عمرانيات

مدونة تهتم بقضايا العمران الإنساني بالبحث والترجمة الزائر الكريم: تفضل بزيارة مدونتي الأخرى Mnzoor.blogspot.com Alkasd.blogspot.com

الاثنين، نوفمبر ٢٠، ٢٠٠٦

من الاجتماع البشري إلى العمران الإنساني

  • Alkasd my other blog
  • من الاجتماع البشري إلى العمران الإنساني:
    أنسنة السياسة عند حنا أرنت وابن خلدون



    لا تهدف هذه السطور إلى المقارنة ولا المقاربة بين النظرية الخلدونية ومفاهيم "حنا أرنت" ليس خوفاً من عدم معاصرة ابن خلدون، وإنما إدراكاً لحقيقة أن قيمة التصور الخلدوني إنما تكمن ابتداءً في أصالته واستقلاله وتكامله . فقيمة طرحهِ ليست في اختلافه أو توافقه مع الآخر ، وإنما في تحركه كوجودٍ أصلي وفعلي يستطيع أن يقيم علاقة حوار وتعارف مع الآخر . وهذا يختلف جذريا عن الحوار المبني على ترجمة ما عند الآخر ، أو بتعبير ثانٍ "الآخر محرَّفاً" . حيث لا يمكن لمثل هذه المشاركة أن تقيم تعارفاً، وإنما تعطي - في أحسن حالاتها – تسامحاً، وهو تسامحٌ يكون ملكاً للآخر وهو يتعامل مع من يريد مشاركته عبر ترجمته .
    هذا فضلا عن أن أسلوب المقارنات الذي يبحث عن الاتحاد في الآخر وربما الفناء فيه ، أو عن نفيه وإلغائه وتغييبه، هو أسلوب قاتل للتعارف ، لأن التعارف يستلزم أولا وقبل كل شيء إيمانا بحقيقة التعلم من الآخر حتى في حالة تعليمه .
    إن أصالة ابن خلدون الذي ولد في تونس سنة 1332 للميلاد هي التي تجمعه مع حنا أرنت؛ فهما عاشا لحظة أزمة عالمية تتطلب التفكير العميق في التحول الحاصل من جرائها، فها هو ابن خلدون يقول "وإذا تبدلت الأحوال جملةً فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلقٌ جديد ونشأةٌ مستأنفةٌ وعالَمٌ مُحدَث". ولذا تبرز مسؤوليته في إعادة كتابة التاريخ كضرورة فيقول "فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة والآفاق والأجيال والعوائد والنِّحل التي تبدلت لأهلها ويقفو مسلك المسعودي لعصره".
    وهو حس الأزمة الذي عانته حنا أرنت عندما كتبت تقول "لم نكن بحاجة للشمولية لإظهار أننا تعيش في عالم مقلوب رأسا على عقب وأصبح الغباء شائعاً كأنه الحس المشترك.
    وهكذا تشابهت الخبرة الإنسانية فكان لابد من تلمس أوجه التكامل في الرؤى التي يطرحانها للخروج بالعلم والعالم من أزمته
    إن اصالة ابن خلدون المشارإليها آنفاً ترجع إلى أنه وهو يحاول أن يفهم أزمة حضارته كان مضطرا خلال عمليته التنظيرية إلى تأصيل مفاهيم جديدة تتجمع وتتكامل داخل النسق المعرفي الإسلامي، فهو لم يخرج على الدوائر العامة الكبرى للتصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون، ولكنه - في الوقت نفسه - لم يجد نفسه مُلزما باستعمال نفس الأدوات والمصطلحات والتعابير ، ولا حتى المنهجية الفكرية التي كانت شائعة في العالم الإسلامي في عصره أو ما قبل عصره، حين رأى أن تلك المصطلحات أو المنهجية لن تمكنه من القيام بواجبه، ومن أداء دوره الخاص والمتميز. بل إن هذا الأمر بالذات هو ما مكّنهُ من تقديم عطائه المبدع بشكل جعله بحق أول من حاول بشكل متكامل إيجاد تصورٍ إسلاميٍ معرفيٍ للحضارات وللاجتماع الإنساني وحركته على وجه الإجمال .
    فلا يمكن القول مع د. محمد ربيع بأن ابن خلدون كان الواقعي/العقلاني الوحيد بالمقارنة بمن سبقه من علماء مثل الماوردي والغزالي وغيرهم أو أن منهج ابن خلدون هو مرحلة متوسطة بين المناهج المجردة وبقايا المنهج الصوري التي كانت سائدة قبله في العصور الوسطى من جانب، وبين المناهج الوضعية والمادية لكبار المفكرين الذين ظهروا في أوربا في العصر الحديث من جانب آخر.
    فابن خلدون نفسه يقر بأن "ابن طباطبا" قبله قد حوم على الغرض الذي أنشأ من أجله المقدمة دون أن يصيب الهدف، ومع ذلك استمر ابن خلدون حاد الوعي بمسؤلياته كرائد يضع لبنات علمه الجديد: علم العمران " ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاماً وأعثرنا على علم جعلنا بين نكرة وجهينة خبره فإن كنت قد استوفيت مسائله و ميزت عن سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه فتوفيق من الله وهداية و أن فاتني شيىء في إحصائه واشتبهت بغيره فللناظر التحقق إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق والله يهدي بنوره من يشاء".
