظائف والخصائص مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع ولا في العقل المدرك ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة، على كثرتها إذ هي جميعاً مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع والعقل المدرك والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء.
ويلاحظ أن كلمة العقل ترد دائما في القرآن الكريم بصيغة الفعل( أفلا يعقلون ) بما تنطوي عليه من معاني النشاط أو العملية. فالعقل في القرآن الكريم لم يذكر كاسم ، أو كشئ مجرد أو معرف بالألف واللام ،) وكأن الخالق ينبه إلى أن هذا الأمر تقوم عليه أمور ثلاثة : عقل مجرد ولكنه قوة يعقل بها فلا بد لها من شخص يحملها ، فكأنها عرض باصطلاح الفلاسفة والمناطقة يحتاج إلى جوهر وهو الذات وتحتاج إلى وعاء زمني فيعبر عنها بعقل ويعقل إلى غير ذلك . وهذا الأمر لا ينظر إليه على أنه غاية في ذاته بقدر ما ينظر إليه على أنه حركي وربما كان في ذلك إشارة لعدم إثبات ذاتية ثابتة ومطلقة للعقل أو اعتباره مرجعية مكتفية بذاتها.
كما ربط القرآن الكريم قضية الانفتاح على الرسالة وأهدافها بالقوى العقلية التي حباها الله تعالى للإنسان فجعل العقل مناط التكليف: قال الآمدي: "اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلاً فاهماً للتكليف، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة، ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب دون تفاصيله من كونه أمراً ونهياً ومقتضياً للثواب والعقاب، ومن كون الآمر به هو الله تعالى وأنه واجب الطاعة، وكون المأمور به على صفة كذا وكذا كالمجنون والصبي الذي لا يميز، فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب، ويتعذر تكليفه أيضاً".
لقد صادق القرآن من جهات مختلفة على حجية العقل. و أشير إلى مورد واحد فقط من ستين إلى سبعين آية من القرآن إلى هذه المسألة وهي: إننا عرضنا هذا الموضوع لتعقلوا (ويتدبروا) فيه.وعلى سبيل المثال من إحدى التعابير العجيبة للقرآن،قوله تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ)) (الأنفال/22)، فغرض القرآن من الصم والبكم بطبيعة الحال ليس الصمم والبكم العضوي، بل، يقصد الأشخاص الذين لا يريدون أن يستمعوا الحقيقة، أو أنهم يسمعونها ولا يعترفون بألسنتهم. فالأذن التي تعجز عن سماع الحقائق وتستعد فقط لسماع والأراجيف أن هذه الأذن صماء من وجهة نظر القرآن. واللسان الذي يستخدم فقط في بث الأراجيف، يعتبر لسانا أبكما القرآن وهم "لا يعقلون" هم الذين لا ينتفعون من أفكارهم، يعتبر القرآن مثل هؤلاء الأشخاص - الذين لا يحق أن يطلق عليهم اسم "الإنسان" بالحيوانات ويخاطبهم بالبهائم. وفي آية أخرى ،وفي سياق عرض مسألة توحيدية،يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) (يونس/100)، ويعقب القرآن على هذه المسألة التي تهز الإنسان حقيقة، بقوله: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) ففي هاتين الآيتين يدعو القرآن إلى التعقل بالدلالة المطابقية كما في اصطلاح المنطقيين أي أن يدل اللفظ على تماما معناه كما يدعو القرآن إلى التعقل بالدلالة الإلتزامية: حيث يدل اللفظ فيها على موضوع غير معناه (الظاهري)مثلا يطلب من الخصم إستدلالا عقليا: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ... ) (البقرة/111) يريد أن يوضح بالدلالة الالتزامية هذه الحقيقة، وهي أن العقل حجة وسند، أو أنه يرتب قياسا منطقيا لإثبات وحدة واجب الوجود، بقوله: ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)) (الأنبياء/22) هنا يرتب القرآن قضية شرطية، يستثني فيها المقدم ولا يذكر التالي.
وقد أقر القرآن الكريم نظام العلة والمعلول فذكر المسائل في علاقاتها العلية. يعتقد بأصالة العقل أنه إن علاقة العلة والمعلول وأصل العلية أساس للتفكرات العقلية برغم من أن القرآن هو من عند الله تعالى خالق نظام العلة
فعلى سبيل المثال يقرر القرآن الكريم: ((...إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) (الرعد/11). فلا شك أن كل المصائر بإرادة الله، ولكن الله لم يفرض المصير على البشر بل إن للمصائر نظاما أيضا، وأن الله لا يغير مصير أي مجتمع عبثا، ، إلا أن يغيروا بأنفسهم ما يرتبط بهم من أنظمة أخلاقية واجتماعية وكل ما يتعلق بواجباتهم الفردية. ومن طرف آخر يرغب القرآن المسلمين بمطالعة أحوال وأخبار الأمم السالفة، لكي يعتبروا منها تذكيراً، بأن هناك أنظمة موحدة، تحكم مصائر الأمم، وبهذا الترتيب لو تشابهت ظروف مجتمع ما مع ظروف مجتمع آخر، فإن مصير ذلك المجتمع ينتظر المجتمع الآخر.
ويذكر القرآن فلسفة للأحكام والقوانين، بمعنى أن الحكم الصادر معلول لهذه المصلحة. يقول علماء الأصول: بأن المصالح والمفاسد، تقع في مجموعة علل الأحكام، مثلا يقول القرآن في آية: (أَقِيمُوا الصَّلاَةَ...)، وفي آية أخرى يذكر فلسفتها: (الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ...) (العنكبوت/45). يذكر الأثر الروحي للصلاة، وأنها كيف ترفع الإنسان ويسبب هذا الاعتلاء ينزجر الإنسان وينصرف عن الفواحش والآثام. وعندما يذكر القرآن الصوم ويأمر به، يتبع ذلك بقوله: ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة/183) وهكذا في سائر الأحكام، مثل الزكاة والجهاد و...، حيث يوضح في كل منها من الناحيتين الفردية والاجتماعية. ويطلب من الإنسان أن يتدبر فيها ليتضح له واقع الأمر، ولا يتصور أن هذه الأحكام مجرد مجموعة من رموز تفوق فكر الإنسان.
وعلى جانب آخر ًناضل القرآن أعداء العقل فهاجم أسرى التقاليد المنحرفة، وعاب على المتحجّرين جمودهم قال تعالى في كتابه العزيز: (قالوا: بَل نتَّبعُ ما ألفَيْنا آباءَنا أوَ لو كانَ آباؤهُم لا يعقِلونَ شيئاً ولا يَهتَدون ) . إنْ يَتَّبِعونَ إلاّ الظَّنَّ، وإنَّ الظَّنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً ). (وَلَقَد أضَلَّ مِنكُم جبِلاًّ كثيراً أفَلَمْ تَكونوا تَعقِلون) وحفظ القرآن الكريم العقل فحرم كل ما من شأنه إفساد العقل وإدخال الخلل عليه، سواء كان مفسدات حسية كالخمور والمخدرات وما شابهها والتي تؤدي إلى الإخلال بالعقل بحيث يصبح الإنسان كالمجنون الذي لا يعرف صديقاً من عدو ولا خيراً من شر، أو مفسدات معنوية: تعطل العقل عن لتفكير السليم سواء كانت تسلط سلطة التقليد أو سلطة الحكم أو سلطة الميول والأهواء أو الانسياق وراء المجموع وتسطيح الإنسان بالاستهلاك والإعلام ليصبح ذي بعد واحد فيصبح عقله كأنه معدوم بالمرة.
أما السنة النبوية الشريفة وهي المصدر المرجعي الثاني للفكر الإسلامي فلم يرد فيها لفظ العقل إلا في حديث النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى النساء عندما قال: «... ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن؟ قلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها » رواه الشيخان، واللفظ للبخاري
ويتداول الناس أحاديث كثيرة مفادها أن العقل أول المخلوقات و«لا أصل لشيء منها، وليس في رواتها ثقة يعتمد» . وقد نص ابن تيمية على أن حديث «أول ما خلق الله العقل» كذب موضوع ، وعلى الرغم من ذلك يصرّ البعض على أن أحاديث العقل كلها صحيحة، لأن علماء الفقه من السنة قد بالغوا في حملتهم على أحاديث العقل، خوفاً من أن ينساق الناس خلف العقل وحده ويرون أن تلك الأحاديث تتفق مع روح الآيات القرآنية، وتشرحها بطريق غير مباشر ويسوقون عدداً من الملاحظات يؤيد ون بها رأيه، ولكنها لا تستقيم في دفع الوضع، أو الضعف على الأقل عن تلك الأحاديث. لكن الراجح أن السنة الشريفة وإن لم يصح فيها أحاديث كثيرة جاءت بلفظ العقل، إلا أنها لا تتجاوز المفهوم القرآني، فهي تجعل العقل الذي هو مناط التكليف أساساً في القيام بالواجبات والانتهاء عن المحرمات، وهذا مستفاد من حديث «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتّى يستيقظ، والمجنون حتّى يفيق، والصغير حتّى يبلغ» فالمجنون الذي فقد عقله، ولم يعد يفرق بين الصواب والخطأ، سقط عنه التكليف، وأقواله وأفعاله لا يتعلق بها حكم شرعي، ولا ثواب ولا عقاب. وهنا تأكيد على العقل النظري، أو المطبوع الذي يتميز الإنسان بوجوده عن سائر المخلوقات أما حديث «ما رأيت من ناقصات عقل ودين.. » فيدل على أن عقل المرأة فيه نقص عن عقل الرجل في بعض الوظائف كالتذكر ـ مثلاً ـ فالحديث يشير إلى أن شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل واحد وقد علل ذلك بأن المرأة سريعة النسيان، فتذكرها الأخرى كما في آية الدين (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى أما العقل من حيث هو مناط التكليف فلا خلاف في أنّه غير مراد في هذا الحديث، وإلا لما خوطبت المرأة بالشرع كما في حديث رفع القلم.