    كان ابن خلدون شديد الذكاء والطموح والكاريزما فهو الذي خلب لب الأساطين وطلبة العلم وأثار غيرة الحُساد والواشين، كان رجلا ذكاؤه وإدراكه أكبر من أن تحيط به مؤسسة واحدة، وأكبر من يحتويه بلاط واحد، كان في نفسه متسع لما هو أكبر، فالرجل الذي لم تسعه المؤسسات، وسعه التاريخ، فانخرط يقرأ ويحلل ويفسر ويضبط ويعيد ترتيب العلاقات، يستهدف بيان وبناء (العمران) هذا الهدف الكبير الذي كان بقامة تطلعات ابن خلدون ومزاجه المنضبط.
    وليؤسس عمرانًا منضبط، تسلح بمنهجية منضبطة، فحدد هدفه، وحدد منهجه، وبين الفرق بينه وبين سابقيه، والجديد الذي سيقدمه مقارنة بهم (المراجعة النقدية للأدبيات) وبيّن موضوع العلم الذي يقدمه ومكانته وفضله، وشرح تقسيم دراسته وهدف التقسيم.
    لقد سلك ابن خلدون منهجًا جديدا، قام على استقراء الأحداث التاريخية وإعادة ترتيبها وتفسيرها بعوامل بعينها، ولربما يكون بهذا قد أحدث قطيعة معرفية (بمفهوم جاستون باشلار أو التوسير)، أو أحدث ثورة في بنية العلم (بمفهوم توماس كون) لكنه لم ينقطع عن مرجعيته الإسلامية، ولم يكن "العقلاني الوحيد" أو "أول من فسر التاريخ بالمادية الجدلية" أو "صاحب الرؤية العلمانية في تفسير التاريخ .
    ويظهر هذا من استقراء بعض المفاهيم الأساسية في المقدمة مثل:
    السياسة وهي عند ابن خلدون عملية تستهدف دائما الخير الخاص والعام، هي إصلاح بتعبير ملخص، فسواء سميت السياسة المدنية (فهي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليُحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه) ، وسواء فرضها العقلاء وأصحاب البصائر ، فباتت سياسة عقلية نفعها في الدنيا فقط، أو فرضها الله وشرعها، فكانت سياسة دينية أو خلافة نفعها في الدنيا والآخرة، فهي محبذة ومثمنة ومحملة بقيم الخير والإصلاح "إذ الخير هو المناسب للسياسة"، فأي غرابة أن يشتغل بالسياسة قياما على هذا المعنى رجل عُني بالعمران (أحوال الاجتماع البشري) كما لم يعن به أحد .
    ترتبط تحولات الاجتماع البشري بمفهوم القوة التي عالجها ابن خلدون من خلال منظومته المفاهيمية وبالأخص مفهوم الوازع كمفهوم أساس فهو يعني عنده أساس الالتزام الاجتماعي "ثم أن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه و تم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم فلابد للاجتماع البشري من وازع" والوازع قد يكون التغلب والرئاسة، ويتخذ التغلب في البدو شكل العصبية، فهي مفهوم أساس.
    ويجمع الوازع بين مفهومي القوة من أجل تحقيق أهداف معينة و القوة على أطراف أخرى "فاصطباغ العرب بصبغة دينية جعل الوازع لهم من أنفسهم فانصرفت النفوس إلى الحق ...وأقبلت على الله فاتحدت وجهتها فذهب التنافس وقل الخلاف وحسن التعاون والتعاضد واتسع نطاق الكلمة فعظمت الدولة" ووسيلة الوازع إما ملك أو عصبية أو نبوة.
    الوسيلة الأولى لقيام الوازع هي العصبية لقد ربط ابن خلدون بين العصبية والاجتماع، (الاجتماع والعصبية بمثابة المزاج للمتكون) وإذ كان ابن خلدون يربط العصبية بالبدو وسكناه، فذلك لأن البداوة هي صورة الاجتماع الاولى ، وهو أمر كشف عنه من قبل في تقسيم مؤلفه حين بدأ بالعمران البشري على الجملة، ثم أردفه بالعمران البدوي وذكر القبائل والامم الوحشية، ثم الدول والخلافة والملك، ثم العمران الحضري..إلخ ، وقال في تفسير ذلك "وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها"
    العصبية رابطة تقوم على أصل مشترك/نسب (حقيقي أو متوهم) يشترط فيه عنصر الادراك من قبل المنتمين له (لهذا النسب) ، وعنصر اللحمة والنعرة والتناصر، والعصبية قوة تتحرك باستمرار لاكتساب مزيد من القوة والسلطة وهي تقترن بالخلال الحميدة "إن المجد له أصل ينبني عليه، وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير، وفرع يتم وجوده ويكمله وهو الخلال، وإذا كان الملك غاية العصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها وهي الخلال" وعندما تضعف (بالترف والظلم وذهاب الفضائل) فإنها تهيء لانتقال السلطة لعصبية أخرى. وقيم العصبية لا تقتصر على قيم التماسك الداخلي أو القيم المشتركة بين أهل العصبية، بل تمتد إلى القيم العامة مثل العدل وإكرام أهل العلم.
    والعصبية في بنائها كمفهوم ارتكزت على "صلة الرحم"، وهو مفهوم من صفته التراحم والموالاة والنصرة ، ولا يتضمن انكفاء على الداخل ولا يقوم بنائياً في مواجهة الآخر، بل إن الصلة التي تنشئها الرحم صلة ممتدة وواسعة وتجميعية وليست اقصائية بحال، ولا تحمل نظرة خاصة للذات في مقابل الآخر. وإلى جانب صلة الرحم كنسب حقيقي، قد تقوم العصبية على رباط متوهم، لكن تتحقق فيه ثمار النسب من النصرة والتلاحم، والرباط المتوهم قد يكون بولاء أو حلف أو لجوء أو التحام
    والعصبية إذ تقوم على النسب، فلابد مع النسب من ثمراته، وثمرات النسب في النعرة والنصرة، فإذا وجد النسب دون ثمراته لم توجد العصبية، وإذا وجدت ثمراته ولم يوجد النسب، وجدت العصبية، فالنسب أمر وهمي لا حقيقة له ونفعه إنما هو في الوصلة والالتحام. وهذا أمر يقتضي وضوح النسب وإدراكه.
    والنسب مفهوم منظومة، فالنسب درجات، فهناك النسب بالولادة، أو بصلة الرحم، وهناك نسب الاصطناع. أما النسب بالولادة، ففيه نسب خاص يكون بين أبناء العمومة الأقربين ونسب عام بين أبناء العشيرة، والنسب الخاص عصبيته أقوى من العام لبروز ثمرات النسب فيه بشكل أكبر، كذلك الحال بالنسبة للنسب القريب والمتواصل والبعيد. أما نسب الاصطناع فقد يكون بالولاء والحلف والاسترقاق أو بالادعاء، وأهل نسب الاصطناع عصبيتهم دون عصبية الدم في العموم ولا تكون لهم الرئاسة على عصبية الدم، وشرف أهل نسب الاصطناع يكون بالعصبية التي يلتحمون ويلتصقون بها لا من نسبهم الحقيقي، وأهل نسب الاصطناع قد يشكلون عصبية قوية حال وقوع ثمرات العصبية من النصرة والالتحام. والنسب حين يختلط بالنصرة والعصبية فهو حسب، والحسب بالنسب وحده دون العصبية ليس حسبا في الحقيقة ومدعيه هو موسوس بالحسب ليس إلا. والنسب والحسب يجري عليهما الفناء ، فتختلط الأنساب خاصة في المدن من كثرة التصاهر ومخالطة العجم، بينما تظل الأمم البدائية في القفار محتفظة بصريح النسب، ذلك لأن فرط الفقر وشظف العيش الذي يعيشونه يجعل منهم بيئة طاردة لأي غريب يريد أن يختلط بهم، فتظل أنسابهم محفوظة صريحة بين قومهم الذي اعتادوا شظف العيش في القفار وحملوا نفسهم عليه.
    وعليه يعرف ابن خلدون العصبية بـأنها " نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته وهي مما جعله الله في قلوب عباده من الشفقة و النعرة على ذوي أرحامهم و قرباهم موجود في الطبائع البشرية وبها يكون التعاضد و التناصر و تعظم رهبة العدو لأهل العصبية."
    وهكذا أوضح ابن خلدون في البداية أهمية الوازع في الاجتماع البشري.
    - وميز بين الوازع عند أهل البدو وأهل الحضر.
    - وأوضح أن "العصبية" هي الوازع الذي تحتمي به أحياء البدو.
    - وأن العصبية هي ضرورة في كل أمر يُراد أن يحمل الناس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة ، لأن بلوغ الغرض يتم بالقتال لما في طبائع البشر من الاستعصاء، ولا بد في القتال من العصبية.
    - أن العصبية تقوم على النسب (صلة الرحم) أو ما في معناه (مثل الولاء) وما يولده النسب من نعرة ونصرة بين أهله.
    - أن النسب المشترط للعصبية هو النسب الصريح المدرك والمتحصلة ثماره في النعرة.
    - أن النسب المختلط قد ينشيء عصبية طالما وجدت "ثمرات النسب" من النعرة والقود وحمل الديات وسائر الأحوال.
    - الرئاسة تكون لأهل النسب الخاص لأن عصبيتهم أشد من أهل النسب العام، فيكون لهم الغلب.
    وتحدث ابن خلدون في مقدمته عن العصبية وتكوين الدولة (الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك) ويتحدث عن العصبية والشرعية ، وعن العصبية واستقرار الدولة (الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة)، وعن الترف والظلم كعوائق لهدف العصبية في الملك، وكمقوض للملك..
    ويرى ابن خلدون أنه في الحضر يكون الوازع هو الملك ، والملك ليس إلا عصبية اكتست فوق الغلب والرئاسة صفة القهر والحكم به. فالملك إنما يحصل بالتغلب والتغلب إنما يكون بالعصبية ومع ذلك يصبح الملك وسيلة مستقلة لقيام الوازع وذلك عندما تستحكم الغلبة للدولة ويستقر في النفوس الانقياد لما استحكم لها من صبغة الغلب في العالم فيصبح هذا الانقياد بديهة مسلم بها فكأنه حصل للدولة نوع من استقرار الهيمنة." فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة و توارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين و دول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية و استحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة و رسخ في العقائد دين الانقياد لهم و التسليم و قاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل و لا يعلم خلافه".