لكن هذا لا يمنع من إيراد طرف من هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة لدلالاتها على مكانة العقل في الثقافة الإسلامية ومن هذه الأحاديث ما ورد عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (ع) قال: لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبِر فأدبَر، ثمّ قال: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبُّ إليَّ منك ولا أكملتك إلاّ فيمن أحبُّ أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى وإيّاك أُعاقب وإيّاك أُثيب». عن أحمد بن إدريس عن محمد بن حسان عن أبي محمد الرازي، عن سيف بن عميرة، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبدالله (ع): من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنّة». وعن أبي جعفر (ع) قال:«إنّما يداقُّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدرما آتاهم من العقول في الدُّنيا».
وبناء على هذا اهتمام الوحي قرآناً وسنة بالعقل كان العقل طريقاً للإيمان فلا يقبل إيمان عن عدم اقتناع أو تقليد وارتفع التفكير ليصبح فريضة إسلامية في أمور الدين وغيرها وهو ما يشار إليه بالاجتهاد أو الاستدلال الفقهي العقل بما يملك من طاقات إدراكية أودعها الله فيه ذات دور مهم في الاجتهاد والتجديد إلى يوم القيامة؛ وذلك بالنظر إلى انقطاع الوحي فالعقل له دور في استـقراء الجزئيات والأدلة التفصيلية التي يجمعها مفهوم معنوي عام باعتباره مبنى من مباني العدل، وهى الأصول الكلية، والقواعد العامة التي تستـشرف مقاصد ومصالح إنسانية مادية ومعنوية يعبر عنها بالحاجات والمطالب، والعقل يرد الفروع والجزئيات التي تنزل في الواقع، وليس لها نص إلى الأصول والكليات المنصوصة من خلال ما عُرف بالقياس وغيره. والعقل يقيم النظم والمؤسسات التي يتذرع بها لتحقيق هذه الكليات والأصول والقواعد العامة في الواقع المتغير، وإلا فإن هذه الكليات والأصول من حيث ذاتها لا تحقق لها في الخارج إلا عن طريق تلك النظم التي يؤسسها النظر العقلي. ومن ثم كان العقل أداة وصل الدين بقضايا الواقع.
إنّ العقل الإسلامي حين يطرح العديد من الصور التطبيقية للشريعة الإسلامية عبر الزمن، أو حين يستنبط الحـلول لمشاكل الإنسان المستجدّة فإنّما يمارس دور المكتشف للأحكام والمفاهيم فحسب، لأ نّه يتعامل مع نصوص شاملة لجميع جوانب الحياة الإنسانية، الأمر الذي يمارسه الفقهاء المجتهدون دون سواهم، حيث أنّ المجتهد في الوعي الإسلامي إنّما يمارس دور المكتشف للحكم الشرعي الموجود بين ثنايا الكتاب العزيز وسنّة المعصوم (ع) وعليه فحسب أن يبذل وسعه ـ وفقاً لأسس وشروط معيّنة ـ لاستحصال الحكم أو المفهوم ذي الطبيعة الشرعية. ومهمة المجتهد حين تأخذ هذه الأبعاد، فإنّ ذلك ناجم عن روح الشمول التي تمتاز بها شريعة الله الخاتمة لكلّ مشاكل الإنسان الحياتية، وإن دور الاجتهاد في الشريعة الإسلامية بما تشمله من أحكام شرعية ومفاهيم ومبادئ العامة والصور التطبيقية للشريعة عبر العصور يشير للأهمية البالغة التي يوليها الإسلام للعقل المسلم ومدى الثقة التي يمنحها إياه بناءً على التزامه بمنهج قويم في وسائله ومتبنّياته ومنطلقاته.
وقد تعددت التعريفات الاصطلاحية للعقل تعدداً كبيراً تبعاً لكثرة المتحدثين في ذلك من الفلاسفة وأهل الفرق المختلفة فجاء كل تعريف حاملاً معتقد قائله، ومن أشهر تعريفات العقل قول البغدادي:
"إن الذي أُشيرَ إليه باسم العقل في اللغة العربية إنما هو العقل العملي من جملة ما قيل. وجاء في لغتهم من المنع والعقال فيقال: عقلت الناقةَ. أي منعتها بما شددتها به عن تصرفها في سعيها. فكذلك العقل العملي يعقل النفس ويمنعها عن التصرف على مقتضى الطباع".
ويقول يعقوب بن إسحاق الكندي (7): "العقل: جوهر بسيط مُدرِكٌ للأشياء بحقائقها".
ويقول أبو النصر الفارابي: "العقل: ليس هو شيئاً غير التجارب. ومهما كانت هذه التجارب أكثر، كانت النفس أتم عقلاً" .
ويقول سيف الدين الآمدي: "قد يُطلق العقل على ما حصَّله الإنسان بالتجارب ــ ويسمى العقل التجريبي ، وعلى صَحَّة الفطرة الأولى، وعلى الهيئة المستحسنة للإنسان في أفعاله وأحواله". ويقول بعض الفلاسفة:
"إن العقل اسم مشترك يقال على معنيين: أحدهما ما تشير به الفلاسفة إلى أنه أول موجود اخترعه الباري عزَّ وجل ، وهو جوهر بسيط روحاني محيط بالأشياء كلها إحاطة روحانية. والمعنى الآخر ما يشير به جمهور الناس إلى أن قوة من قوى النفس الإنسانية التي فِعْلها التفكر والروية والنطق والتمييز والصنائع وما شاكلها".
ويقول الأشعري: "البلوغ هو تكامل العقل، والعقل عندهم هو العلم، وإنما سمي عقلاً لأن الإنسان يمنع به عما لا يمنع المجنون نفسه عنه، وأن ذلك مأخوذ من عقال البعير، وإنما سمي عقاله عقالاً لأنه يُمنَع به".
يقول د. عبد الرحمن بدوي: {العقل: مَلكةُ إدراكِ ما هو كلِّي وضروري سواء أكان ماهية أو قيمة. ويعبَّر عن نفس المعنى تقريباً بطريقة أخرى، فيقال: إن العقل هو ملكةُ الربطِ بين الأفكار وفقاً لمبادئ كلية. لكن، مجرد الربط بين الأفكار لا يكفي لتحديد العقل، إذ الحيوان يربط بين الصور الحسية فيتوقع تعاقب صورة بعد صورة، بحسب ما اعتاد عليه من رؤيتها متعاقبة. أما الإنسان العاقل فيدرك أن هذا التعاقب يتم وفقاً لمبدأ ضروري كلي.
وقالوا أيضاً أن العقل:
«قوة غريزية للنفس تتمكن به من إدراك الحقائق، والتمييز بين الأمور» .
«جوهر مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله، وهي النفس الناطقة، أو هو جوهر روحاني خلقه الله متعلقاً بالبدن».
«القوة المدركة في الإنسان، وهو مظهر من مظاهر الروح محله المخ، كما أن الإبصار من خصائص الروح آلته البصر»
و قسم فلاسفة العرب العقل إلى نوعين: غريزي، ومكتسب فأما الغريزي فهو العلم بالمدركات الضرورية، واستعداد النفس لتقبل النظريات واكتسابها، وهذا ما يسميه بعضهم «العقل بالملكة» وأما المكتسب أو المسموع، فهو نتيجة اكتساب النظريات واختزانها في العقل الغريزي فالعقل الغريزي، هو الأصل الذي خلقه الله، والمكتسب هو الفرع الذي تم ونما بوجود الأصل، فإذا اجتمعا قوى كل منهما صاحبه والغريزي هو مناط التكليف وسببه، فإن فقد فلا تكليف، وبه سمي الإنسان عاقلاً، وتميز عن سائر المخلوقات، والمكتسب هو مكان المدح والذم، أو إن المدح والذم يقعان على أثره، «فكل موضع ذمّ الله فيه الكفار بعدم العقل فإنه يشير إلى المكتسب دون الغريزي». وهناك تقسيم آخر للعقل وهو: عقل نظري وعقل عملي وهذا اختلاف في التسمية فقط، أم المعنى فيتفق مع التقسيم السابق، فالنظري يساوي الغريزي، والعملي يساوي المكتسب.
وقد وردت تفسيرات وتقسيمات وتعريفات كثيرة عند الفلاسفة امتزجت بالمفهوم اليوناني الوثني، وانحرفت عن المفهوم الإسلامي للعقل، وهو المفهوم النابع من نظرية المعرفة الإسلامية التي تحددت مصادر المعرفة فيها في مصدرين جامعين : أولهما الوجود وهو كتاب الكون المفتوح بكل ما فيه من حياة . والمصدر الثاني هو الوحي كتابًا وسنة ، يندرج أولهما تحت مفهوم عالم الشهادة والآخر تحت مفهوم عالم الغيب. وبهذا الفهم يكون العقل إلى جانب الحس هما وسيلة الوصول إلى معرفة عالم الغيب و الشهادة ، أما عالم الغيب فهو بالتعريف لا يمكن إدراكه بالحواس ، وكل شئ عن أخبار الماضي الذي لم نشهده ويستحيل أن نشهده غيب ، وكذلك عالم الآخرة وبعد الموت والقبر والحشر والجنة والنار كلها من أمور الغيب الذي لا يمكن معرفته بالحواس ولذا يعد الوحي المصدر الوحيد لمعرفته ، لكن تبقى وسيلة الإدراك هي العقل يوصل إليه السمع فيدرك الأمر ويقتنع به بما زوده الله سبحانه وتعالى . وأحياناً يجبر على القناعة من خلال البداهة أو الضرورة ، وأحيانًا يصل إلى القناعة من خلال التأمل والتدبر ،
إن العلاقة بين الوحي والعقل كمصدرين للمعرفة شديدة التداخل، وعلى قدر كبير من التعقيد والتشابك بحيث لا يمكن بحال وضع حدود فاصلة لعمل العقل يتوقف عندها ليبدأ عمل الوحي يقول الله تعالى ( ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورًا ) [ الفرقان : 40 ] فالله تعالى يشير باستغراب شديد إلى أولئك الذين أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ورأوها بأعينهم فهي أمر محسوس لديهم ، وبرغم الرؤية لم يحصل لديهم العلم ( أفلم يكونوا يرونها) نعم كأنوا يرونها لم تحصل المعرفة ولم يحصل العلم لماذا ؟ الجواب ( كانوا لا يرجون نشوراً ) إذن الحس يحول المعرفة إلى العقل ولكن العقل لسبب ما قد لا يكون مستعداً لقبول هذه المعرفة ، ليس لديه رفض لأنه لم يحاكم أصلاً ولكن الباب مغلق فلم تحصل المعرفة .