    أما النبوة أو دعوة الحق فهي أهم وسائل قيام الوازع لأنها تجعله من داخل النفس من خلال الاستدخال الطوعي للقيم والضبط الاجتماعي فهي تجمع بين مفهومي الضبط الاجتماعي الذي يحمل بعض معنى القوة وفهوم الهيمنة ويشرح ابن خلدون ذلك خلال حديثه عن العرب بقوله "... وأنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلَّ ما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خُلُق الكبر والمنافسة منهم، فسهُل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المُذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس". وواضحٌ أن المسألة هنا لا تتعلق برفض الهوى ابتداءً ، وإنما بالقدرة على التحكم فيه وتوجيهه إلى الحق ، أي في وجود "الوجهة" المطلوبة .
    ولذلك يلاحظ ابن خلدون أن الدعوة الدينية تزيدُ الدولة قوة فوق قوة العصبية التي كانت لها ، والسبب في ذلك "أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرِّد الوجهة إلى الحق ، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم ، وهم مستميتون عليه ، وأهل الدولة التي هم طالبوها [أي الدولة التي يواجهونها] وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل ، وتخاذلهم لتقية الموت حاصل ، فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعالجهم الفناء بما فيهم من الترف والذل".
    اما الصور التي يمكن أن تتجسد فيها القوة فقد ميز ابن خلدون بين الغلبة التي تتضمن الانقياد الطوعي والجبر المادي من ناحية وبين القهر فالجبر ضروري في أول عهد الدولة " حيث يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من لغلب للغرابة وأن الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه".
    أما القهر فمثاله غلبة أهل الأمصار على أهل البوادي والقفار حيث يضطرون إلى طاعة رئيس المصر لما يتوقعونه من فساد عمرانهم ومع استحالة حياتهم بالقفار لايجد هؤلاء ملجأ إلا طاعة المصر.
    وهناك الهيمنة المرتبطة بالدعاوى الدينية على النحو الذي سبقت الإشارة إليه.
    إن ابن خلدون يفرق بين الاجتماع البشري والعمران في معناه الخاص الذي يجعله نوعا خاصاً من الاجتماع البشري أو هو كمال الاجتماع، فالإنسان كائن اجتماعي لا تصح حياته بدون مجتمع "فالاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يُتخيل وجودهم وما أراد الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم" ، كما أن الإنسان نفسه مهيأٌ خَلقيا للعيش مع الآخر ، وهو يحتاج يده "المهيأة للصنائع"4 وذلك لجعل حياته ممكنة. والملاحظ هنا أن العمران يكتسب معنا معرفيا عميقا حيث يصبح مرتبطا بغاية خلق الإنسان، وتصبح خلافة الإنسان في الأرض مسؤولية كل فرد على تحقيقها في ذاته أولا، بحيث تكون من هذا الوجه مسؤولية فردية، ثم على تحقيقها اجتماعيا داخل العمران الإنساني كمسؤولية جماعية.
    وكذلك فإن ابن خلدون يؤكد على أن الإنسان هو صاحب مصيره، وهو المسؤول عنه، على عكس الحيوانات الأخرى، وذلك "لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها" . وربما كان من المناسب أن نقف هنا وقفة صغيرة عند إشارة ابن خلدون للحيوانات بـ "التكوين" وإشارته المقابلة للنوع البشري بـ "العمران" ، وعلاقة تلك الإشارات بمسألة "الاختيار" و "الحرية" فيما يتعلق بالمصير البشري. فوجود الحيوانات على هذه الأرض ومصيرها فيها إنما هو وجودُ "تكوين" محدد المصير والوجهة والهدف والغاية، ولذلك تضع بعض الحيوانات بيضها في مكان ما ثم تمضي بعيدا في عمق الحياة دون عودة إلى ذلك المكان ودون قلق على مصير الذرية. بينما يبلغ الولد العشرين من العمر في التجربة البشرية وهموم مصيره ومآله ومستقبله تلاحق الأب وتؤرق الأم. لأن الأمرَ أمرُ اختيارٍ للمصير، لا يطمئن الوالدان إلا بعد استيقان صوابه ورشاده وفق مقاييسهما أياً كانت.
    أما الخلافة في كلام ابن خلدون فإنها تأخذ شكل الهيمنة، التي وإن كانت تتربع على أعلى موقعٍ في سُلَّم المخلوقات، إلا أنها هيمنةٌ مسؤولةٌ دورها الأساسي هو المحافظة على الحياة أولاً، ثم الوصول إلى أكمل صورة ممكنة لها في هذه الدنيا.
    إن ابن خلدون يؤكد على ضرورة وجود "الوجهة" كأمرٍ لابد منه لكي يوجد العمران ويتحرك ويتكامل. وكلما ارتقى الإنسان في تحديد وتمييز تلك الوجهة، بحيث تكون وجهةً إلى الحق، ازداد تكامل العمران البشري على هذه الأرض. وحيث إنه يقسم العمران ( بالمعنى العام) إلى درجات ، تبدأ بالعمران البدوي الحاجي الأولي، وتنتهي بالعمران الحضاري الكمالي التكاملي، فإن شرط التحول والانتقال من العمران البدوي إلى ما بعده إنما هو وجود تلك "الوجهة" التي تعني الغاية والهدف والطريق الذي يحرك الإنسان في هذه الحياة .