لذلك حدّد الإسلام الحـنيف مهامّ العقل الأساسية، وأوضح مساحة دائرة الصلاحيات الممنوحة له، والحقول التي يجوز له التحرّك خلالها، وبذلك استطاع الإسلام أن يجنِّب عقل المسلم من ارتياد عوالم ومجالات يضلُّ ويزيغ بارتيادها. فدور العقل في مجال عالم الغيب التأكد من صدق المبلغ.
لقد اتفقت كلمة المؤرخين لعصر لصحابة – سواء منهم من كتب في التاريخ العام، أو في التاريخ السياسي، أو في تاريخ الفكر- على وجود ظاهرة وحدة العقيدة لدى الصدر الأول. كما اتفقوا على تأكيد موقف الصحابة من قضايا الغيب والمتشابه ووحدة ذلك الموقف، وهو تلقي هذه الأمور عن الوحي والإيمان بها على ظواهرها دون تأويل أو تمثيل أو تعطيل، وتفويض حقائق المعاني المرادة منها إلى العليم الخبير، وإطلاق حرية العقل في الواجبات والأعباء الهائلة التي تصلح له، وما أكثرها.
وقد اختلف أولئك المؤرخون في تعليل هذه الظاهرة، وبيان أسبابها8. ومهما يكن ما قالوه فإن أهم الأسباب هو ذلك الإدراك السليم، والفهم الدقيق لعالم العبودية وعالم الألوهية، والمعرفة التامة بالفوارق بين عالمي الغيب والشهادة، والتمييز بين وسائل المعرفة الخاصة بعالم الغيب ووسائل المعرفة في قضايا عالم الشهادة، ثم استعمال كل وسيلة فيما خلقت له، وجعلت سبيلاً لمعرفته. فلا غرابة بعد ذلك أن ترى البشرية لأول مرة الوحي المعجز بجوار العقل المبدع يعملان سوياً متعاضدين لبناء أعظم حضارة عرفها الوجود البشري، وأوسط أمة أقلتها الأرض وأظلتها السماء.
ويظهر هذا من موقف عمر بن الخطاب عندما قدم عليه رجل يدعى الأصبغ بن عسل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وضربه بدرته حتى أدمى رأسه وأسقط عطاءه، ونهى عن مجالسته حتى تاب، وتراجع عن إثارة مثل تلك القضايا فعفى عمر عنه، ولكنه قرر نفيه إلى البصرة رغم ذلك، وكتب إلى عامله عليها أبو موسى الأشعري: "أما بعد فإن الأصبغ تكلف ما كُفى، وضيع ما وُلي، فإذا جاء كتابي فلا تبايعوه، وإن مرض فلا تعودوه، وإن مات فلا تشهدوه". وقول سيدنا عمر: "تكلف ما كُفى وضيع ما وُلي" ظاهر تماماً في إيضاح تصور الصدر الأول لقضايا الغيب والمتشابه، وأنهم قد كفوها من خلال الوحي فلا ينبغي أن يشغلوا عقولهم بها، فالانشغال بها وضع لأهم الطاقات في غير موضعها، واستخدام للعقل في غير مجاله، ولو أن في بيان ذلك وكشف ستره، شيئاً من الفائدة، لكان أولى الناس بهذا البيان رسول الله أما والرسول عليه الصلاة والسلام لم يبين ذلك، ولم يسمح بانشغال أحد به، والكتاب يقول الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: 3)، فإن ذلك دليل قاطع على أن أية فائدة دنيوية أو أخروية لا تتحقق وراء هذا البحث والخلط.إنه لا دين في الوجود إلا وفيه جملة من الحقائق التوقيفية التي لا تؤخذ إلا تلقّيا عن الأنبياء، فحتى الأديان الوضعية المختلفة والمذاهب والفلسفات تضع سياجاً حول جملة من القضايا، لا تسمح لعقول العامة بالخوض فيها، وتلتزم بتلقيها تلقّياً عن المذهب أو النحلة.
لكن بداية الأزمة كانت في أعقاب الفتنة الكبرى التي اشتعلت إثر استشهاد الخليفة الشهيد عثمان ابن عفان وقد تعاظمت هذه المحنة، وبدأت الآثار المفجعة تترتب عليها بعداستشهاد الخليفة الراشد الرابع الإمام الشهيد علي بن أبي طالب حيث ولدت في تلك الفترة الفرق الثلاث مرة واحدة: الشيعة والخوارج والمرجئة.
كما ظهرت حركات مثل حركة المعتزلة وهي فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي ، وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها : المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقصد والوعيدية . اختلفت رؤية العلماء في ظهور الاعتزال ، واتجهت هذه الرؤية وجهين :
- الوجهة الأولى : أن الاعتزال حصل نتيجة النقاش في مسائل عقدية دينية كالحكم على
مرتكب الكبيرة ، والحديث في القدر ، بمعنى هل يقدر العبد على فعله أو لا يقدر ، ومن
رأي أصحاب هذا الاتجاه أن اسم المعتزلة أطلق عليهم لعدة أسباب :
1- أنهم اعتزلوا المسلمين بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين .
2- أنهم عرفوا بالمعتزلة بعد أن اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري وشكل حقله
خاصة به لقوله بالمنزلة بين المنزلتين فقال الحسن : " اعتزلنا واصل " .
3- أو أنهم قالوا بوجوب اعتزال مرتكب الكبيرة ومقاطعته .
- والوجهة الثانية : أن الاعتزال نشأ بسبب سياسي حيث أن المعتزلة من شيعة علي رضي
الله عنه اعتزلوا الحسن عندما تنازل لمعاوية ، أو أنهم وقفوا موقف الحياد بين شيعة علي ومعاوية فاعتزلوا الفريقين .
أما القاضي عبد الجبار الهمذاني - مؤرخ المعتزلة - فيزعم أن الاعتزال ليس مذهباً جديداً أو فرقة طارئة أو طائفة أو أمراً مستحدثاً ، وإنما هو استمرار لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وقد لحقهم هذا الاسم بسبب اعتزالهم الشر لقوله تعالى : (( وأعتزلكم وما تدعون )) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من اعتزل الشر سقط في الخير ) . كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الغزال ( 80هـ - 131هـ ) الذي كان تلميذاً للحسن البصري ، ثم اعتزل حلقة الحسن بعد قوله بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ( أي ليس مؤمنا ولا كافراً ) وأنه مخلد في النار إذا لم يتب قبل الموت ، وقد عاش في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك ، والفرقة المعتزلية التي تنسب إليه تسمى : الواصيلة• ومن أبرز مفكري المعتزلة منذ تأسيسها على يد واصل بن عطاء وحتى اندثارها وتحللها في المذاهب الأخرى كالشيعة والأشعرية والماتريدية ما يلي :
- أبو الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف ( 135 -226 هـ ) مولى عبد القيس وشيخ المعتزلة والمناظر عنها. أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلطه بكلام المعتزلة ، فقد تأثر بأرسطو وأنبادقليس من فلاسفة اليونان ، وقال بأن " الله عالم بعلم وعلمه ذاته ، وقادر بقدرة وقدرته ذاته … " انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 76 . وتسمى طائفة الهذيلية.
- عمرو بن بحر : أبو عثمان الجاحظ ( توفي سنة 256هـ ) وهو من كبار كتاب المعتزلة ، ومن المطلعين على كتب الفلاسفة ، ونظراً لبلاغته في الكتابة الأدبية استطاع أن يدس أفكاره المعتزلية في كتاباته كما يدس السم في الدسم مثل ، البيان والتبيين ، وتسمى فرقته الجاحظية
كان الاعتزال ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية فكانت حركة الاعتزال نتيجة لتفاعل بعض المفكرين المسلمين في العصور الإسلامية مع الفلسفات السائدة في المجتمعات التي اتصل بها المسلمون . وكانت هذه الحركة نوع من ردة الفعل التي حاولت أن تعرض الإسلام وتصوغ مقولاته العقائدية والفكرية بنفس الأفكار والمناهج الوافدة وذلك دفاعاً ع الإسلام ضد ملاحدة تلك الحضارات بالأسلوب الذي يفهمونه من خلال الفلسفة ولكن هذا التوجه قاد إلى مخالفات كثيرة وتجاوزات مرفوضة أثراُ لتغير وظيفة العقل وبحثه في الغيبيات فقد كان من مبادئ المعتزلة الاعتماد على العقل كلياً في الاستدلال لعقائدهم فجعل المعتزلة العقل معيار كل أحكامهم فقالوا كما جاء في الملل والنحل للشهرستاني : " المعارف كلها معقولة بالفعل ، واجبة بنظر العقل ، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع أي قبل إرسال الرسل ، والحسن والقبيح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح " أي أن المعتزلة رأوا أن العقل قادر على التمييز بين الحسن والقبيح، وجعلوه مصدراً (أو دليلاً) معرفياً مكافئاً للكتاب والسنة ومقدماً عليهما. لذلك أكد القاضي عبد الجبار في فصل عقده لبيان الأدلة الواجب اتباعها أن العقل أول هذه الأدلة، "لأن به يميّز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع. وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم، فيظن أن الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر، وليس الأمر كذلك، لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع، فهو الأصل في هذا الباب. وإن كنا نقول إن الكتاب هو الأصل من حيث أن فيه التنبيه على ما في العقول، كما أن فيه الأدلة على الأحكام."
- ولاعتمادهم على العقل في مجال الغيبيات أنكروا الصفات الإلهية تنزيها لله سبحانه عن مشابهة المخلوقين أو أولوها بما يلائم عقولهم الكلية، كصفات الاستواء واليد والعين وكذلك صفات المحبة والرضى والغضب والسخط ومن المعلوم أن المعتزلة تنفي كل الصفات لا أكثرها .
- ولاعتمادهم على العقل أيضاً ، طعن كبراؤهم في أكابر الصحابة وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب ، فقد زعم واصل بن عطاء : أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة ، إما طائفة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصاري أو طائفة عائشة والزبير ، وردوا شهادة هؤلاء الصحابة فقالوا : لا تقبل شهادتهم.
وجعل المعتزلة أيضاً العقل مصدراً (أو دليلاً) معرفياً مكافئاً للكتاب والسنة ومقدماً عليهما. وكان هدفهم من الاعتماد على العقل بيان أن ما جاء به الإسلام من أصول حق يتفق مع العقل الصريح وأدلته البرهانية، وقد اعتمدوا في مذهبهم على الفلسفة اليونانية والمنطق الارسطي على الرغم من محاولتهم اتخاذ منطق جدلي خاص بهم فحكّموا العقل تحكيماً مطلقاً، ورفعوا من شأنه حتّى قالوا: «خلق العقل ليعرف، وهو قادر على أن يعرف كل شيء.. المنظور وغير المنظور» . وعلى هذا الأساس قدموا الأدلة العقلية على الأدلة الشرعية، فكذبوا الحديث الذي لا يتوافق مع العقل، وأولوا الآيات التي لا تتوافق مع مذهبهم وإن وضحت، لذلك أكد القاضي عبد الجبار في فصل عقده لبيان الأدلة الواجب اتباعها أن العقل أول هذه الأدلة، "لأن به يميّز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع. وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم، فيظن أن الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر، وليس الأمر كذلك، لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع، فهو الأصل في هذا الباب. وإن كنا نقول إن الكتاب هو الأصل من حيث أن فيه التنبيه على ما في العقول، كما أن فيه الأدلة على الأحكام."
لذلك رفض المتكلمون دعوى كفاية العقل وأكدوا ضرورةَ اعتماد الوحي مصدراً (أو دليلاً) معرفياً إلى جانب العقل. فنجد مثلاً أن الجويـني يقسم الأدلة إلى سمعـي وعقلي: "الأدلة التي يتوصل بصحيح النظر فيها إلى ما لا يعلم في مستقر العادة اضطراراً، وهي تنقسم إلى قسمين: العقلي والسمعي. فأما العقلي من الأدلة، فما دل بصفة لازمة هو في نفسه عليه، والسمعي هو الذي يستند إلى خبر صدق أو أمر يجب اتباعه." وتخلّص المتكلمون من مفهوم العقل الفعّال وما تبعه من عقول لواحق. فالعقل قسمان: غريزي ومكتسب. ويتألف القسم الغريزي -الذي هو العقل الحقيقي المتقدم على النظر- من "جملة العلوم الضرورية."
وهذه العلوم الضرورية إما أن تكون من مدركات الحواس التي تنطبع في النفوس ابتداءً، أو من الاوليّات التي فطرت عليها النفوس. "فأما ما كان واقعاً عن دَرْك الحواس فمثل المرئيات المدركة بالنظر، والأصوات المدركة بالسمع، والطعوم المدركة بالذوق، والروائح المدركة بالشم، والأجسام المدركة باللمس […] وأما ما كان مبتدئاً في النفوس فكالعلم بأن الشيء لا يخلو من وجود أو عدم، وأن الموجود لا يخلو من حدوث أو قدم، وأن من المحال اجتماع الضدين، وأن الواحد أقل من الاثنين. وهذا النوع من العلم لا يجوز أن ينتفي على العاقل مع سلامة حاله وكمال عقله."24 ومن العقل الفطري الضروري تتولد المعارف والعلوم وتتنامى بازدياد الخبرة ودقة الملاحظة والفطنة: "وأما العقل المكتسب فهو نتيجة العقل الغريزي وهو نهاية المعرفة، وصحة السياسة، وإصابة الفكر. وليس لهذا حدٌّ لأنه ينمو إذا استعمل وينقص إذا أهمل. ونماؤه يكون بأحد وجهين: إما بكثرة الاستعمال إذا لم يعارضه مانع من هوى ولا صَادٌّ من شهوة، كالذي يحصل لذوي الأسنان من آراء الشيوخ […] وإما […] بفرط الذكاء وحسن الفطنة، وذلك جودة الحدس في زمان غير مهمل للحدس. فإذا امتزج بالعقل الغريزي صارت نتيجتهما نمو العقل المكتسب، كالذي يكون في الأحداث من وفور العقل وجودة الرأي."
وفي مواجهة الموقف المعتزلي الذي يعطي العقل القدرة على التحسين والتقبيح، ويجعل حكمه مكافئاً لحكم الوحي، نفى الأشاعرة أن يكون العقل قادراً على تمييز الحسن من القبيح. فنرى الجويني يصر على أن "العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه في حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. وأصل القول في ذلك أن الشيء لا يحسن لنفسه وجنسه وصفة لازمة له. وكذلك القول فيما يقبح، وقد يحسن في الشرع ما يقبح مثله المساوي له في جملة أحكام صفات النفس."
لكن وظيفة العقل تغيرت عند الفقهاء أيضاً، وأدخلوا في أصول الفقه جملة من المباحث الكلامية حول حكم الأشياء قبل الشرع، وشكر المنعم أيجب بالعقل أم بالشرع؟ وتكليف المعدوم، وخطاب من لم يخلقوا، والتحسين والتقبيح العقليين، وإن كان الدليل العقلي يوصل منفرداً إلى حكم شرعي قطعي أم لا؟ وغيرها من أبحاث لا طائل تحتها، تدل على أن القوم عادوا إلى لعبة التفريط بالمطلوب وتكلف طلب ما لم يطلب.
وفتح في هذا المجال باب خلط الوظائف، وإضاعة المصالح، واضطراب الرؤية، وانتشار الاختلافات حتى برز علم جديد عرف بعلم الخلافيات. ووظيفة الخلافي هدم ما يبني غيره من مذاهب، والدفاع عن مذهبه وموقفه بكل وسائل الجدل والمنطق. فتشيع الفتن، وتتحول المذاهب الفقهية إلى ما يشبه الأحزاب الكلامية، ويفشو التقليد، وينتشر التعصب للمذاهب وينتشر الضعف الفكري لدى الناس، ويدب الرعب في نفوسهم، ويشتد خوف الناس على دينهم من فقهاء السوء الذين احترفوا إصدار الفتاوى للحكام ومداهنتهم ومجاراتهم بالحق والباطل.
أما الفلاسفة فقد خاضوا في العقل معتمدين على تأثير الفلسفة اليونانية، وخاصة تأثير أرسطو في حديثه عن العقل، ونقلوا تعريفات وتقسيمات اليونان للعقل إلى الثقافة الإسلاميّة، فاهمين تشجيع القرآن الكريم للعقل فهماً قاصراً، اذ انهم فكروا في قضايا يونانية واسلامية بواسطة الثقافة اليونانية ذاتها، بواسطة «العقل اليوناني»، فاختلفوا في تقسيم العقول، وعددها، ووظيفة كل عقل، وحاولوا تفسير معنى «العقل الفعال» الذي هو عند الفلاسفة اليونان فوق العقل الإنساني، تفيض منه الصور على عالم الكون والفساد، فتكون موجودة فيه من حيث هي فاعلة. أما في عالم الكون فلا توجد إلا من حيث الانفعال. وقد وصفه أرسطو بصفات تسمو به عن عالم الإنسان، وعن العالم الطبيعي، فجعله الخالد وغيره من العقول قابل للفساد .
ولا يخفى أن هؤلاء الفلاسفة قد ساروا خلف المفهوم اليوناني للعقل، وهو بالطبع مختلف عن المفهوم الإسلامي، ومشوب بعناصر وثنية مختلطة بعبادة للعقل، لذا جاءت نظرية العقل عندهم بعيدة عن التصور الإسلامي، وامتزجت بشيء من التصوف، والتعبير بالمصطلحات الدينية عن معان فلسفية، فأدى ذلك كله إلى اختلال المنهج الذي أفضى إلى اختلال التصور العقيدي، وخاصة شرح عملية الخلق وعملية المعرفة،المفهوم السابق للعقل على أنه قدرة فطر الله الناس عليها تمكنهم من تمييز الصدق من الكذب والحق من الباطل، على بساطتها، لم تلبث أن اضطربت مع انتشار الفلسفات الإغريقية، وما حملته من مفاهيم ما ورائية مرتبطة بالتصور الإغريقي للوجود.
كما حاول الفلاسفة إيجاد منهج توفيقي بين الإسلام والفلسفة في الاعتراف بالنبوة والوحي وإخضاعها لسلطان العقل، لكنهم ضلوا وانحرفوا، حيث جعلوا العقل المصدر الأول للحكم على كل شيء فهم يرون:
1 ـ أن الأصل الذي يصدر عنه العقل والوحي واحد هو الله أو العقل الفعال، ومن ثم ما يأتيان به واحد، فلا يمكن حصول تضاد بينهما فيما جاءا به من حقائق.
2 ـ أن مصدر الحقائق في الفلسفة هو عقل الفيلسوف، وفي الدين هو مخيلة النبي.
3 ـ أن ما يأتي عن طريق التخيل يكون على شكل رموز تغلف بها الحقيقة، من أجل عامة الناس الّذين لا يدركون الحقائق بشكلها المجرد كما يفهمها الفلاسفة فالاتفاق بين الفلسفة والشريعة إنّما هو اتفاق في الباطن المتخفي وراء الظواهر، ونتيجة لما سبق يتضح في منهجهم أن الفيلسوف لم يعد بحاجة إلى النبي لأنه يعرف حقائق الأمور بعقله في حين أن النبي يتخيلها بل إن النبي في زعمهم محتاج إلى الفيلسوف الباحث بعقله الحرّ ، ليعينه على تفسير بعض الحقائق).