    فإذا وصل العمران مرحلة الحضارة بمعنى التفننٌ في الترف وأحكام الصنائع المستعملة يلوح خطر طغيان عالم الأشياء لأن قوة الدولة تزداد وحصول الاستيلاء يتمُّ وعِظَمَ واستفحال المُلكِ يتفاقم "فيدعو إلى الترف ويكثر الإنفاق بسببه ، فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر، ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة ، ثم يُعظَّم الترف فيكثر الإسراف في النفقات وينتشر ذلك في الرعية". ويبدأ الاجتماع البشري في التوجه إلى لحظات أزمةٍ خانقة، لا يحلها على الإطلاق زيادة الإنتاج، بل إن تلك الزيادة تساهم في تعفين الأجواء وتعميق الأزمة .
    إن هذه اللحظة هي لحظة الاكتمال الطاغي للعمران الناتج عن لحظة سيادة عالم الأشياء (أي المنتجات والماديات)، وذلك عبر مثلث جهنمي متناقض يتمثل في طغيان توفر الأشياء من جهة، وشدة البحث عنها من جهة أخرى، والضعف المتناهي للتحكم فيها والقدرة على وضعها موضعها من جهة ثالثة . وبدلاً من أن يمتلك الإنسان الأشياء في هذه اللحظة ، يصبح هو - عملياً - ملكاً لها ، لأن امتلاكها صار محور حياته وحركته ، وصار هو "الوجهة" و"الغاية" .
    ولذلك تصبح المفارقة في مثل هذا العالم أن موت الإنسان من الجوع - وهو ما يحصل كثيراً، وبشكلٍ يشينُ كل حضارة إنسانية معاصرة - لا يعود مرتبطا بفقدان عالم الأشياء .. وإنما من تحقق عالم الأشياء وتكدسها، وما ينتج عن ذلك التكدس من مناهج في الحياة والتفكير والتعامل بين الإنسان وأخيه الإنسان .
    وفي هذه اللحظة تستحيل "الوجهة" التي أنتجت الحضارة عبر تحرك العمران نحو تحقق عالم الأشياء ، ثم تفقد "العصبية" القدرة على توحيد الأهواء باتجاه تلك الوجهة وتبدأ هي أيضا في التلاشي ، ليكون تلاشي العصبية أخيرا مُفضياً إلى تلاشي الدولة كليا "إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفيء والله مالك الملك ومدبر الأكوان لا إله إلا هو" .
    هكذا يتضح من استقراء محاولة ابن خلدون لوضع أسسس علم العمران أنها لم تكن استثناء مما يظهره تاريخ العلم من أن رؤية معينة للعلم وتصنيف العلوم ليسا إلا نتاجاً طبيعياً لظروف حضارية معينة، فثمة علاقة واضحة بين بناء العلم والبناء الاجتماعي بحيث يصبح من غير السائغ الحديث عن المنهج العلمي دون الإشارة إلى البناء الاجتماعي الذي يستخدم في إطاره، فأي منتج علمي صادق يمثل في الوقت ذاته وإلى حد كبير تصديقاً وتدعيماً للبناء الاجتماعي وينطبق هذا أيضا على التصور السائد لمفهوم العلم، فالعلم كما يعرفه "القاموس الحديث لعلم الاجتماع" هو الذي يرتكز على المنهج العلمي الذي يعرفه بدوره بأنه " عملية يتم في إطارها بناء كيان من المعرفة العلمية من خلال الملاحظة والتجريب والتعميم والتحقق هذا الكيان مبني على افتراض أن المعرفة العلمية لا يمكن قبولها على أنها صحيحة أو ذات معنى إلا إذا كان من الممكن التحقق من صدقها إمبريقياً ... ولكن على الرغم من أن المنهج العلمي يعتمد على جمع الحقائق الإمبريقية (المستمدة من المدركات الحسية) فإنه يفوق هذا إذ لابد من ترتيب هذه الحقائق بطريقة ما ليصبح لها معنى وتحليلها وإصدار التعميمات المنطلقة منها وربطها بالحقائق الأخرى من خلال إطار نظري يعمل على تقديم وسيلة لتنظيم الملاحظات الإمبريقية وتفسيرها وربطها بما توصل إليه الباحثون من قبل من نتائج.
    هذه الرؤية للعلم تتجلى في منطلقات المدرسة السلوكية في العلوم الاجتماعية كما صاغها ديفيد إيستون في أكثر صياغاتها تطوراً من ناحية تعبيرها عن صيغة منفتحة تدرك تكامل البحث النظري والإمبريقي وتفسح مكاناً لرؤية تدرك مدى وحدود القياس والارتباط بين العلم واستخدماته الاجتماعية لكنها تظل تعبر منطلقات المشروع العلمي الحداثي الذي يجمع بين الإمبريقية الإنجليزية والعقلانية الفرنسية ويعد تجريداً تنظيراً فلسفياً لمنهجية العلوم الطبيعية وتطبيقها على الظواهر الاجتماعية لعمل علاقات ارتباطية يمكن كشفها وتجريدها والاستفادة منها في التنبؤ العلمي والصناعة لكن هذه المدرسة السلوكية سرعان ما تتضح أبعادها كأيديولوجيا محافظة كما اتضح توظيف ابحاث السلوكيين لخدمة الوضع القائم وحل المشكلات الاجتماعية التي تواجهه من منظار استعادة التوازن والاستقرار ومن هنا كان اهتمام تشارلز مريام رائد "المنهج العلمي" منصباً على مسألة التخطيط السياسي Policy Science الذي لا يخدم ولا يعنى إلا بالوضع القائم.