هذا جانب من التخطيط الفلسفي الذي اعتمد على تقديس العقل، وجعله الأساس في كل شيء، إلى درجة أن هؤلاء قالوا إن الله هو العقل الفعال أو العقل المحض، وهذا اعتداء على مقام الألوهية. وهكذا نرى أن الفلاسفة قد انزلقوا في متاهات العقل وبراهينه القاصرة عندما حاولوا تفسير أمور الغيب وما وراء الطبيعة التي لا مجال للعقل فيها إلا بهدي من الوحي السماوي، وبقيت أدلتهم مجرد تصورات عجزوا عن تطبيقها في عالم الوجود الواقعي.
وهكذا نجد أن الفلاسفة المسلمين الأوائل تبنوا النظرية الإغريقية للوجود، واعتمدوها في كتاباتهم. فالفارابي (ت 339) يستعير التصور الإغريقي لبنية الوجود، فيقول:
"المبادئ التي بها قوام الأجسام والأعراض التي له ستة أصناف، لها ست مراتب عظمى، كل مرتبة منها تحوز صنفاً منها؛ السبب الأول في المرتبة الأولى، الأسباب الثواني في المرتبة الثانية، العقل الفعّال في المرتبة الثالثة، النفس في المرتبة الرابعة، الصورة في المرتبة الخامسة، المادة في المرتبة السادسة." تتولد عن نظرية الوجود هذه نظرية معرفة للعقل الفعال فيها أثر رئيسي في توليد معارف جديدة. فالعقل الفعّال هو الذي يمكن الإنسان من تعقل الأجسام التي ليست بذواتها معقولات، لأن "المعقولات بذواتها هي الأشياء المفارقة للأجسام، والتي ليس قوامها في مادة أصلاً." ومن خلال تحويل صور الأجسام إلى معقولات ثم تلقينها للعقل الإنساني، يتحول هذا الأخير من عقل بالقوة إلى عقل بالفعل.
لذلك يؤكد الفارابي أن "القوة الناطقة التي بها الإنسان إنسان ليست هي في جوهرها عقلاً بالفعل، ولم تعط بالطبع أن تكون عقلا بالفعل، ولكن العقل الفعال يصيرها عقلاً بالفعل، ويجعل سائر الأشياء معقولة بالفعل للقوة الناطقة." وهكذا يقوم الفارابي بإعادة تفسير الحقل المعرفي الإنساني انطلاقاً من فرضية العقل الفعّال والمعقولات المفارقة الناجمة عن فعله وبإعادة تفسير ظواهر الوجود، بما فيها ظاهرة الوحي والألوهية. فالموجودات التي تحتل رتبة أعلى من العقل الفعّال لا تعقل إلا ذواتها. بينما يتفرد العقل البشري من بين الأنفس العاقلة بتعقل المادة، بهدي من العقل الفعّال. والعقل الفعّال الذي يمثل الفيض الإلهي هو الوحي الذي يهدي الإنسان إلى معرفة الحق. "فهذه الإفاضة الكائنة من العقل الفعّال إلى العقل المنفعل بأن يتوسط بينهما العقل المستفاد هو الوحي."
إن الفارابي الذي كان طبيبا ورياضيا أيضا ويعتبر أذكى من فسر أرسطو وأكثرهم علماً وثقافة، وتمتع بحماية سيف الدولة الحمداني أمير حلب. قد تناول عدداً من المسائل السّياسيّة بروحٍ فلسفيّة تأمليّةٍ تنتهي إلى مطابقة ما بالأعيان للتصوّرات الفلسفيّة للكون والعالم الاجتمـاع المدني الّذي ينبغي أن يخضع للمبادئ والنّواميس الّتي يخضع لها العالم الطّبيعيِّ ذاته ، تلك المبادئ الّتي تنطلق من التّسليم بوجود اللّه بوصفه رأس الموجودات وكمالها المطلق وواجب الوجود الّذي يعقل ذاته بذاته وتصدر عنه سائر الموجودات باعتبار أن وجوده هو المصدر الّذي تصدر عنه الأشياء كلّها ، من هنا جاء ترتيبه للعقول ابتداءً بالعقل الأوّل الّذي تصدر عنه العقول العشرة الباقية ، متأثّراً بنظريّة الفيض الأفلاطونيّة .فرأس مجتمـعالمدينة ينبغـي أن يكون الرّئيس ، الّذي يعتبر السّبب الأوّل في وجودها ، فالرّئيس أوّل العناصر ، وأكثرها أهمّيّة في الاجتمـاع المدني ، وهو بمنزلة الموجود واجب الوجود بالنّسبة للموجودات الصّادرة عنه ، في علاقته بالاجتمـاع المدني ، بمعنى أنّهُ لاوجود للاجتماع المدني المبني على أسسٍ أخلاقيّة فضائليّة من غير الرّئيس الّذي بواسطته يتمّ تنظيم
المجتمـع تنظيمـاً مثالياً مماثلاً للتّنظيم الكـوني الّذي يربط جميع الموجودات بالله ، وعليه فالرئيس هو علّة وجود المدينة الفاضلة ، و وجوده سابقٌ على وجود المدينة الفاضلة ذاتها ، باعتبارها تأتي في سلسلة المراتب التّالية لوجود الرّئيس ، من هنا تسعى إلى التّشبّه به بوصفـه المثال الأعلى للفضيلة وقيمها الأخلاقيّة والنّظام . المثال الأعلى للفضيلة وقيمها الأخلاقيّة والنّظام .
وعليهِ فثمّة رابط بين الأخلاق والسّياسة في فلسفـة الفارابي السّياسيّة انطلاقاً من نظرته لأخلاق الإنسان بوصفه كائناً مدنيّاً، آخذين بنظر الاعتبار هيمنة الأفكـار السّياسية على فلسفته ، والدليل على ذلك أننا نقع على مجموعـة من المؤلّفات السّياسيّة لديه أبرزها: "السّياسة المدنيّة " ، " آراء أهل المدينة الفاضلة " و" تحصيل السّعادة " ، والفارابي كما نظر البعض إليه من " أشدّ الفلاسفة المسلمين عنايةً بالسّياسة رغـم أنّه لم يشارك فيها أدنى مشاركة "
والعقل الفعّال عند الفارابي َيَهِب الإنسان قوّةً ومبدأً به يسعى ، أو به يقدر على أن يسعى من تلقاء نفسه إلى سائر الكمالات .. فيعطيه المعارف والمعقولات بعد أن يتقدّم في الإنسان ويحصل فيه الجـزء الحاس من النّفس ، والجزء النّزوعي الّذي به يكون الشّوق والكراهة التّابعان للحاس.. فبهذين تحصل الإرادة إذ يعزو إليها كلّ أفعال الإنسان من المحمود والمذموم والجميل والقبيح . فالإرادة أوّلاً هي : شوق عن إحساس، والشّوق يكون بالجزء النّزوعي والإحساس بالجزء الحاس . وهي ثانياً : شوقٌ عن تخيّل ، وبعد أن يحصل هذان يمكن أن تحصل المعارف الأُوَّل الّتي تحصل من العقل الفعّال في الجزء النّاطق . وهي ثالثا: شوقٌ عن نطق ، وهذا هو المخصوص باسم الاختيار ، وهو الّذي يفرّق الإنسان عن سائر الحيوان طبقاً للتّعريف الشّائع بأنَّ "الإنسان حيوان ناطق " ولعل هذا النّوع من الإرادة هو الأهمّ بين الإرادات المذكورة " بهذا _[النّوع ] _ يقدر الإنسان أن يفعـل المحمود والمذموم ، والجميل والقبيح ، ولأجل هذا يكون الثّواب والعقاب" أمّا الإرادتان الأوّليان فإنّهما قد يكونان في الحيوان غير النّاطق،وبذلك فهما مشتركتان بين الإنسان والحيوان ، بينما إذا حصلـت الإرادة الثّالثة في الإنسان ،يكون بوسعه أن يسعى نحو السّعادة أو أن لا يسعى ، وأن يفعل الخير أو أن يفعل الشّر ، وأن يفعل الجميل أو القبيح أيضاً.
إن الاستعداد والموهبة للرّياسة موجودة بشكل فطري في الرّئيس. ومن ناحية أخرى هنالك رئاسات يكون فيها الرّئيس مرؤوساً لرئيس آخر وفـق تسلسل تراتبي ، باستثناء الرّئيس الأوّل الّذي لا يحتاج ولا في شيء أن يرأسه إنسان ، الأمـر الّذي يستدعي أن تكون العلوم والمعارف لديه حاصلةً بالفعل ولا حاجة به أن يرشده غيره في شيء ، وتكـون له قدرة عل جـودة إدراك شيء ممّا ينبغي أن يعمـل من الجزئيّات ، وقوّة على جودة إرشاد لكلّ من سواه إلى كلّ ما يعلّمه ويكون لديه قدرة على تقدير الأعمال وتحديدها وتسديدها نحو السّعادة وهذا لا يكون على حدّ قوله إلاّ : " في أهل الطّبائع العظيمة الفائقة إذا اتّصلت نفسه بالعقل الفعّال "( المصدر نفسه ، ص 9 ).ويتمّ بلوغ ذلك بأن يحصل له أوّلاً العقل المنفعل ثمّ أن يحصل له بعد ذلك العقل المستفاد : " فبحصول المستفاد يكون الاتّصال بالعقل الفعّال " بمعنى أنَّ العقل المستفـاد هو الصلـة الّتي تصل بين العقل المنفعل والعقل الفعّـال، والشّخص الّذي يحصل له ذلك _ كما هو الحال عند القدماء _ هو الملك الّذي يوحى إليه كونه بلغ هذه الرّتبة ، فتفيض من العقل الفعّال إلى العقل المنفعل القوّة الّتي بها يمكن أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال وتسديدها نحو السّعادة:"ويتمّ ذلك على اعتبار أنَّ العقل المنفعل هو شبه المادّة والموضوع للعقل المستفاد، والعقل المستفاد شبه المادّة والموضوع للعقل الفعّال ، وبما أنَّ العقل الفعّال فائضٌ عن وجود السّبب الأوّل ، يمكن القول بأنَّ السّبب الأوّل هو الموحي إلى هذا الإنسان بتوسّط العقل الفعّال.
"بناءً على ذلك يستنتج الفارابي بأنَّ رئاسة هذا الإنسان الموحى إليه من السّبب الأوّل بتوسّط من العقل الفعّال هي الرّئاسة الأولى في حين أنَّ سائر الرّئاسات متأخّرة عن هذه وكائنة عنها .. وينتج من ذلك أنَّ النّاس الّذين يُدَبَّرون برئاسة هذا الرّئيس هم النّاس الفاضلون والأخيار السّعداء ، فإن كانوا أمّةً فتلك هي "الأمّة الفاضلة"،وإن كانوا أُناساً مجتمعين في مسكنٍ واحـد يجمـع جميع من تحت هذه الرّئاسة فهي "المدينة الفاضلة" أمّا من كانوا في مساكن متفرّقة يُدَيَّر أهلها برئاساتٍ أُخر غير هذه كانوا أناساً أفاضل يعرض تفرّقهم لأسبابٍ متعدّدة، إمّا أنّه لم تتّفق لهم بعد مدينة يجتمعون فيها ، أو أنّهم كانوا في مدينةٍ عرضت لها آفات من عدوٍ أو وباء أو جدبٍ أو غير ذلك فاضطرّوا إلى التّفرّق،بعد ذلك ينتقل الفارابي للحديث عن طبيعة المدينة أو الأمّة الواحدة أو الأمم الكثيرة الّتي يتواجد فيها جماعة من الملوك في وقتٍ واحد، بأنّها تكـون موحّدةً كملك واحد نظراً لاتّفاق هممهم وأغراضهم وسِيَرِهم ، فتصبح القيادة الجماعيّة أمـراً يسيراً فيما بينهـم لعلّة تجانسهم ووحـدة مقاصدهم وأهدافهم ، وعليه يكون بالإمكـان تشكيل مجلس رئاسة منهم، فتكون نفوسهم كنفسٍ واحدة حتّى إذا توالوا في الأزمان واحداً بعد آخر، بحيث يكون الثّاني على سيرة الأوّل والغابر على سيرة الماضي، وهذا التّواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل لا يعني الجمود والتّقليد الخصال الواجب توفرها في رئيس المدينة الفاضلة:
ينبغي لرئيس المدينة الفاضلة حيازة اثنتي عشرة خصلة تكون قد اجتمعت فيه بالطّبع ويكون قد فُطِرَ عليها ، بالإضافة إلى توفّر ستة شروطٍ أخرى مكتسبة لكنّها لازمة (، آراء أهل المدينة الفاضلة) .
وأكثر النّاس يؤمّون السّعادة بالتّخيّل لابالتّصوّر ، لأنَّ التّخيّل أيسر لدى العقول من التصوّر إليها ، ناهيك أنَّ الأكثريّة من النّاس هم من ذوي الرّتب الخادمة والعاديّة : " وأكثر النّاس الّذين يؤمّون السّعادة إنّما يؤمّونها مُتخيّلةٍ لا متصوّرة ، والذّين يؤمّون السّعـادة متصوّرة ً ويتقبّلونها ، ويؤمّونها عل أنّها كذلك هم المؤمنون". . والأمور الّتي تُحاكى بالتّخيّل تتفاضل في الدّرجة، فمنها ما هو أزيد ومنها ما هو أنقص: " فيكون بعضها أحكم وأتمّ تخيّلاً، وبعضها أنقص تخيّلاً ، وبعضها أقرب إلى الحقيقة ، وبعضها أبعد عنها .. "
ثمّة مدن مضادّة للمدينة الفاضلة: المدينة الجاهليّة ، المدينة الفاسقة ، المدينة المتبدّلة، والمدينة الضّالة، ونوائب المدن. أمّا الجاهليّة : فهي تلك الّتي لم يعرف أهلها السّعادة ، ولا خطرت ببالهم ، وإن أُرشِدوا إليها لم يفهموها ولم يعتقدوها .. والسّعادة هي عندهم هي ما عرفوه من الخيرات تُظَنّ أنّها الغايات في الحياة وهي سلامـة الأبدان، واليسار والتّمتّع باللّذات وأن يكون مُخلى هواه ، وأن يكون مكرماً معظّماً ، فكل واحدة من هذه سعادة عند أهل الجاهليّة أنَّ فلسفة الفارابي السّياسيّة لم تكن معزولة عن منظومة أفكاره الفلسفيّة ، بمعنى أنَّ ما هو سياسيّ في فكر الفارابي يرتكز على ما هو فلسفيّ فيه ، فالسّياسي مرتبطٌ بالفلسفي ارتباطاً جوهريّاً يستحيل الفصل بينهما .
النّقطة الأخـرى في تصوّر الفارابي لرئيس المدينة الفاضلة أن يكون قادراً على الولوج في العالم الرّوحي والاندماج معه، للوصول بأهل المدينة إلى السّعادة الكاملة الّتي لا تدوم إلاَّ بدوام الاتّصال بالعقل الفعّال سواءٌ بطريق التّصـوّر العقلي أو بطريق التّخيّل ، القائمين علـى التّأمّل والإلهام ،وهذا يستدعي الجمـع بين النّبوّة والفلسفة في شخص رئيس المدينة الفاضلة
أما الكندي وهو مفكر لمع في عهد المأمون والمعتصم واشتهر بأصالة عبقريته وعمق معارفه، وأجاد لغات الإغريق والفرس والهنود، وكتب في الفلسفة والرياضة والفلك والطب والسياسة والموسيقى، وتولى ترجمة مؤلفات أرسطو إلى العربيةبتكليف من المأمون. فيرى أن العقل الفعال هو العلة الحقيقية لكل معقول في الوجود، على حين رأى الفارابي، وهو مؤسس نظرية الفيض والإشراق، أن العقل الفعال شيء خارج النفس، وأنه آخر العقول السماوية، ويسميه الروح الأمين، أو روح القدس، أو واهب الصور.
وحاول ابن سينا أن يطور التصور الإغريقي لسيرورة التعقل، فأدخل مفاهيم جديدة، مثل "العقل الهيولي" و"العقل القدسي"، لكنه احتفظ بفرضية العقل الفعّال. لذلك أطلق ابن سينا على قدرة النفس الفطرية على توليد التصورات والمفاهيم اسم العقل الهيولي، بينما أطلق اسم "العقل بالملكة" على المقدمات الأولية البديهية، "مثل اعتقادنا بأن الكل أعظم من الجزء، وأن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية." شدد ابن سينا على أن العقلين الهيولي وبالملكة عقلان بالقوة لا بالفعل، وزعم أن تحولهما من القوة إلى الفعل يتم بتأثير العقل الفعّال. وينتج عن عملية التحول هذه ظهور "العقل المستفاد"، وهو مجموعة المعارف والعلوم المكتسبة بالنظر والتعلم.
ورأى ابن سينا أن العقل الفعال قوة قدسية، وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية، وهي تفيض على العقول البشرية فتحاكيها، وهذا ضرب من النبوة أو الوحي، في حين يجعل ابن رشد العقل الفعال مظهراً من مظاهر النفس ليس خارجاً عنها، فما هو إلا انتزاع المعاني وتجريدها، يقابله العقل المادي أو الهيولاني الذي هو استعداد لقبول المعاني، الذي جعله خالداً أزلياً ليمكنه الاتصال بالعقل الفعال الخالد.
تأثر الفلاسفة المسلمون تأثروا أيضاً بقدرة العقل الذاتية على تحديد بنية الوجود بشقيه المحسوس والمغيب. لذلك كتب أبو حامد الغزالي كتابه الشهير تهافت الفلاسفة ليظهر أن الفلاسفة يسيرون في أصقاع المعارف الغيبية بلا دليل، "وأنهم يحكمون بظن وتخمين، ومن غير تحقيق ويقين." فاختلف معهم حول مسائل دينية تتعلق بأصل من أصول الدين كالقول في حدوث العالم وصفات الصانع ويبيان حشر الأجساد والأبدان"وقد أنكروا جميع ذلك فهذا الفن ونظائره هو الذي ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه".
إن النص الإلهي لا يمكن أن يتعارض مع الحقائق العلمية الغزالي إذن يرى أن العقل أساس يعتمد عليه في معرفة سنن الله في الطبيعة ومعرفة الظواهر الطبيعية وهذا يدحض لعمري "شائعات" الحداثية العربية المستلبة عن عداء أبي حامد للعقل الغزالي فهو خطأ الفلاسفة في قولهم إن العالم قديم لا أول له ومن المعلوم أن هذا ما يخطئه العلم المعاصر أيضاً الذي يحدد عمر الكون ويقرر أن الزمن بالذات بدأ مع خلق الكون!وهذا ما قرره أبو حامد بألمعية منقطعة النظير حين قال إن العجز عن تصور بدء وجود الزمان عائد "لعجز الوهم عن فهم وجود مبتدأ إلا مع تقدير قبل له" واعترض أبو حامد على قياسهم للخالق على المخلوق واستنتاجهم صفات الخالق من المخلوق واعتراضهم على وجود وقائع غيبية كالجنة والنار وعلى قدرة الله على بعث الأجساد وعلى قلب العادات المألوفة.