    هذه الرؤية للعلم تستبطن رؤية معينة للعالم وترافقت مع تغيرات اجتماعية وسياسة هزت المجدتمع الأوربي منذ عصر التنوير وبداية المشروع الحداثي الذي أصل رؤية الإنسان في مواجهة الطبيعة والكون، حيث يصبح العلم أداة الإنسان للسيطرة على الطبيعة ثم على الإنسان نفسه في مرحلة لاحقة ووصولاً لهذه السيطرة كان لابد من تفتييت الإنسان - حيث لم يعد ينظر إليه كـ" ماهية خفية " بل كـ " ظاهرة - إلى مجموعة موضوعات يختص كل علم من العلوم الاجتماعية بدراسته وتحديد القوانين التي تحكمه ومن ثم غاب الإنسان عن علوم الإنسان غاب ككائن له تميزه وأصالته فأصبح ظاهرة كأي ظاهرة طبيعية لا تختلف عنه إلا في درجة تعقدها، والملفت للنظر أن التيار السلوكي كما يعبر عنه "واطسون" والتيار الماركسي يلتقيان عند هذه النقطة فرأى "ماركس" و"إنجلز" أن الإنسان ظاهرة متطورة من ظواهر الطبيعة، ولحظة من لحظات جدل الطبيعة وفي النهاية تتحول دراسة الإنسان إلى دراسة " الفيزياء الاجتماعية".
    كما غاب الإنسان في كليته وتم إخضاع الإنسان لمنطق الدراسة "العلمية" التي لا تقبل إلا الأشياء القابلة للتحديد والقياس بما أدى لتحديد أبعاد متعددة للإنسان كموضوعات للدراسة، فأصبحت العلوم الاجتماعية لا تدرس الإنسان ذاته بل مجموعة أقسام متناثرة ومنفصلة لا يمكن أن تشكل وحدة واحدة، وهكذا حدد "بول لازرسفيلد" معالم التحول إلى علم الاجتماع في الميل لدراسة الأوضاع والمشكلات الاجتماعية المتكررة ودراسة الظواهر الاجتماعية الآنية بدلاً من التاريخية.
    وعليه يمكن القول أن العلوم الاجتماعية ظهرت كمفهوم وتحددت أهدافها وتصنيفاتها كتعبير عن المشروع الحداثي فارتبطت العلوم الاجتماعية بالقوة والدولة، وأصبح دور العلماء والخبراء يشبه دور رجال الدين في المجتمعات الأوربية في العصور الوسطى في تبرير السلطة والمحافظة على واحديتها، ومن هنا كانت دعوة "فييرآبند" لفصل العلم عن الدولة.
    وتبدو هذه الرؤية لها وجاهتها بمراجعة تقلب النماذج المعرفية في علم السياسة ما بين علم الدولة وعلم السلطة ثم القوة ثم استعادة الدولة كمحور هذا العلم وهي تحولات لم تعبر عن مقتضيات تطور العلم بقدر ما عبرت عن تغير موازين القوى.
    خضع المشروع الحداثي لإعادة تقويم مستمرة مع الإحساس بزيف شعاراته التي يرفعها بإعلاء قيمة الإنسان والكرامة الإنسانية في حين أنه لم يكن إلا مشروعاً للسيطرة والهيمنة وضبط حركة الإنسان من خلال حصر قدرات الفرد الفكرية والحياتية في قنوات مضبوطة وبطرق متعددة وقولبة الرغبات الإنسانية وإخضاعها لمتطلبات الربح والسوق وخلق رغبات دائمة التغير والتحول بواسطة الدعاية والإعلان الذي اتخذ في مجتمع الوفرة شكلاً مهيمناً ومن ثم سحق الإنسان في النظم الشمولية النازية والفاشية كنتيجة طبيعية لمقولات العقلانية و الشادة.
    ومن هنا تأتي أهمية إسهام حنا أرنت الحركي و النظري حيث لم تعر النظم الشمولية وحسب بل سعت لاجتثاث بذور تكونها في الوعي والمعرفة من خلال تأكيدها طبيعة وخبرة الحياة السياسية نفسها وليس مجرد تشييد تنظير منطقي تحليلي بحت كمحور للنظرية السياسية، وهي بذلك استمرار لتراث الفهم في العلوم الإنسانية والتي تأخذ برؤية "كيرجارد" بأن البحث عن الحقيقة إنما هو عمل "تقريبي لا ينتهي" وأن الفهم التاريخي، كالفهم العقلاني، أمرٌ حدسي في الأساس. فكما أن الحُجَج المنطقية أو الاستطرادية إنما هي مجرد وسائل مؤدية إلى حدس عقلاني، كذلك فإن الأدلة والبراهين إنما هي مجرد وسائل مؤدية إلى حدس تاريخي. ففي الفهم العقلاني، لدى الوصول إلى الحدس، تبدو الأسباب والحجج طرائق وأساليب يمكن إبدالها لبلوغ هذا الحدس. وحين لا يتم بلوغه تبقى هذه الأسباب والحجج مجرد معالم تشير إلى حدس يستحيل (على الأقل موقتاً) بلوغه.