في كل هذا كان أبو حامد يرى أن العقل لا يكفي لوحده لتقرير حقائق العالم الآخر الذي لا يعرفه فبين الغزالي بطلان كثير من البراهين التي قدّمها الفلاسفة لإثبات مواقفهم. فعند الحديث عن الأطروحة التي نافح عنها الفلاسفة المشّاؤون القائلة بقدم العالم يثبت الغزالي أن البرهان على قدم العالم يقوم على مقدمة فحواها "استحالة صدور حادث عن إرادة قديمة، " وأن هذه المقدمة ظنية لا يمكن التيقن من صدقها. فهي ليست معرفة ضرورية يلزم قبولها دون دليل من ناحية، كما أن إثباتها برهانياً غير ممكن لفقدان الحد الأوسط الذي يمكن من خلاله الانتقال من المقدمات إلى النتيجة. وهكذا أظهر الغزالي عجز العقل البشري عن تحديد الحقائق الغيبية من خلال مقدمات نظرية، وحاجته بالتالي إلى مقدمات مستمدة من الخبرة الحسية أو معرفة منبثقة من عبارات الوحي المنـزّل.
لذلك يدعو ابن رشد في كتابه "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال" إلى منهج بديل يقوم على اعتماد المقدمات القرآنية عند النظر في الغيبيات. ويبين ابن رشد منهجه هذا بقوله: "فإن قيل فإذا لم تكن هذه الطرق التي سلكها الأشعرية وغيرهم من أهل النظر هي الطرق المشتركة التي قصد الشارع لتعليم الجمهور بها، وهي التي لا يمكن تعليمهم بغيرها، فأي الطرق هي هذه الطرق في شريعتنا هذه؟
قلنا هي الطرق التي تثبت في الكتاب فقط. فيجب على من أراد أن يرفع هذه البدعة عن الشريعة، أن يعمد إلى الكتاب العزيز، فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء مما كلفنا اعتقاده، ويجتهد في نظره إلى ظاهرها ما أمكنه من غير أن يتأول من ذلك شيئاً، إلا إذا كان التأول ظاهراً بنفسه، أعني ظهوراً مشتركاً للجميع."
لكن دعوة ابن رشد إلى استبدال مقدمات نظرية بمقدمات مستمدة من القرآن في الغيبيات لا يؤدي إلى حل إشكالية التعارض أوتجاوزها، بل يبقى قيام تعارض ظاهري بين الأحكام المستنبطة من الشريعة والأحكام المستنتجة بالبرهان محتملاً. وبالتالي تبقى الحاجة إلى إعمال التأويل بإخراج دلالة الألفاظ من الحقيقة إلى المجاز قائمة. يقول ابن رشد: "وإذا كانت هذه الشرائع حقاً وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا –معشر المسلمين- نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له. وإذا كان هذا هكذا، فإن أدّى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود [إمّا] أن يكون قد سكت عنه في الشرع، أو عرف به. فإن كان مما سكت عنه، فلا تعارض هنالك، وهو بمنـزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق [إمّا] أنْ يكون موافقاً لما أدّى إليه البرهان فيه أو مخالفاً. فإن كان موافقاً فلا قول هنالك وأن كان مخالفاً طلب هنالك تأويله.
وقد تنبه أهل السنة لمدى مخالفة فهم الفلاسفة اليونان لفهم الإسلام للعقل، ولا سيما ابن تيمية، حيث بيّن فساد آرائهم وفساد منطقهم، وقام بتفنيد هذا المنطق. والملفت للنظر أن المناطقة الغربيين المحدثين ساروا على طريق ابن تيمية نفسه في رفض المنطق الأرسطي. وقد بيّن ابن تيمية أنهم يصيبون في الحساب والطبيعة وكثير من علم الفلك، لكن فلاسفة المسلمين كما وصفهم "خير وأدق، وقلوبهم أعرف، وألسنتهم أنطق، وذلك لما عندهم من نور الإسلام".
ومع هذا الموقف الناقد بشدة للعقلانية اليونانية، فإن ابن تيمية بيّن أن الفلسفة ليست كلها ضلالا؛ فالفلاسفة الذين استناروا بنور النبوات، واستقلوا بالنظر العقلي دون تقليد أعمى للفلسفة اليونانية، أصوب رأيا وأدق قيلا، مثل أبي البركات البغدادي في كتابه "المعتبر في الحكمة"؛ حيث إنه كما وصف ابن تيمية: "أثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه ردا جيدا، وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله".
إن الحديث عن التعارض بين الوحي والعقل يفترض قيام علاقة تشابه أو تماثل في المحتوى والمضمون. فنحن مثلاً لا نتحدث عن تعارض بين مفاهيم وقضايا الجغرافيا والكيمياء، نظراً لاختلاف طرائق النظر وموضوعه في كل من الدائرتين المعرفيتين السابقتين. فالحكم الجغرافي بأن "جبال الهملايا أعلى جبال في العالم" لا يتعارض مع الحكم الكيميائي بأن "المعادن تذوب في الحوامض". فهل يتماثل مضمون الوحي ومضمون العقل؟
فإذا نظرنا في محتوى العقل المكتسب وجدنا أنه ينطوي على تصورات وتصديقات (أو مفاهيم
وأحكام) تنقسم إلى أنواع ثلاثة متمايزة:
1- أحكام متعالية عن الوجود الحسي ومرتبطة بالوجود المغيّب، كالحكم بأن النفوس تبعث من جديد بعد موتها لتثاب على أعمالها.
2- أحكام قيمية توجه العقل البشري في دائرة الحياة الاجتماعية، كالحكم بأن الصدق حسن والكذب قبيح.
3- أحكام تجريبية مستمدة من ملاحظات الإنسان الطبيعية والتاريخية، كالحكم بسقوط الأجسام التي تزيد كثافتها عن كثافة الهواء نحو مركز الأرض، أو الحكم باقتضاء الفساد الإداري في مجتمع ما تراجع اقتصاده وانهيار حضارته وعمرانه.
إن التأمل في بينة العقل يظهر لنا أن التعارض بين أحكام الوحي وأحكام العقل الفطري غير ممكن، نظراً لخلو العقل الفطري من الأحكام المضمونية واقتصاره على الأحكام الإجرائية.
وحديثاً اهتمت بعض الكتابات بالعقل وألّف الدكتور الجوزو مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة. وكُتبت دراسات جامعية في "العقل عند الأشاعرة" و"العقل عند الشيعة الإمامية"، وحُققت بعض كتب المتقدمين ومقالاتهم مثل "العقل وفهم القرآن" للحارث المحاسبي (توفي 243/857م) و"العقل عند ابن رشد" وغير ذلك. ومنذ بداية السبعينات، وعقيب هزيمة 1967 تزايدت تلك الدراسات والكتب التي تتحدث عن العقل العربي، ماضيه المنصرم، وحاضره المشهود ، ومستقبله المنشود وقد كتب الدكتور برهان غليون اغتيال العقل العربي، وكتب الدكتور محمد عابد الجابري تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي، وألّف الدكتور الجوزو مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة. وكذلك كتب الدكتور حسن حنفي والدكتور محمد أركون، من تلك الدراسات كتب ثلاث (بنية العقل العربي) : د. محمد عابد الجابري (خطاب إلى العقل العربي) : د. فؤاد زكريا. (قصة عقل) : د. زكي نجيب محمود .
ويلاحظ إن هذه الكتب وقعت في نفس الثغرة الأساسية الموجودة في موقف كثير من العقلانيين وهي الاعتقاد في ثبات العقل وواحديته أيضاً. وقد وقع أفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وليبنتز وكانط في هذه الثغرة بإضفائهم الثبات المطلق على صورة العقل ومقولاته ومبادئه. وهذا التصور أثبتت نظرية المعرفة الحديثة قصوره؛ لأن العقل كأي ظاهرة تاريخية قابل للتغير والتطور وفى كل مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز ذاته حيث يعيد بناءها بشكل جديد
فبادىء ذي بدء يرى الجابري ان اداة المعرفة العربية التي يطلق عليها بـ «العقل العربي» هي نتاج الثقافة العربية حتى في مظهرها الفاعل. فهي عبارة عما خلفته وتخلفه الثقافة العربية في الإنسان العربي بعد ان ينسى ما يتعلمه في هذه الثقافة من الآراء والمعتقدات والايديولوجيات. فما يبقى هو «الثابت»، وما ينسى هو «المتغير».. فما يبقى هو ذات العقل أو الاداة بعد نسيان ما افرزته من آراء ومذاهب، مستلهماً ذلك من التعريف المشهور للثقافة بأنها عبارة عن «ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء». واستناداً إلى بعض الغربيين اعتقد الجابري ان التعريف العلمي المعاصر للعقل هو انّه عبارة عن «القدرة على القيام باجراءات حسب مبادىء»، أو هو «لعب حسب قواعد». مؤكداً ان «العلم لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع»، وبالتالي فان العقل هو جملة قواعد مستخلصة من موضوع ما، اي من الموضوع الذي يتعامل معه الإنسان، فتعدد انواع المنطق والقواعد العقلية يأتي من تعدد انماط الحياة.
لقد جاء الفيلسوف المستشرق ارنست رينان «1832 - 1892» ليوظف نظرية الجنس في النظام المعرفي والعقلي، بل وأقام التفاضل العرقي بين الجنسين، حيث جعل من الجنس الآري متفوقاً على الجنس السامي. وقد توجت هذه النظرية اخيراً لدى بعض اتباع رينان من المستشرقين، كما هو الحال مع «ليون غوتييه» في اوائل هذا القرن، حيث ميز العقل السامي عن العقل الآري، معتبرا ان العقل الاول عاجز عن ان يرى الاشياء مترابطة، فرؤيته تجزيئية انفصالية ينقصها الانسجام والارتباط، بخلاف ما هو الحال في العقل الآري الذي له القدرة على الربط بين الاشياء والعقد فيما بينها بعقدة الاتصال والانسجام بوسائط تدريجية. لهذا فهو يرى ان الفلسفة اليونانية على على خلاف تام مع الدين العربي الاسلامي، فالاولى ترجع إلى الجنس الآري وهي لهذا قائمة على الوصل والارتباط، بينما يرجع الثاني إلى الجنس السامي، وهو لهذا يقوم على الفصل والتجزئة.
تكاد تكون النتائج الرئيسية التي توصل اليها الجابري في اعتبار تفاوت العقول المعرفية وتفاضلها واعتبار العقلية العربية البيانية هي عقلية فصلية تجريئية، تتشابه تماماً مع النظرية العرقية التي نظّر لها رينان واتباعه. لكن الملاحظ ان من الخطأ اتهام نظرية الجابري بالعرقية استناداً إلى وحدة النتائج، ذلك ان طرحه لا يتعالى على الحقيقة الإنسانيّة، فلا يذهب إلى صياغة العقل بالارتداد إلى الجنس كجنس، بل انّه يربط بنية العقل وتكوينه بالجغرافية اساساً، ومن ثم باللغة كجهاز استلام وارسال يضمر في داخله حقائق البيئة ذاتها. لهذا كانت مفاهيم اللفظ والاعرافي والصحراء والنحو والبلاغة وغيرها هي من اهم المفاهيم الموظفة في مشروعه للتعرف على كنه العقل العربي. فالجغرافية واللغة هي اهم ما في المشروع من اساس لتحليل تكوين العقل وبنيته، منهجاً ورؤية.
ومن ناحية أخرى فإن الجابري في تحديديه للعلاقة بين الفلاسفة الاسلاميين والثقافة العربية، جعل من هؤلاء الفلاسفة يقرأون الثقافة اليونانية بواسطة الثقافة العربية. وهو يضع قاعدة «عرفية» تتحدد بموجبها «الجنسية الثقافية» لكل مفكر، من حيث ان التفكير داخل ثقافة معينة لا يعني التفكير في قضاياها، بل التفكير بواسطتها، لذا اعتبر «الفارابي مثلاً الذي فكر في قضايا الثقافة اليونانية هو مفكر عربي لانه فكر فيها بواسطة الثقافة العربية من خلالها». وفي نفس الوقت ان «التفكير بواسطة ثقافة ما، معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية تتشكل احداثياتها الاساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل، بل والنظرة إلى العالم، إلى الكون والإنسان كما تحددها مكونات تلك الثقافة».
والواقع ان المشروع حاول ان يعكس علاقة الفلاسفة والمتصوفة الاسلاميين بالثقافة العربية الإسلامية كي يجد مجالاً لادخالهم ضمن بنية «العقل العربي» ولو افضى ذلك بالتناقض. فهو يجعل الفلاسفة الاسلاميين وكأنهم يفكرون في قضايا يونانية بواسطة الثقافة العربية، مع ان العكس هو الصحيح، اذ انهم يفكرون في قضايا يونانية واسلامية بواسطة الثقافة اليونانية ذاتها، بواسطة «العقل اليوناني»، فهو الاساس، وإلاّ فكيف يعترف المشروع ان اساس ما يقوم عليه الفلاسفة الاسلاميون هو البرهان والعقل الكوني الذي هو اداة «العقل اليوناني» كما نظمه أرسطو.
وأخيراً قدم المؤلف للعقلية العربية حلاً مبنيًا على ضرورة القضاء على سلطة السلف في حياة الأمة ، والخروج من قيد اللفظ والنص ، وإسقاط القياس كمسلك عقلي للاستنباط واعتماد "العقل" وحده بديلاً ، من خلال عصر تدوين جديد يقوم على فكر الرباعي "المغربي" الأندلسي (ابن حزم - ابن رشد - ابن خلدون - الشاطبي) .
الكتاب الثاني: خطاب إلى العقل العربي
أما الكتاب الثاني ، فهو عبارة عن عدة مقالات مجموعة ، صدرت في مجلة العربي للكاتب د. فؤاد زكريا ، في الفترة ما بين 1976-1987 تحت عنوان "خطاب إلى العقل العربي". وتناول هذه المجموعة من المقالات عدة موضوعات ، قسمها صاحبها إلى ثلاثة أقسام:
1- دافع الثقافة العربية .
2- الفكر والممارسة في الوطن العربي .
3- أضواء على العالم المعاصر .
والكاتب - كغيره من أصحاب الاتجاه اليساري المادي - يتوهم صراعًا دائرًا بين العلم والدين (ص 64) في المجتمع الإسلامي ، على غرار الصراع بين الكنيسة والعلم في أوربا القرون الوسطى ، ويعزو لتلك المشكلة الموهومة أسباب التخلف والانحطاط!.
كذلك فهو يرى أن أسس الدين الإسلامي ، التي تقوم على أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأن "كلمة الله الحرفية التي لا يتناولها التغيير ولا التبديل" ، يجعل من الصعب على المسلمين أن يتقبلوا تغييرًا في طبيعة العلاقة بين الله - عز وجل - وبين الناس على غرار ما تقبلته أوربا حين قدمت إلهًا يحكم العالم بالرياضيات ، في فكر ديكارت ، أو غير ذلك من صور العلاقة بين الخالق والمخلوق ، التي تنحى فيها سلطة الخالق وسيطرته الفعلية على البشر بشكل تام وحاسم . والحق أن إثارة مثل تلك المشاكل المفتعلة ، وتقديم مثل تلك التحليلات الواهية إنما يعكس ضحالة المعرفة وقصور الفهم بطيعة الدين الإسلامي.
الكتاب الثالث: قصة العقل
وفي سلسلة الحديث عن العقل العربي ، قدم الدكتور: زكي نجيب محمود كتابه "قصة عقل (1983) الذي نحا فيه منحى السيرة الذاتية العقلية ، مؤرخًا لرحلته الثقافية منذ اشتراكه في مجلة لسلامة موسى ، بمقالات عن وحدة الوجود إلى أن اتجه إلى الثقافة الغربية اتجاهًا تاماً ، يصوغ من خلالها اتجاهه الفكري ، وليتخير منها مذهبًا فلسفيًا يجعله له "هاديًا ونبراسًا" (ص 93) هو مذهب "الوضعية المنطقية" لفتجنشتين ولما كان الإيمان من قبيل الوجدانيات كما يراه المؤلف متبعاً مذهب الوضعية المنطقية ولما كانت ألفاظه تعبر عن معان ذاتية لذلك فهو "تصديق بغير برهان ، وأما منطق العقل فطريقه البراهين"!. لذلك فالتعبيرات التي تتناول موضوعات كالإيمان أو غيره "هي تعبير ذاتي عما يخالج المتكلم من مشاعر، وهاهنا لا منطق ولا قضايا تقاس بمقاييس موضوعية لتفرقة بين حق وباطل"(ص 175) .
وبناء على ذلك فإنه ليس من حق أي جماعة "أن تتهم أنصار فكرة بعينها أنصار فكرة أخرى بالضلال إذا كان كل من الجماعتين مستندًا إلى مبادئ غير المبادئ التي تستند إليها الجماعة الأخرى".
"العروي" من العقل إلى العقلانية
يقول العروي في كتابه «مفهوم العقل» «لا يكون العقل عقلانية، لا يجسّد في السلوك، إلاّ
إذا انطلقنا من الفعل، وخضعنا لمنطقه، ثم بعد عملية تجريد وتوضيح وتعقيل، أَبْدَلْنَا به المنطق
الموروث، منطق القول والكون، منطق العقل بإطلاق» فحتى الذهنية الناظمة لتفكير محمد عبده باتجاهه العقلي هي الذهنية الكلامية ، وهي ذهنية ترى أن العقل عقل للنص، «فالعقل هو ما يعقل العقل ويحده، وما يعقل العقل، ويؤسسه كعقل، هو علم المطلق، الذي هو علم مطلق».وفي سياق سعيه للبرهنة على استحالة منطق الإحياء والبعث والتجديد من الداخل، وكذا استحالة الحلول الوسطى التوفيقية، التي تخلط بين الأزمنة والعصور والمفاهيم، خصص الأستاذ العروي، القسم الثاني من الكتاب، لإبراز حدود ومحدودية العقل الإسلامي في تجلياته ذات الطابع العملي.
إن العقل في نظام الفكر الإسلامي بالنسبة للمؤلف واحد، والخلافات داخل قلاع الثقافة الإسلامي، بين الفقه والفلسفة والكلام والتصوف، رغم عنفها في بعض اللحظات، ظلت تنشأ بتعبير المؤلف «على الأطراف والتخوم، لا على المعاقل والحصون» ووظيفة العقل في مختلف تجليات ومظاهر العقل الإسلامي، تتجلى في عملية التأويل باعتبارها عملية «تَطَلُّعٍ إلى الأول والأولي، عقل الأمر والإسم»، حيث يكون العلم هو «فقه الأوامر» يدعونا العروي لنعاصر فعلاً، عقلانية الأزمنة الحدثية، ونتحدث لغتها، فتتقلص حدة المفارقات ونتصالح مع التاريخ، حيث نكون قد تخلينا عن العقل الوسيط، وتملكنا معقولية الأزمنة الحديثة.
إن مفهوم العقلانية في الساحة الفكرية يناقش عادة تحت وطأة الجدل السياسي حول العلمانية والدين، حيث يحتكر الطرف العلماني الحديث باسم العقلانية في حين يبدو وكأن الطرف الذي يدافع عن الدور الفعال للدين في المجال العام بدوائره المختلفة يقف موقف التحفظ من العقلانية إن لم يكن العداء لها، فالعقلانية اقتراب فكري يعتبر العقل مركزيًّا في توليد المعرفة الصحيحة. ويتحدد معنى "العقلانية" المقصود بحسب المجال: نظرية المعرفة الدين، علم الأخلاق، المنطق، العلم الطبيعي والرياضي. لكن الاستخدام الأكثر شيوعاً للكلمة يتعلق بنظرية المعرفة واقتراب التعامل مع الدين (وحياً ونبوة) كمصدر للمعرفة والإسلام لا يرفض العقلانية بكل أنواعها ومستوياتها، إنه فقط يرفض العقلانية الجذرية (أو العقلانية الأصولية إذا جاز التعبير) والتي ترفض أي مصدر للمعرفة غير العقل.
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home