    فعلى خلاف العلم التجريبي الذي يحاول أن يفصل الموضوع عن الذات العارفة ويدرس الظواهر من حيث اقترانها بأسباب حدوثها، ويخلص إلى تحديد العلاقة المبنية على أساس العلة والمعلول، ويستمد شرعية نتائجه غالبا من التجربة والاختبار فإن"كيرجارد" و "هيدجر" يدرسان الظواهر كما هي عليه في الزمان والمكان دون فصل الذات عن الموضوع أو إقصاء الأحوال الشعورية النفسية عن موضوع المعرفة .حيث يجري وصف الظاهرة وصفا مستقلا عن الوسائط المادية التجريبية ،اعتماداً على تحليل الظاهرة تحليلا عقليا، مبنيا علي القصدية في الشعور، مرتكزا علي التتالي في عملية التحليل، ومتحددا بدور الشعور المحض أو الخالص [PHINOMINOLOGI DE LESPRIT ].
    فالفهم كهدف للعلم كما ترى "أرنت" يقف في مواجهة النمط العلمي للفكر السياسي الذي ساد في عصرنا فالسياسة عند أرنت "واحدة من المجالات الهامة للوجود الإنساني من خلاله وفيه نعطي لغربتنا الوجودية وغربة الآخرين الذين يشتركون معنا فيها معنى "ومن ثم تقدم "أرنت دعوة لحس متميز بالسياسة في مقابل اختزالها لمجرد منهج تكنوقراطي
    وإذا كان الفهم عند "أرنت" يعني نشاطاً ينطوي على التغير الدائم والتنوع لا نهاية له يتم من خلاله التوفيق بين الذوات الإنسانية والواقع بمعنى أن تجد لها بيتا في هذا العالم إذا كان الأمر كذلك فإن فهم الشمولية لا يعني استعداداً للتصالح ولا الصفح بل نوع من فهم الذات فالشمولية وإن اتسمت بأصالة مرعبة كتدمير غير مسبوق لكل التقاليد فإنها لم تنزل من القمر بل نشأت عن عناصر تمت بلورتها في العالم غير الشمولي ومن هنا لابد لمحاربة الشمولية من الفهم فقد نعرف لكن لا نفهم ما نحاربه وقد نعرف لكن لانفهم ما نحارب من أجله.
    إن الفهم يسبق ويتبع المعرفة فالفهم أساس لأي معرفة وفي الوقت نفسه فإن الفهم الحق لابد أن يتجاوز مجرد المعرفة ليجعل للمعرفة معنى وهو ما يقصر عنه مفهوم العلم الجامد والتحليل السياسي السياسي لن يثبت أو ينفي ماً يمكن اعتباره كطبيعة أو جوهر للحكومات الاستبدادية أو الطغيانية أو الجمهورية فهذه الطبيعة الخاصة يأخذها الفهم الأولي كمعطى يؤسس عليها العلم نفسه في حين إن الفهم الحق يرجع دوماً إلى الأحكام والتحيزات التي تلحق وترشد البحث العلمي وكل ما يمكن أن يؤديه العلم أن ينور - لا أن يثبت أو ينفي - الفهم الأولي الذي انطلق منه فإذا افتقد العالم هذا الدليل وتصرف كخبير فني محتقراً الفهم العامي الذي انطلق منه فسرعان ما يفتقد الخيط الناظم الذي يرشده في متاهة نتئج بحثه
    إن الأزمة العالمية لاترتبط بالشمولية وحدها بل بالموقف الحديث الذي نحتاج فيه لتجاوز الفهم الأولي والمدخل العلمي الصارم معاً حيث فقدنا أدوات الفهم ومن ثم اتسمنا بالغباء بالمعنى الذي وصفه كانت فبحثنا عن المعنى يحثه ويحبطه في وقت واحد فقداننا قدرتنا على توليد المعنى.
    إن جوهر الأزمة الحضارية هو تزايد غياب المعنى مترافقاً مع فقدان الحس المشترك منذ بداية القرن العشرين في غباء متزايد فكما تقول أرنت " لا نعلم حضارة قبلنا يكيف الناس فيها احتياجاتهم للسلع والأشياء كما تنشر الإعلانات ولم نعرف في أي قرن مضى أن العلاج الناجع يرتبط بالدفع السخي لمن يقوم بالعلاج" إن هذا التدهور الخاصة انسحب على كل مجالات الحياة العادية، وترى "أرنت" أنه من منظور الحس المشترك لم نكن بحاجة للشمولية لإظهار أننا نعيش في عالم مقلوب رأساً على عقب وأصبح الغباء شائعاً كأنه الحس المشترك وترى "أرنت" أن ذلك ليس هذا مجرد عرض للمجتمع الجماهيري بل ما جرى هو انتشار نزعة المنطق الشكلاني الذي ينطوي على التحول الشمولي لتحريف الفكرة إلى مقدمة منطقية أو جملة واضحة بذاتها يمكن استدلال كل شئ منها في اتساق منطقي داخلي يفصل الصحة عن الملاءمة فيصبح مثلاً 2+2= 4 أمر هي صحيح بالنسبة للرب والعبد معاً بغض النظر عن الشرط الوجودي والاجتماعي.
    إن الأنظمة الشمولية أياً كان أمد سلطانها، والقادة الشموليين، طالما بقوا على قيد الحياة، فإنهم يحتاجون للسلطة وإن هؤلاء "يبسطون سلطتهم مستندين إلى الجماهير" حتى النهاية. وهكذا بلغ هتلر السلطة بصورة شرعية ووفق قاعدة الأغلبية الحاكمة، وما كان له ولستالين أن يستمسكا بزمام سلطتهما على شعوب عريضة بأسرها، وأن يصمدا في وجه أزمات داخلية وخارجية عديدة، لو لم يكونا حائزين على رضا الجماهير وثقتها.
    غالباً ما تسعى الحركات الشمولية إلى تنظيم الجماهير وتفلح في ذلك لكن كيف ظهرت هذه الجماهير وكيف أصبحت كذلك ؟
    إن عبارة "الجماهير" تنطبق على الناس، الذين عجزوا، لسبب أعدادهم المحضة، أو لسبب اللامبالاة، أم للسببين المذكورين معاً عن الانخراط في أي من التنظيمات القائمة على الصالح المشترك ـ أكانت أحزابا سياسية، أم مجالس بلدية، أو تنظيمات مهنية أو نقابية. توجد الجماهير، وجوداً بالقوة، في كل البلدان، وتشكل غالبية الشرائح العريضة من الناس الحياديين، واللامبالين سياسياً، والذين نادراً ما يصوتون ولا ينتسبون إلى أي حزب.
    ولئن صح أن الحريات الديمقراطية قامت على أساس من المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، إلا أنها لا تكسب معناها ووظيفتها العضوية إلا حالما ينتمي المواطنون إلى جماعات تمثلهم، أو تشكل في ذاتها هرمية اجتماعية وسياسية
    لكن اللامبالاة إزاء الشؤون العامة، والحياد في المجال السياسي، ليسا شرطين كافيين لنمو الحركات التوتاليتارية فقد كان انهيار منظومة الطبقات، مؤاتياً لانطلاقة النازية لقد كان من شأن انهيار نظام الطبقات أن أفضى بصورة آلية إلى انهيار نظام الأحزاب نفسه، ولما كانت هذه الأحزاب قائمة على المصالح، لم يسعها أن تمثل مصالح طبقة من الطبقات
    وسط هذا المناخ، وخلال انهيار مجتمع الطبقات، أخذت تتنامى نفسية "رجل الجمهور" الأوروبي. ولئن أصاب نفس المصير جمهوراً من الأفراد، في تماثلية رتيبة ومجردة، فإن ذلك لم يحل دون أن يطلق هؤلاء على أنفسهم أوصاف الفشل الفردي، كما لم يحل دون إطلاق أحكام الظلم المخصوص على العالم. مع ذلك، فإن هذه المرارة الشخصية ما كانت لتشكل رابطاً مشتركاً بين أعداد الناس، رغم حدوثها في حالاتٍ فردية كثيرة ومعزولة: ورغم ميل هذه المرارة إلى محو الاختلافات الفردية، لم تقم على أية مصلحة مشتركة، أكانت اقتصادية، أم اجتماعية، أو سياسية. وبالتالي، فإن الانطواء على النفس بات متلازماً مع إضعافٍ إرادي في غريزة البقاء. وقد تجلى ذلك في عدم المبالاة، بمعنى ألا يكون للمرء قيمة في نظر نفسه، وفي الشعور بإمكان أن يكون المرء مضحى به، على أن هذين لم يكونا تعبيراً عن مثالية فردية، إنما دلا على ظاهرة جماهيرية.
    ومن ناحية أخرى لطالما كانت الحركات الشمولية أحوج إلى ظروفٍ خاصة تكون فيها الجماهير مفتتة ومشظاة، لذلك تتشكل الحركات الشمولية من تنظيماتٍ جماهيرية تضم إليها أفراداً مبعثرين ومعزولين فكان على الشمولية التخلص نهائياً من حيادية لعبة الشطرنج"، أي أن تتخلص من أي نشاطٍ ذي وجود مستقل. أما الذين ما برحوا يهوون "لعبة الشطرنج لذاتها"، والذين قارنهم مصفوهم مع "محبي الفن للفن" مقارنة محقةً، فلا يعدون كونهم عناصر لا تزال تبدي مقاومة إزاء مجتمع قائم على الجماهير، والذي يشكل تجانسه التام أحد شروط الشمولية الأساسية.
    إن تفسير الشمولية على هذا النحو عنى لأرنت الاهتمام بالبعد الحضاري وبعد الهوية بعد إخفاق المشروع التحديثي لاستعادة الحس المشترك الذي يفترض وجود عالم مشترك يمكن أن نعيش فيه معاً نظراً لامتلاكنا حساً واحدا.